عناصر الخطبة
1/تكريم الشريعة الإسلامية للإنسان حياً وميتاً 2/حقوق الميت عند الاحتضار 3/حقوق الميت بعد خروج الروح إلى الصلاة عليه ودفنه.اقتباس
لقد كانت جنائز العلماء والصالحين مشهودة، تكتض بسببها الطرقات، ويفد إليها الناس من كل حدب وصوب، ومن القصص في ذلك: أنَّ رجلا كان يُعادي الإمام أحمد -رحمه الله- فجاء للإمام وقال: متى موعدنا؟ أي: متى...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: يقول ربنا -تعالى-: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [الإسراء:70].
إن شريعتنا الإسلامية الغراء، شريعةٌ عظيمةٌ، حيث كرمت الإنسان فجعلته أفضل المخلوقاتِ وأقومَها، قال -تعالى-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين:4]، وحفظت له حقوقه على الآخرين حال الحياة، ولم يقف الأمر عند هذا فحسب! بل إنها لم تهمل حقوقه على إخوانه حين موته وبعد وفاته.
إخوة الإسلام: إنَّ للميت المسلم على أخيه الحي حقوقاً، تتراوح بين الوجوب والاستحباب، جاءت بها شريعة ربنا، تبدأ قبل وفاته وحال الاحتضار، ولا ينتهي كثير منها إلا عند انتهاء الحياة على هذه الدنيا، ومن تلك الحقوق:
تعاهده في مرضه قبل موته وتذكيره بالآخرة، وتلقينه كلمة التوحيد؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله". (رواه مسلم)، كي يكون ختامُه من الدنيا شهادةَ التوحيدِ، فقد أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أنَّ من كان آخرُ كلامِه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة"(متفق عليه)، فما أسعد من نطق بها لسانه، وتحركت بقولها شفتاه.
فإذا لُقّن المحتضر بهذه الكلمة العظيمة ووفقه الله لقولها؛ فإنها تذهب عنه كيد الشيطان، حيث يأتيه ويحاول إشغاله عن قولها في ذلك الموقف كي لا يختم له بالحسنى.
ويستحب توجيه المحتضر للقبلة، مضطجعاً على شقه الأيمن، لحديث أبي قتادة -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: تُوفيَ، وأوصى بثلث ماله لك، وأن يوجه للقبلة لما احتضر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده"، ثم ذهب فصلى عليه وقال: "اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلتَ"(رواه الحاكم).
فإذا ما وافته المنية، وفارقت الروحُ الجسدَ فإنه يستحب تغميض عينيه، فقد دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قُبض تبعه البصر"(رواه مسلم).
ثم يغطى ويُسجيَّ بثوبٍ؛ صيانة له عن الانكشاف، وستراً لصورته المتغيرة عن الأعين، عن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين توفي سجي ببرد حبرة"(أخرجه الشيخان).
ومن السنة: المبادرة إلى تغسيله؛ وعدم تأخير ذلك، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الإسراع بتجهيز الميت، وتطهيره وتنظيفه وتطييبه، وتكفينه في الثياب البيض".
ويتولى تغسيل الرجلَ الرجالُ، كما يتولى تغسيل المرأةِ النساءُ، ولا بأس بتغسيل الرجل زوجته، والمرأة زوجها، لحديث عائشة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "لو مُتِ قبلي لغسلتك"(رواه أحمد)، ولقولها -رضي الله عنها-: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسولَ الله إلا نساؤه"(رواه أبو داود).
ويجب على من غسل ميتاً أن يستر عليه، ويكتم ما يراه منه من عيب وغيره، وقد رتب الشرع على ذلك الأجر العظيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ غَسَّلَ مَيتاً فَكَتَمَ عَلَيْهِ؛ غَفَرَ اللهُ لَهُ أربَعِينَ مَرَّة"(رواه الحاكم، وقال: صحيح عَلَى شرط مسلم).
كما يشرع تكفينه بعد تغسيله، وينبغي الإحسان في تكفينه؛ بأن يكون الكفن ساتراً جميع بدنه، من دون مغالاة أو مباهاة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إذا كفَّنَ أحدُكم أخاه، فليُحسن كفَنه"(رواه مسلم). قال النووي: "قال العلماء: والمراد بإحسان الكفن نظافته وكثافتُه، وسترُه وتوسُّطه، ليس المراد به السَّرف فيه والمغالاةُ ونَفاسته".
ويكفن الرجل في ثلاثة أثواب بيض، والمرأة في خمسة، ويزاد في ذلك وتراً، بحسب الحاجة والمصلحة.
إخوة الإسلام: تتوالى حقوق الميت حقاً بعد حق، فبعد تغسيله وتكفينه تأتي مشروعية الصلاة عليه، وهي فرضٌ لا يسقط إلا بوجود من يقوم به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)[التوبة:84]، "لما نهى الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- عن الصلاة على المنافقين كان ذلك دليلاً على أن المؤمن يُصلى عليه قبل الدفن، ويقام على قبره بعد دفنه، ودلت الآية أيضاً على أن الصلاة على المسلمين من أعظم القربات، وأفضل الطاعات، ورتب الشارع عليها الجزاء الجزيل كما في الصحاح وغيرها، ودلت الآية على أن الصلاة على الميت كانت عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمراً متقرراً عند المسلمين".
ومع أن صلاة الجنازة فرض من فروض الكفاية، إلا أن الشارع رغب فيها وجعل لمن يصلي على الميت فضلاً وأجراً عظيمين، عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان"، قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين"(رواه مسلم).
وكلما كان عدد المصلين أكثر كان ذلك أفضلَ للميت، قال -عليه الصلاة والسلام-: "وما من مسلم يموت فيقوم على قبره أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئًا إلا شُفعوا فيه "(رواه مسلم). والصلاة على الميت جماعة أفضل وأولى؛ لما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة من بعده، بل إنَّ كثرة المصلين لتدل على صلاحٍ في الميت.
ولقد كانت جنائز العلماء والصالحين مشهودة، تكتض بسببها الطرقات، ويفد إليها الناس من كل حدب وصوب، ومن القصص في ذلك: أنَّ رجلا كان يُعادي الإمام أحمد -رحمه الله- فجاء للإمام وقال: متى موعدنا؟ أي: متى أعلم أنك على حق؟ فقال له الإمام أحمد -رحمه الله-: "موعدنا يوم الجنائز"، فلما مات الإمام أحمد صلى عليه أكثرُ من ألفِ ألفٍ، وكانت من الجنائز المهيبة المشهودة في أرض الخلافة بغداد.
وهكذا هم الصالحون والعلماء تبكيهم الأرض وسكانها، ولا يجد المكلوم برحيلهم بُدًا من أن يسارع الخطى مصلياً وداعياً ومشيعاً وساعياً.
اللهم اجعلنا من الصالحين، واختم أعمارنا بالحسنى يا رحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن بهديه اقتفى، وبعد:
معاشر المسلمين: ما أعظم ديننَا الإسلاميَ الحنيفَ حين جعل تلك الحقوق للميت على الحي، ورتب على القيام بها عظيم الأجر وجزيل الثواب.
ولا ينتهي الأمر وتلك الواجبات عند الصلاة عليه فحسب، بل هناك واجباتٌ وحقوق أخرى رغب في فعلها الشارع الحكيم، ومن ذلك المبادرة بعد الصلاة إلى حمله إلى قبره، واتباع جنازته، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "حق المسلم على المسلم ست: ... ومنها وإذا مات فاتبعه"(رواه مسلم).
وينبغي لمن اتبع الجنازة أن يعتبر ويتعظ ويزدجر، قال ثابت البناني: "كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعاً باكياً، أو متقنعاً متفكراً".
ويستحب الإسراع بالجنازة حين حملها؛ لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أسْرِعوا بالجنازة؛ فإن تكُ صالحةً، فخير تُقدِّمونها عليه، وإن تكن غير ذلك، فشرٌّ تَضعونه عن رقابكم"(متفق عليه).
فالمؤمن يقدم على خيرٍ ورحمة رب كريم، وأما الفاجر فشر يخلص الناس منه، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فقال: "مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ، قَالَ: "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ".
عباد الله: فإذا ما انتهى مشيعوه إلى المقبرة، أنزلوه قبره، ووجهوه للقبلة على شقه الأيمن في لحده وهو الأفضل والأولى، وعليه عمل المسلمين.
وإن كان الميت امرأة فإنه يسَنّ أن يُسجَّى قبرها عند إنزالها وإدخالها قبرها؛ لأن ذلك أستر لها، وبذلك قال العلماء.
ويقال عند إنزاله: "بسم الله وعلى ملة رسول الله"، فقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِذَا وَضَعْتُمْ مَوْتَاكُمْ فِي الْقَبْرِ فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "(رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني).
فإذا وُضع الميت في لحده نُصب عليه اللَّبِن، وسُد بالطين حتى لا يقع عليه التراب، لحديث سعد -رضي الله عنه-: "الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا، كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"، (رواه مسلم).
ثم يهال عليه التراب بعد ذلك، ويرفع القبر بعد الدفن فوق الأرض مقدار شبر، ويكون مسنماً، أي محدباً وذلك لكي يعرف أنه قبر، فلا يعتدى عليه ولا يداس، وإن جعل عليه علامة كحجر ونحوه ليعرف فلا بأس.
معاشر المسلمين هذه بعض حقوق الأموات على إخوانهم الأحياء، جاءت بها شريعة ربنا؛ ألا فاعلموها، واعملوا – رحمكم الله بما جاء فيها- وأدوها لإخوانكم اليوم، تؤدَّ لكم غداً، فكلنا إلى الله راجعون، وإليه منقلبون.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، حيث قال في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
التعليقات