عناصر الخطبة
1/حقيقة التوسل 2/أنواع التوسل وحكم كل منهمااقتباس
القسم الثاني من أقسام التوسل: التوسل الممنوع، وهو التَّوسُّلُ إلى اللهِ بما لم يَثبتْ في الشرعِ أنَّه وسيلةٌ، ومقتضاهُ: أن كلَّ ما لم يثبتْ في الشريعةِ أنه وسيلةٌ إلى الله -تعالى-، فهو ممنوعٌ مُحرَّمٌ، وهو أنواعٌ بعضُها أشدُّ خطورةً من بعضٍ، ومنها...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما بعدُ:
فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: «حقيقة التوسل، وأقسامه»، واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أحسنَهُ، أولئك الذين هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أولو الألباب.
لقد عرَّف العلماء التوسل بقولهم: هو التَّوصلُ إلى رضوانِ اللهِ، والجنةِ بفعلِ ما شرَعه، وتركِ ما نَهى عنه، وقد وردتْ لفظةُ «الوسيلة» في القرآنِ الكريمِ في موطنينِ:
الأَولُ: قَولُهُ -تَعَالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 35]، والمرادُ بالوسيلةِ في هذه الآيةِ: القُربةُ إلى اللهِ بالعملِ بما يُرضيهِ[1].
الثاني: قَولُهُ -تَعَالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)[الإسراء: 57]؛ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: «نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَالْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ»[2].
وهذا صريحٌ في أنَّ المرادَ بالوسيلةِ ما يُتقربُ بهِ إلى الله -تعالى- منَ الأعمالِ الصالحةِ والعباداتِ الجليلةِ، ولذلكَ قَال: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)[الإسراء: 57]؛ أي يطلبونَ ما يتقرَّبونَ به إلى اللهِ، وينالونَ به مَرضاتِه من الأعمالِ الصالحةِ المقرِّبةِ إليه.
والتوسل ينقسم قسمين: القسم الأول: توسلٌ مشروعٌ: وهو التوسلُ بالوسيلةِ الصحيحـةِ المشروعةِ، والطريقُ الصحيحُ لمعرفةِ ذلك هو الرجوعُ إلى الكتابِ والسنةِ ومعرفةُ ما وردَ فيهما عنه، فما دلَّ الكتابُ والسُّنةُ على أنه وسيلةٌ مشروعةٌ، فهو من التَّوسلِ المشروعِ، وما سوى ذلك فإنه تَوسلٌ ممنوعٌ لا يجوز فعله.
والتوسُّلُ المشروعُ ثلاثةُ أنواعٍ اتفقَ العلماءُ عليها، وما سِواها اختَلفَ العلماءُ فيها[3].
الأول: التَّوسُّلُ إلى اللهِ باسمٍ من أسمائهِ، أو صفةٍ منْ صفاتِه؛ مثالُه: أنْ يقولَ المسلمُ في دعائِه: اللهمَّ إني أسألُكَ بأنكَ الرحمنُ الرحيمُ أن ترْحَمَني، فهذا توسل بالاسم. أو يقولَ: أسألكَ برحمتِك التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ أن تغفرَ لي وترحمني، فهذا توسل بالصفة.
ودليلُ مَشْروعية التوسل إلى الله بأسمائه، وصفاته: قَولُهُ -تَعَالى-: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)[الأعراف: 180]، والصفات داخلة في مسمى الأسماء، ورَوَى النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- دَخَلَ المسْجِدَ، إِذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «قَدْ غُفِرَ لَهُ»، ثَلَاثًا[4].
الثاني: التَّوسُّلُ إلى اللهِ بطلبِ الدعاءِ منَ الرجلِ الصالحِ؛ مثالُه: أنْ يذهبَ المسلمُ إلى رجلٍ حيٍّ يَرى فيه الصلاحَ والتقوى، والمحافظةَ على طاعةِ الله، فيطلب منه أن يدعوَ له ربَّه؛ ليفرِّجَ كربتَه وييسرَ أمرَه.
وهذا النوعُ من التَّوسلِ إنما يكونُ في حياةِ مَن يُطْلبُ منهُ الدعاءُ، أمَّـا بعدَ موتِه فلا يجوزُ؛ لأنَّه ميت لا يسمع حتى يستجيب للداعي.
ودليلُ مَشْروعية التوسل بدعاء الرجل الصالح الحي؛ أن الصحابةَ -رضي الله عنه- كـانوا يسألونَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنْ يَدعوَ لهم؛ فقد رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن عِمْرَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ».
قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ[5]، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ».
فَقَامَ عُكَّاشَةُ، فَقَالَ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ».
فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ»[6].
الثالث: التَّوسُّلُ إلى اللهِ بعملٍ صالحٍ؛ مثالُه: أنْ يقولَ المسلمُ في دعائِه: اللهمَّ بإيماني بك، ومحبَّتي لك، واتباعي لرسولِك اغفر لي، أو يقولَ: اللَّهم إنِّـي أسألكَ بحبِّي لنبيِّك محمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وإيماني به أن تفرِّجَ عني، أو يذكرَ الداعي عملًا صالحًا عظيما قامَ به فيتوسَّلَ به إلى ربِّه.
ودليلُ مَشْروعية التوسل إلى الله بالعمل الصالح؛ قَولُهُ -تَعَالى-: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران: 16].
فهذا توسل بالإيمان بالله وهو عمل صالح.
وقَولُهُ -تَعَالى-: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)[آل عمران: 53].
فهذا توسل بالإيمان بالله، واتِّباع الرسول-صلى الله عليه وسلم-، وهما عملان صالحان؛ ورَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ.
فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلَا مَالًا[7]، فَنَأَى[8] بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ[9] عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا[10]، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ[11] الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ.
وَقَالَ الآخَرُ: اللهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا[12]، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ[13] مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي، وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لَا أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ[14] إِلَّا بِحَقِّهِ[15]، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا، وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا.
وَقَالَ الثَّالِثُ: اللهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ، وَالبَقَرِ، وَالغَنَمِ، وَالرَّقِيقِ[16]، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ لَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ»[17].
ففي هذا الحديث النبوي توسل الأول بإخلاصِه في برِّه بوالديه. والثاني توسل بخوفه من عذاب الله بتركه الزنا ببنتِ عمه بعد أن قدَر عليه. والثالث توسل بصدقه وأمانته بإعطائه أجرة أجيره كاملة بعد أن نمَّاها له.
وهذه كلها أعمال صالحة.
أقولُ قولي هذا، وأَستغفرُ اللهَ لي، ولكُم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعدُ:
القسم الثاني من أقسام التوسل: التوسل الممنوع، وهو التَّوسُّلُ إلى اللهِ بما لم يَثبتْ في الشرعِ أنَّه وسيلةٌ، ومقتضاهُ: أن كلَّ ما لم يثبتْ في الشريعةِ أنه وسيلةٌ إلى الله -تعالى-، فهو ممنوعٌ مُحرَّمٌ، وهو أنواعٌ بعضُها أشدُّ خطورةً من بعضٍ، ومنها[18]:
النوعُ الأولُ: التوسُّلُ إلى اللهِ بجاهِ الأنبياءِ والصـالحينَ ومكانتِهم ومنـزلتِهم عند اللهِ، وهذا محرَّمٌ، بل هو من البدعِ المحدَثةِ؛ لأنه توسُّلٌ لم يُشـرِّعْهُ اللهُ، ولم يأذنْ بهِ؛ لقولِ الله -تعالى-: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ)[يونس: 59].
ولأنَّ جـاهَ الصـالحينَ ومكانتَهم عند اللهِ إنما تنفعُهُم هُم، كما قَالَ الله -تعالى-: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)[النجم: 39].
ولذا لم يكنْ هذا التوسُّلُ معروفًا في عهدِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابهِ، وقد نصَّ على المنعِ منه وتحريمِه غير واحدٍ من أهل العلمِ:
قال الإمامُ أبو حنيفةَ -رحمه الله-: «يُكرَه[19] أن يقولَ الداعي: أسألُك بحقِّ فـلانٍ، أو بحقِّ أنبيائِك، ورسلِك، أو بحقِّ البيتِ الحرامِ، والمشْعرِ الحرامِ، ونحوِ ذلك»[20].
النوعُ الثاني: التوسُّلُ إلى الله -تعالى- بدعاءِ الموتى والغائبينَ، والاستغاثةِ بهم، وسؤالِهم قضاءَ الحاجاتِ وتفريجَ الكُرُباتِ، ونحوَ ذلك، فهذا مـنَ الشركِ الأكبرِ الناقلِ من الملةِ؛ قال تعالى: (وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ)[يونس: 106].
وقال تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)[الأحقاف: 5].
النوعُ الثالثُ: التوسلُ إلى اللهِ بفعلِ العباداتِ عند القبورِ والأضرحةِ بدعاءِ اللهِ عندَها، والبناءِ عليها، ووضعِ المصابيحِ، والستورِ، ونحوِ ذلك، وهذا منَ الشـركِ الأصغرِ المنافي لكمالِ التوحيدِ، وهو ذريعةٌ مُفضيةٌ إلى الشركِ الأكبرِ.
فهذان هما قسما التوسل، فكونوا من أهل القسم الأول، فتوسلوا إلى الله بأسمائه وصفاته، وبصالح أعمالكم، وبدعاء الصالحين، وإياكم والتوسلَ الممنوع.
الدعـاء...
أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.
_____
[1] انظر: «تفسير ابن كثير» (2/ 50).
[2] متفق عليه: رواه البخاري (4715)، ومسلم (3030)، واللفظ له.
[3] انظر: «التوسل»، للشيخ الألباني، صـ (42).
[4] صحيح: رواه النسائي (1301)، وأحمد (18974)، وصححه الألباني.
[5] لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من أحد.
[6] متفق عليه: رواه البخاري (5705) عن ابن عباس، ومسلم (218)، واللفظ له.
[7] أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلَا مَالًا: أي ما كنت أقدم عليهما أحدًا في شرب نصيبهما من اللبن الذي يشربانه. [انظر: «النهاية في غريب الحديث» (3/ 341)].
[8] فَنَأَى: أي بَعُد.
[9] أُرح: أي أَرجع.
[10] غبوقهما: أي شرابهما، والغبوق: شرب آخر النهار مقابل الصبوح.
[11] برق: أي ظهر ضياء.
[12] فأردتها عن نفسها: كناية عن طلب الجماع.
[13] ألمَّت بها سنة: أي نزلت بها سنة من سِني القحط، فأحوجتْها.
[14] أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ: أي تكسره، وهو كناية عن افتضاض عذرة البكر، وقد يطلق على الوطء الحرام. [انظر: «النهاية في غريب الحديث» (3/ 454)، و«فتح الباري» (1/ 168)].
[15]إلا بحقه: أي لا أحل لك أن تقربني إلا بتزويج صحيح؛ [انظر: «فتح الباري» (6/ 509)].
[16] الرقيق: أي العبيد. [انظر: «تهذيب اللغة»، مادة «رقق»].
[17]متفق عليه: رواه البخاري (2272)، ومسلم (100).
[18] انظر: «أصول الإيمان»، لنخبة من العلماء، صـ (57).
[19] يُكرَه: أي يحرم.
[20] انظر: «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي (1/ 362).
التعليقات