عناصر الخطبة
1/ منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومكانته 2/ بعض أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفاته 3/ محبة السلف للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمهم له وبعض القصص في ذلك 4/ جفاء بعض الخلف للنبي -صلى الله عليه وسلم- 5/ حقيقة محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصفات وعلامات المحب لهاهداف الخطبة
اقتباس
إن المحبَ له حقاً هو من يتبع هديه، ويطيع أمره، ويترك نهيه، ويصدق خبره. محب النبي -صلى الله عليه وسلم- ترى صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- على خُلقه وثوبه وهديه ودلّه، وباطنه وظاهره. ومن أحب الناس له أحرصهم على سنته، من إذا سمع بسنة فعلها, وإذا سمع بحديث أذعن له ولم يخالفه, ولم يرده بهواه، وهذا هو المحب فهو...
الخطبة الأولى:
محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى الخلق شأناً، وأرفعهم قدراً، وأكملهم ديناً، وأحسنهم خلقاً، وأزكاهم نفساً, رجل له على كل الخلق من أمته حقاً, فهو من دلهم على الخير، وهو من أوصل الدعوة لهم، فكم تحمل في سبيل ذلك من أذى؟ وكم عانى وعاين من بلاء؟ كل هذا ليصل الدين إلى الثقلين, قام بأعباء الدعوة، واحتمل طرده من بلده وأذيته في بدنه، وحين خُيِّر في عذاب قومه، قال برحمة وشفقة: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً".
ومنذ جاءه نور الحق وهو ساعٍ للدعوة, جاهدٌ للنصح للأمة, قرأ يوماً قول عيسى: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) [المائدة: 118]، وقول إبراهيم: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم: 36] فجلس يبكي, فأرسل الله جبريل إليه، وقال: قل له: ما يبكيك؟ فجاء جبريل وقال له: إن ربك يقول: ما يبكيك؟ فقال: "أمتي أمتي" فقال الله قل: يا محمد إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك".
وحين أعطاه الله ثلاث دعوات مستجابة لم يدع لنفسه وولده, بل قال: "اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي" قال: "واختبأت الثالثة ليوم يرغب فيه الخلائق إلى ربهم"، وهو من قال: "لِكُلِّ نَبِىٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِىٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِى شَفَاعَةً لأُمَّتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وفي يوم القيامة يومَ تعظم الخطوب، وتشتد الكروب، يلجأ الناس للأنبياء طالبين الشفاعة منهم عند رب الأرض والسماء في تعجيل القضاء, فيعتذر كل نبي ورسول, ويقول محمد -صلى الله عليه وسلم-: أنا لها، أنا لها, فينطلق إلى ربه ويخر ساجداً تحت عرشه, ويطيل السجود والثناء والحمد والدعاء حتى يقول الله: يا محمد ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع, فيكون له مطلبان: تعجيلَ القضاء, وشفاعتَه لأمته, فلم ينس أمته حتى في تلك الأثناء, فيلبي الله مطلبه، ويعجل القضاء, ويقول له في شأن أمته: "يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ".
اللهم صل على محمد، كم كان حريصاً على هداية أمته؟ كم كان بالمؤمنين رحيماً رؤوفاً؟ ربما دخل الصلاة ليطيلها فيسمع بكاء الصبي فيقطعها لئلا يشق على أمته, ترك المداومة على سنة الضحى وقيام رمضان لئلا تفرض على الناس فيشقَ عليهم, ولأنه يعزُ عليه أن يشق على أمته عدل عن الأمر ببعض الأمور لئلا يشق على الناس, وكم مرة قال لأصحابه: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم" بكذا وكذا, كان يرفق بهم، ويأمر من ولي بعده الإمامة العظمى وإمامة الصلاة أن يرفق بهم.
لم يره الناس غاضباً أشد من يومٍ جاء إليه رجل من الناس، وقال له: "إنِّى لأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا؟" قال الراوي: "فَمَا رَأَيْتُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِى مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ".
ذلكم هو النبي -صلى الله عليه وسلم-, أرفق الناس بالضعفاء، وأعظمهم رحمة بالمساكين والبؤساء، شملت رحمته وعطفه الإنسانَ والحيوان, ذلكم هو النبي, أعف الناس لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأصدقهم لهجة, أعدلهم في الحكومة، وأعظمهم إنصافًا في الخصومة, يَقِيدُ من نفسه, ويقضي لخصمه، يقيم الحدود على أقرب الناس، ويقسم بالذي نفسه بيده: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ذلكم هو النبي فكم له علينا من حق؟ وكم له علينا من يد؟ ويكفي في ذلك أن نور الرسالة ودعوة الإسلام جاءت من طريقه, فما هو قدره في قلوبنا؟ وهل أدينا حقوقه تجاهنا؟ إن ذلكم سؤال ينبغي أن نعتني به, ولن يتم إيمان امرئ إلا حين يؤدي حق نبيه -صلى الله عليه وسلم- عليه.
إن حقه علينا: أن نحبه, ويكونَ حبُّنا له أغلى من حب كل مخلوق ولو كان النفسَ والأهل, وفي مقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين".
وهكذا كان الصحابة الكرام؛ يؤتى بزيد بن الدثنة لِيُقْتَلَ فيقولُ له أبو سفيان -والسيف على رأسه ومحمد -صلى الله عليه وسلم- لن يسمعه-: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا مكانك الآن وأنك في أهلك؟ فانتفض زيد وقال: والله ما أحب أن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت في الناس أحدًا يحب أحدًا حبَ أصحابِ محمدٍ محمدًا".
والمحبون له صلى الله عليه وسلم يعظمون حديثه ويقفون عند مقوله؛ لعلمهم أنها من المُرسَلِ من ربه, تقرأ على الواحد منهم الأحاديث فيوجل قلبه، وربما مرت اليوم على المرء فما ألقى لها بالاً, قال مصعب بن عبد الله: "كان مالكٌ إذا ذَكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتغيرُ لونُه، وينحني حتى يصعُب ذلك على جُلسائِه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو رأيتم ما رأيت؛ لما أنكرتم علي ما ترون، لقد كنت أرى محمد بن المنكدر -وكان سيدَ القراء- لا نكاد نسأله عن حديثٍ أبداً إلا ويبكي حتى نرحمه".
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد، وكان كثيرَ الدُعابة والتبسم؛ فإذا ذُكِر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- اصفّر لونُه، وما رأيته يُحَدِّثُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة.
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذُكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.
ولقد رأيت الزهري، وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذُكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم وكان من المتعبدين المجتهدين؛ فإذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه.
فهذه حال الكبار من أهل العلم والفضل حين يمر عليهم حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: ولم يكن تعظيمهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- لمجرد سماع حديثه، بل كانوا يعملون بكلامه, فإذا جاء في الأمر منه حديث فليس لأحدٍ كلامٌ بعد كلامه؛ لقد غضب ابن عمر على ولده حين حدّث ابنُ عمرَ بحديث رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" فقال ابنه بلال -بدافع الغيرة-: والله لنمنعهن! فسبّه ابن عمر سبّاً شديداً ما سُمع مثله قط, كيف يعارض كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-.
وأما ابن مسعود فإنه حين حدّث أحدَ أصحابه بالنهي عن الخذف بالحصى عاد الرجل مرة أخرى فخذف، فقال: "أُحَدِّثُك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنه ثم تخذف! لا أكلمك أبداً".
وأما ابن جبير فإنه حين حدث بالحديث رفع رجل بينه وبين سعيد قَرابةٌ حصاةً من الأرض فقال: هذه! وما يكون هذه, فقال سعيد: "ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم تَهاون به! لا أكلمك أبداً" فلم يكن في الحق مجاملة, وما دام النص قد جاء من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فليس لأحدٍ بعده كلام!
كذا كان السلف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عندهم قدرا, ولحديثه هيبة, حتى خلف خلوف إذا قيل لأحدهم: قال صلى الله عليه وسلم، قال قائلهم: دعونا من ذلك، ما دام ليس في القرآن!
إذا قيل لأحدهم: هذا قاله صلى الله عليه وسلم، قال: لكنه لا يدخل العقل!
وإذا قيل لهم: في الحديث كذا, قال قائلهم: لكن هذا لا يستقيم في زمن القرن الحادي والعشرين!
وما علم هذا أنه كل ما تباعد الناس عن عصر النبوة كلما بدا فيهم النقص.
فهل من عودة إلى صِدق المحبة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإلى قدرِه قدرَه, وإلى أن يكون في النفس أحب من الأهل والولد والنفس؟
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
إن محبة النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر يتم به الدين, وهي علامة صدق محبة رب العالمين: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي) [آل عمران: 31] ليس الأمر بالدعاوى فالجميع يقول: إنه يحب نبيه! وحين تأتي المحكّات يتبين الصادق من الدَعي, والشَجيُ من الخَلي، فيا ترى من هو المحب للنبي -صلى الله عليه وسلم- حقاً؟
إن المحبَ له حقاً هو من يتبع هديه، ويطيع أمره، ويترك نهيه، ويصدق خبره.
محب النبي -صلى الله عليه وسلم- ترى صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- على خُلقه وثوبه وهديه ودلّه، وباطنه وظاهره.
ومن أحب الناس له أحرصهم على سنته، من إذا سمع بسنة فعلها, وإذا سمع بحديث أذعن له ولم يخالفه, ولم يرده بهواه، وهذا هو المحب فهو مطيع لمن يحبه.
والمحب له حقاً هو من ارتسم في حبه له ما كان عليه أصحابه, فأنت راءٍ من الناس من يحتفل بمولده بحجّة حُبِّه للنبي -صلى الله عليه وسلم-, ولعمري فلو كان ذلك خيراً لسبقنا إليه هو وكبارُ أصحابه والتابعون بعدهم, فكيف يترك كل هؤلاء الاحتفال بمولده ثم يكون فعله قربةً وتركه تهمة؟
والعجيب: أن أمر الاحتفال بمولده لم يُعرف إلا عن شرّ الفرق من الباطنية، وهم بنو عبيدٍ القداح الذين تسموا بالفاطميين، وأظهروا هذه البدعة، وتبعهم عليها فئام من المسلمين, ظنوا ذلك وسيلة للتعبير عن حبه, وقُربةً ووَسيلة إلى نيل شفاعته وقُربِه.
وأهل العلم يقررون: أن الاحتفال بمولده بدعة لا تجوز, وخيرُ الهدي هديه.
المحِبُّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- حقاً -أيها الكرام-: هو من لم يَغْلُ فيه ولم يجفُ في حقه, فليس بمحبٍ له من ظن أنه ينفع بعد موته أو من يتوجه له بالسؤال والدعاء وهو في قبره, أو من يحلف ويقسم به ويدعُ الحَلِفَ بربّه, أو من ظنّ أنه يعلم شيئاً من الغيب, أو يُفَرِّجُ الكرب, وذاك غلوٌ هو لا يرضاه, وفي ذات الوقت لا يجفو ويقصر في حقه.
المحبّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو من يغضب إذا انتُقِصَ وسُبّ, ومن يُدافع عن عِرضه بكل ما يستطيعه, ولسان حاله:
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم فداء
والمحبّ له حقاً هو من إذا ذكر عنده صلى وسلم عليه, ومن يكون الصلاة والسلام عليه أنيسه في فراغه, وذاك أمر يكفى به المرء الهموم, وتغفر الذنوب, وفي مقوله صلى الله عليه وسلم: "الْبَخِيلُ الَّذِي مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ".
فاللهم إنا نعوذ بك من البخل بكل صوره، واجعل صلاتنا على نبيك على ألسنتنا وقلوبنا.
اللهم صل وسلم على محمد، واحشرنا في زمرته، وأنلنا شفاعته، وأوردنا حوضه، واجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة.
التعليقات