عناصر الخطبة
1/مكانة البيت المسلم وتوجه الشيطان لإفساده 2/أهمية تحصين البيت المسلم من الشيطان ووسائل ذلك 3/وسائل تحصين النفس من الشيطان.اقتباس
ففي الأحاديث السابقة نرى مدى الاهتمام بحفظ الأولاد من الشيطان الرجيم, فيبدأ التحصين -ضد الشيطان- قبل مجيئهم, ثم تعويذهم وهم صِغارٌ رُضَّع, ثم وهو صِبيان, يُحفظون عن اللعب في أوقات انتشار...
الخطبة الاولى:
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, وبعد:
للبيت المسلم مكانةٌ عظيمة في الأُمَّة؛ فهو مصنعُ الرجال والأبطال؛ ولذلك توجَّه إبليسُ إليه بكلِّ سراياه؛ لأنَّ البيت أُمَّةٌ مُصغَّرة, ففيه الرجل, وفيه المرأة, وفيه الشباب, وفيه الأطفال, والجميع هدفٌ لإبليس وجندِه, يتَّضح لنا ذلك من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ, ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ, فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً, يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا, قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ, قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ, وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"(رواه مسلم).
قال النووي: "فيمدحُهُ؛ لإعجابه بِصُنعه, وبلوغه الغايةَ التي أرادها".
فكم من طلاقٍ وقعَ, وانهارتْ بيوتٌ؛ لأسباب لا تستحقُّ ذلك: إمَّا بسبب عدم ترتيب البيت, أو أنَّ الطعام كثيرُ الملح أو قليلُه, أو التأخير في إعداد الطعام للضيوف, وهكذا.. فكان الأَولى تجاوز هذه الأمور التي يُضخِّمها الشيطان؛ حتى نفوِّتَ عليه الفرصة, ولا تقع الكارثة.
فأعظم الفتن عند إبليس وأحبُّها إليه, هو تدمير البيت, والتفريق بين الزوجين, والذي يترتَّب عليه غالباً ضعفٌ في تربية الأولاد, ومشاكل لا حصر لها.
إذاً البيت المسلم قلعةٌ من قلاع العقيدة, ولا بد من أن تكون القلعةُ مُتماسكةً من داخلها, وحصِينةً في ذاتها, ولا بد من سدِّ الثغرات فيها, قبل أن يقتَحِمَها الشيطانُ وأعوانُه.
أيها المسلم: حَصِّن بيتك بطرد الشيطان: وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ, إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ"(رواه مسلم).
ومن لوازِمِ تطهير البيت وتحصينه من الشيطان: ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: اللَّهُمَّ! جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنِي, فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ الشَّيْطَانُ، وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ"(رواه البخاري).
ومن ذلك: تعويذُ الأبناء وحِفظُهم: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "كَانَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: "أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ"(صحيح رواه الترمذي وأبو داود).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ - أَوْ أَمْسَيْتُمْ - فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، وَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا"(رواه البخاري).
ففي الأحاديث السابقة نرى مدى الاهتمام بحفظ الأولاد من الشيطان الرجيم, فيبدأ التحصين -ضد الشيطان- قبل مجيئهم, ثم تعويذهم وهم صِغارٌ رُضَّع, ثم وهو صِبيان, يُحفظون عن اللعب في أوقات انتشار الجنِّ وسرعة حركتهم؛ كي لا يُؤذوهم.
أحبتي الكرام: وحين يفشل الشيطان في اختراق البيت عن طريق الأبناء؛ لا ييأس, بل يحاول ويُحاول؛ حتى يصلَ إلى مُرادِه؛ وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا سُرُجَكُمْ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدُلُّ مِثْلَ هَذِهِ؛ (يعني: الفأرةَ) عَلَى هَذَا؛ (يعني: السِّراجَ) فَتَحْرِقَكُمْ"(صحيح رواه أبو داود).
حتى بعض الحيواناتِ صَيَّرَها من جنودِه وأتباعه؛ لإحراق البيت.
ومن تحصين البيت من الشيطان: ترك التَّرف والبَذَخ: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فِرَاشٌ لِلرَّجُلِ, وَفِرَاشٌ لاِمْرَأَتِهِ, وَالثَّالِثُ لِلضَّيْفِ, وَالرَّابِعُ لِلشَّيْطَانِ"(رواه مسلم).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ؛ فَلْيُمِطْ عَنْهَا الأَذَى, وَلْيَأْكُلْهَا, وَلاَ يَدَعْهَا لِلشَّيْطَانِ"(رواه مسلم).
ونعلم جميعاً: أنَّ الترف والبذخ مذمومان, إذا كانا سبباً في مخالفة الشرع؛ فما الظنُّ بتسلُّط الشيطان من خلالهما؛ من خلال سكنه وأكله مع أهل البيت, ونحن بإمكاننا طردُه من البيت, وتجويعُه, فلا يكون له عندنا مأوى, ولا طعام.
ومن تحصين البيت من الشيطان: إصلاح النية عند الخروج من البيت: وفي ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ -يَعْنِي مِنْ بَيْتِهِ- إِلاَّ بِيَدِهِ رَايَتَانِ: رَايَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ, وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيْطَانٍ, فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؛ اتَّبَعَهُ الْمَلَكُ بِرَايَتِهِ, فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ, وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ؛ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ, فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ"(حسن رواه أحمد في المسند).
والشاهد: أن الشيطان يُراقب الإنسان من أوَّلِ خروجه من بيته؛ فإن كان لمخالفة الشرع؛ فَحَيْهَلاً للشيطان وحِزْبِه, وهذا ممَّا يُؤكِّد أن الشياطين أعلامٌ على الفساد والضلال, ولا يَدَعون فُرصةً إلاَّ وانتهزوها؛ لغاياتهم وأهوائِهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... وكما حصَّن المسلم بيته وأهله وذريته من الشيطان الرجيم؛ فينبغي من باب أولى أن يُحصن نفسه منه؛ على حد قوله صلى الله عليه وسلم: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ"(رواه مسلم).
ومن أعظم تحصين النَّفس من الشيطان: لزوم جماعة المسلمين: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ, وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ, وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ, مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ؛ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ"(صحيح رواه الترمذي).
والمقصود بلزوم الجماعة: الالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة كاملاً غيرَ منقوص, والالتزام بمنهج أهل السنة والجماعة في التلقِّي والاستدلال, وفي التطبيق والعمل, وفي السلوك والأخلاق.
ومن سبل تحصيل النفس من الشيطان: الاستعلاءُ عليه واحتقارُه: عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ؛ عَنْ رَجُلٍ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَعَثَرَتْ دَابَّتُهُ؛ فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ (أي: هلك, ومثل هذا الكلام يوهم أنَّ للشيطان دَخْلاً في مثل ذلك)؛ فَقَالَ: "لاَ تَقُلْ تَعِسَ الشَّيْطَانُ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ؛ تَعَاظَمَ؛ (أي: صار عظيماً وكبيراً) حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الْبَيْتِ, وَيَقُولَ: بِقُوَّتِي, [أي: حَدَثَ ذلك الأمرُ بقوتي] وَلَكِنْ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ؛ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ؛ تَصَاغَرَ [أي: صار صغيراً وحقيراً] حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ الذُّبَابِ"(صحيح رواه أحمد وأبو داود والنسائي).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ؛ فَلاَ يُخْبِرْ أَحَدًا بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ"(رواه مسلم).
وقال أيضاً: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَالَ: هَا, ضَحِكَ الشَّيْطَانُ"(أخرجه البخاري ومسلم).
وإذا تعامل المسلم مع الشيطان وجندِه بطريقة الاستخفاف والاستهزاء, يضعف كيدُهم ومكرُهم؛ كما قال سبحانه: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)[النساء: 76]؛ إذاً التزامنا بشرع الله –تعالى- يُضْعِفُ مكر الشيطان.
ومن سبل تحصيل النفس من الشيطان: مخالفتُه؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشِمَالِهِ, وَلاَ يَشْرَبَنَّ بِهَا؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ, وَيَشْرَبُ بِهَا"(رواه مسلم).
وجه الدلالة: تحريم الأكل والشرب بالشمال؛ لأنه من فِعْلِ الشيطان وخُلُقِه, والمسلم مأمور باجتناب الأفعال التي تُشبِهُ أهلَ الفِسقِ؛ فضلاً عن الشيطان.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لاَ تَقِيلُ"(حسن رواه الطبراني في الأوسط؛ وأبونعيم في الطب).
والقيلولة: هي الاستراحة وسط النهار, وإن لم يكن معها نوم, وتستحب القيلولة؛ لإعانتها على قيام الليل, وفيها مخالفةٌ لِفِعلِ الشيطان.
ومن سبل التحصين: تركُ مركبِ السُّوء: وفي ذلك يقول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ، وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ, وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ؛ فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ: فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ فِي مِيزَانِه. وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ: فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ (على رسوم الجاهلية). وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ: فَالْفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا؛ (أي: يطلب نتاجها)؛ فَهِيَ سِتْرٌ مِنْ الفَقْرٍ؛ (أي: تحول بينه وبين الفقر؛ لارتفاقه بثمن نتاجها)(صحيح رواه أحمد في المسند وصححه الهيثمي).
فهذه السباقات المتنوعة التي يُقامر ويُراهن عليها اليوم هي خيلٌ للشيطان ولا خير فيها, ويدخل في ذلك كلُّ سباقٍ للمركبات أو الدَّرَّاجات أو نحوها ممَّا يُقامَر عليه, فهي جميعاً من تزيين الشيطان.
أيها الناس: لا ريب أن هجمات إبليس وجندِه -في ظاهرها- شرسةٌ وقويَّةٌ؛ فيجب أن نتصدَّى لهذه الهجمات بسلاح الإيمان والعلم والتقوى, وإن كان الشيطان وأولياؤه من الإنس والجن يقاتلون ويصابرون ويكيدون ويمكرون, وهم على يقين بمصيرهم المحتوم: (لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص: 85]؛ فما بالنا نحن, قد وَهِمْنا وضَعُفْنا ونحن لنا مددٌ وسبب في السماء, فالله -تعالى- ناصرُ دِينِه, ومُعِزُّ أوليائه, ولكنْ: (إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)[محمد: 7].
التعليقات