اقتباس
يا كرام: وطالما كان الطموح ممكناً فمرتبة الجيد غير كافية؛ فلا تقعد بك الهمة في الكفاف، مع العلم أنه لا تعارض أبدا بين الطموح والقناعة؛ لأن القناعة ينبغي أن تقف عند حدود الممكن من الطموح..
الحمدلله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الطموح محمود شرعا وقانونا وطلب الكمال البشري أمر مرغوب فطرة وعقلا ، يتشرف له كل عالي الهمة قوي العزم وثاب العزيمة متوقد الفكر متجدد الإرادة. وفي شريعة الله دعوة إلى هذا؛ إذ الإسلام لا يرضى لأتباعه بالدون ولا يحبذ لهم الروتين والركود؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"(روى البخاري (2790))
وفي حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال عيله الصلاة والسلام: "أَعجِزتُم أن تكونوا مثلَ عجوزِ بني إسرائيلَ؟ فقال أصحابُه: يا رسولَ اللهِ وما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: إنَّ موسى لما سار ببني إسرائيلَ من مصرَ، ضَلُّوا الطريقَ، فقال: ما هذا؟ فقال علماؤهم نحن نُحَدِّثُك: إنَّ يوسفَ لما حضره الموتُ أخذ علينا مَوثِقًا من اللهِ أن لا نخرُجَ من مصرَ حتى ننقِل عظامَه معنا، قال: فمن يعلمْ موضعَ قبرَه؟ قالوا ما ندري أين قبرُ يوسفَ إلا عجوزًا من بني إسرائيلَ، فبعث إليها، فأتَتْه، فقال دُلُّوني على قبرِ يوسفَ، قالت لا والله لا أفعلُ حتى تُعطِيَني حُكمي، قال: وما حُكمُكِ؟ قالت أكونُ معك في الجنَّةِ، فكره أن يُعطِيَها ذلك، فأوحى اللهُ إليه أن أَعطِها حكمَها، فانطلقَتْ بهم إلى بُحَيرةٍ، موضعَ مُستَنْقَعِ ماءٍ، فقالت: انضِبوا هذا الماءَ، فأَنضبوا، قالت احفِروا واستخرِجوا عظامَ يوسفَ، فلما أقلُّوها إلى الأرضِ، إذ الطريقُ مثلُ ضوءِ النَّهارِ"(السلسلة الصحيحة ٣١٣ إسناده صحيح على شرط مسلم).
إن هذا الحديث وغيره كان بمثابة شعلة أوقدت همم أصحابه عليه الصلاة والسلام ودفعة قوية رفعت معنويات أتباعه وساقتهم للتضحية والعطاء حتى جعلهم يبذلون الأرواح والمهج والوقت والمال للوصول لسلعة الله الغالية، لم يمنعهم في سبيل ذلك خوف الموت ولا ما هو دونه؛ فهذا أبو ربيعة بن كعب الأسلمي -رضي الله عنه- قال: كنت أبيتُ مع رسولِ اللهِ -ﷺ- فأتيتُه بوَضوئِه وحاجتِه؛ فقال لي "سلْ "فقلت: أسألُك مرافقتَك في الجنةِ قال: "أو غيرَ ذلك؟" قلت: هو ذاك قال: " فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجودِ"(مسلم ٤٨٩).
الله أكبر ما أرقى همم ذاك الطراز! وما أعلى سقف طموح ذلكم الجيل! همم سماوية علوية روحية ملائكية، الفرصة سانحة لأن يسأل النبي الكريم من خير الدنيا أو على الأقل من خير الدنيا والآخرة؛ لكنه أدرك أن الآخرة خير وأبقى، أليس نبيه قد زهد فيها قبله؟!.
وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل أصحابه يوماً: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟، قال أبو بكر: أنا، قال: من اتبع منكم اليوم جنازة؟، قال أبوبكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبوبكر: أنا، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"(أبوهريرة مسلم ١٠٢٨).
وأما عمرو بن الجموح -رضي الله عنه- فعلى الرَغْم مِنْ أنَّه كان من أهل الأعذار فقد كان من الذين يجوز لهم التخلف عن القتال لعرجته لقول الله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ)[الفتح: 17]؛ إلا أنه قبل بداية القتال في هذه الغزوة ذهب الى النبي -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه الإذن في الخروج للجهاد في سبيل الله، وقال له: "يا رسول الله إن بنىَّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد، ووالله إني لأرجو أن أخطر بعرجتي هذه في الجنة"(الألباني فقه السيرة ٢٦٢ إسناده حسن).
وأمام إصراره الشديد وهمته العالية أذِن له النبي -صلى الله عليه وسلم-خروج للجهاد والقتال، فدعا عمرو --رضي الله عنه- ربه قائلا: "اللهم ارزقني الشهادة، ولا تردني الى أهلي".
وفي غزوة بدر بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرتب أصحابه ويشحذ هممهم قائلا: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، فقام عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: "نعم" قال: بخٍ بخٍ"(مسلم ١٩٠١).
وفي معركة مؤتة بين المسلمين والروم وقبل خوض معركتها بكى عبد الله بن رواحة؛ فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)[مريم: ٧١]، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون: صحبكم الله بالسلامة، ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين غانمين، فأنشد رداً على وداعهم:
لكننـي أسـأل الرحمن مغفــرة *** وضربـة ذات فرع تقذف الزبـدا
أو طعنـة بيـدي حـران مجـهزة *** بحربة تنفذ الأحشـاء والكبـدا
حتى يقـال إذا مروا على جدثي *** أرشـده الله مـن غـاز وقد رشـدا
وعلى هذا المنوال وفي هذا الطريق توارث جيل التابعين هذا الخلق وتناقلوا هذا السلوك؛ فهذا التابعي الجليل أبو مسلم الخولاني يقول: "أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً".
ويقولُ الحسنُ -رحمه الله-: "واللهِ لقد أدركتُ أقوامًا كانت الدنيا أهونَ عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يُبالون أشرقَتِ الدنيا أم غربت، ذهبَتْ إلى ذا، أو ذهبَتْ إلى ذا!"، وقال أيضًا: "مَن نافسَك في دينِك، فنافِسْه، ومن نافسَك في دنياك، فألقِها في نحره".
الطموح -يا كرام- ليس له حد أو شاطئ ما دام يضبطه أمران:
الضابط الأول أن يكون ضمن دائرة المباح والمشروع دلالة أو مسكوتا عنه، ولا يدخل في الممنوع إصالة أو ضمنا وإلا صار مذموما.
الثاني أن يكون وفق الإمكان والقدرة وإلا أصبح أشبه بالخيال أو كالمحال كونه غير متحقق ولا ممكن الحدوث؛ وبالتالي كل جهد ووقت ومال يبذل في غير الممكن والمحال فهو سرف ومضيعة.
وإذا كان الشرع والعقل دعيا إلى الطموح وفتحا المجال أمامه؛ فإن في المقابل قد نهى عن كل جهد أو وقت لا يحقق مصلحة دينية أو يثمر مصلحة دنيوية؛ قال ابن مسعود : "إني لأكره أن أرى الرجل فارغا، لا في عمل الدنيا، ولا في عمل الآخرة".
والطموح صور ومراتب إلا أن الطموح في مجال الدين وأمر الآخرة من أعظم مراتب الطموح وأجلها وأشرفها للعبد في الدارين؛ لأن التنافس فيها مقصود شرعا والسباق فيها هو الغاية وجودا وهو الهدف خلقا قال الله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 2]، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)[المطففين: 26].
وأما الطموح فيما سوى ذلك فمباح محمود من حيث الجملة شريطة ألا يكون فيه ملهاة عن الطموح الشرعي والتنافس الأخروي أو يتعارض معه أو يصرف عنه؛ لأن هذا يفضي إلى إيثار الدنيا على الأخرى والفاني على الباقي؛ والنتيجة الزهد عن الآخرة والسعي للدنيا.
الطموح -يا فضلاء- ديدن الصالحين وسمة الصديقين وأمنية الربانيين، ومن أعظم طموحهم وأمنياتهم رجاؤهم ربهم ودعواتهم له أن يكونوا أئمة خير ومنارات هدى ومفاتيح خير وإسعاد للمجتمعات، وفي قوله تعالى من سورة الفرقان، (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) شهادة حق وخبر صدق عنهم في ذلك؛ حيث أخبر ربنا في هذه الآية الكريمة عن طائفة من الناس ذوي همة عالية تناطح السحاب وتعانق الجبال.
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "وأما قول ابن عمر -رضي الله عنه-: "اللهم اجعلني من أئمة المتقين" فهو عندي مأخوذ من قول الله -عز وجل-: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).
إن هذه الصفة الجميلة صفة الإمامة والاقتداء من جملة صفات الرحمن التي سردتها أواخر آيات سورة الفرقان، ولم يكن ذكرها في آخر صفاتهم ليسرها أو لدنوها بل لتكون أقرب للنتيجة النفيسة وألصق للجائزة الثمينة ألا وهي، (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا)[الفرقان: 75].
يا كرام: الإنسان بطبعه كادح وهمام وحارث صاحب سلوك وخلق، وهذا السلوك إما سلوك خير أو سلوك شر، وهو بهذا إما أن يكون قدوة في الخير فيكون زرعه الحسن ثمرا يجنيه العباد في حياته وبعد مماته، أو قدوة في الشر فيكون زرعه القبيح نتاجا خبيثا يجنيه الناس في حياته وبعد مماته.
وما أجمل أن يكون طموح المسلم أن يحفظ قرآن ربه، وحافظ القرآن أن يكون قارئاً متقناً، وطالب العلم أن يكون مجتهداً مفتياً، وصاحب الكفاف أن يكون غنياً في الخير باذلاً باسطاً، والجندي أن يكون قائداً محنكاً ملهماً، والداعية أن يكون خطيباً مفوهاً مؤثراً؛ وكل هذه وغيرها ممكنة لصاحب الهمة الطموح. قال ابن القيم: "لا بد للسالك من همة تسيره وترقيه وعلم يبصره ويهديه"، وقال ابن نباتة -رحمه الله-:
حاول جسيمات الأمور ولا تقل *** إن المحامــد والعلى أرزاق
وارغب بنفسك أن تكون مقصرا *** عن غاية في الطلاب سباق
وطالما كان الطموح ممكناً فمرتبة الجيد غير كافية؛ فلا تقعد بك الهمة في الكفاف، مع العلم أنه لا تعارض أبدا بين الطموح والقناعة؛ لأن القناعة ينبغي أن تقف عند حدود الممكن من الطموح.
ومهما شاخت جوارح الطموح وضعف جسمه إلا أن مواهبه متجددة ومهاراته متفتحة وعقله نشط وأفكاره تنمو؛ يقول عبد الوهاب عزام: الفكر لا يحد، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن، فإن لم تشغلها بالعظائم، اشتغلت بالصغائر، وإن لم تعملها في الخير عملت في الشر؛ فعلمها التحليق تكره الإسفاف، وعرفها العز تنفر من الذل".
وقال آخر:
فالعيشُ حبٌ لما استعصَتْ مسالكهُ *** تجاربُ المرءِ تدميهِ وتعليهِ
وإذا كــانــت الــنفــوس كـبــارا *** تعـــبت في مرادهــا الأجـسام.
وإن كانت قدماك لا تفارق التراب فلا ينبغي أن تفارق عيناك السماء والنجوم؛ واجعل وجهتك القمر فإن قعدت بك الإمكانيات وألقت بك خارج كواكبها وتهت عنها فعلى الأقل ستكون بين النجوم؛ قال الخليفة عمر الفاروق -رضي الله عنه-: "لا تصغرنّ همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"، ويقول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم
لقد وصف الله -تعالى- إبراهيم -عليه السلام-، وهو فردٌ بأنه أمَّة؛ قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل: 120].
ولمَّا طلب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- من الصحابة أن يتمنَّوا فتمنَّوا المال وأشياء أخرى؛ ليجعلوها في سبيل الله قال هو: "أمَّا أنا فأتمنَّى لو أن لي بيتًا من أمثال أبي عبيدة بن الجرَّاح"، وكفى بها شهادة من أمير المؤمنين في أهميَّة الرجل الكامل والمؤمن القوي ليتولَّى القيادة.
فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم *** وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها *** وتصغر في عين العظيم العظائم
ومثله كان حفيده قال رجاء بن حيوة (وزير عمر): كنت مع عمر بن عبد العزيز لما كان والياً على المدينة فأرسلني لأشتري له ثوبًا: فاشتريته له بخمسمائة درهم. فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه رخيص الثمن. فلما صار خليفة للمسلمين بعثي لأشتري له ثوبا فاشتريته له بخمسة دراهم, فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه غالي الثمن. قال رجاء: فلما سمعت كلامه بكيت. فقال لي عمر: ما يبكيك يا رجاء؟ قلت: تذكرت ثوبك قبل سنوات وما قلت عنه. فكشف عمر لرجاء ابن حيوة سر هذا الموقف, وقال يا رجاء, إنّ لي نفسا تواقة, وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه؛ تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها. ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة. فأرجو أن أكون من أهلها.
أيها الغالي: الطموح شجرة بذرها الجد والهمة العالية، وسقيها الإخلاص واليقين الراسخ، لتجني ثمرتها صلاحا وسعادة عامرة؛ تنتفع بها نفسك أولا ومجتمعك ثانيا ما بقت الدنيا.
الراغبون الطامحون لا يرضون بغير الجنة وطنا ولا بغير محمد جارا ومهما عاشوا السعادة الدنيوية زوجات حسينات وقصورا عاليات وأبراج مشيدات إلا إنهم يرون أن حلمهم الكبير يتحقق بأول قدم تطأ الجنة.
اللهم إنا نسألك زيادة في الإيمان وبركة في العمر وصحة في الجسد وسعة في الرزق وتوبة قبل الموت وشهادة عند الموت ومغفرة بعد الموت وعفواً عند الحساب وأماناً من العذاب ونصيباً من الجنة وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه والتابعين..
التعليقات