عناصر الخطبة
1/ النهي عن الغيبة والنميمة والوعيد لفاعليهما 2/ بواعث الغيبة والنميمة 3/ ما تجوز فيه الغيبة والنميمة 4/ الإقلاع عن الغيبة والنميمة والتوبة منهمااهداف الخطبة
اقتباس
وإذا كنت تستنكف من المشاهد المؤذية، وتشمئز للروائح الخبيثة، وهذا أمر طبيعي فيك، فعليك أن تترفع عن إيذاء إخوانك المسلمين وأكل لحومهم، فشأنك حين تعمل هذا في حق إخوانك المسلمين، كشأنك حين ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره...
أما بعد: إخوة الإسلام، نختم حديثنا في حصائد الألسن بالحديث عن خصلتين قبيحتين، وعادتين سيئتين قل مَن ينجو منهما، يستصغرهما بعض الناس، وشأنهما عظيم عند الله، وطالما تصدرا حديث الناس، وأصبحتا فاكهة المجالس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ذلك الداء العضال، والمرض الذي يفتك في الناس فتك الذئاب الجائعة في الأغنام الهائمة؛ بل أشدّ، هو داء الغيبة والنميمة، حذر منهما القرآن وزجر، ولكن بعض الناس لم يزدجر، وهل بعد زواجر القرآن من مزدجر؟.
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن التلبس بهما، وشدَّد، وهو الناصح الكريم، والمرشد الأمين فافتح قلبك -يا أخا الإسلام- لآي القرآن، وأصغ سمعك لتوجيه المصطفى -عليه الصلاة والسلام-، قال الله تعالى: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات:12]، وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة:1]، وقال في وصف أحد الكافرين (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11].
وما أكثر ما وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشأنهما وشدد، ويكفيك أن تعلم أنه -عليه الصلاة والسلام- جمع بين الاعتداء على الدماء والأموال والأعراض في حديث واحد، فقال في خطبة حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟" متفق عليه.
وإذا كان شأن الدماء والأموال في حسنا عظيم، فينبغي أن يعلم أن شأن الأعراض عظيم كذلك.
وهل علمت، يا من تستعيذ بالله صباح مساء من عذاب القبر، أن الغيبة والنميمة من أسباب عذاب القبر؟ فقد جاء في الصحيحين، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقبرين فقال: "إنهما لَيُعَذَّبان، وما يعذبان في كبير"، وفي رواية البخاري: "بلى؛ إنه كبير! أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله"، وفي رواية: "لا يستنزه من بوله". قال العلماء: معنى: وما يعذبان في كبير: أي في كبير في زعمهما، أو في كبير تركه عليهما.
وإذا كانت النميمة وردت في هذا الحديث سبباً في عذاب القبر، فقد جاء ذكر (الغيبة) بدلاً منها في حديث أو رواية أخرى رواها الطيالسي، وأحمد والطبراني، وابن أبي الدنيا بسند جيد، وهو مؤشر إلى أن الغيبة والنميمة سببان موجبان لعذاب القبر، وقانا الله وإياكم والمسلمين عذاب القبر وما بعده.
أيها المسلمون: والذين يقعون في أعراض المسلمين ويتتبعون عوراتهم حريون بعقوبة الله العاجلة، وعليهم ألا يأمنوا الفضيحة في عقر دارهم، قال البراء بن عازب -رضي الله عنه-: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته".
يا أخا الإسلام: وإذا كنت تستنكف من المشاهد المؤذية، وتشمئز للروائح الخبيثة، وهذا أمر طبيعي فيك، فعليك أن تترفع عن إيذاء إخوانك المسلمين وأكل لحومهم، فشأنك حين تعمل هذا في حق إخوانك المسلمين، كشأنك حين تأكل الميتة أو تكره الروائح المنتنة، فضع نفسك في الموضع الذي ترغبه لها، وقد سمعت الحق تبارك وتعالى يقول: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ).
وخذ نموذجاً عمليًّا قرره النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أحد أصحابه، فحين رجم (ماعزاً) في الزنا قال رجل لصاحبه: هذا أقعص كما يقعص الكلب. فمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهما معه بجيفة فقال: "انهشا منها"، فقالا: يا رسول الله، ننهش جيفة؟ فقال: "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه" رواه أبو داود والنسائي بسند جيد.
أيها المؤمنون: الأمر عظيم، والخطب جسيم، والبراءة من أعراض المسلمين عزيزة، والخطورة تكمن في الجهل أو التجاهل بحقيقة الغيبة.
وبعض الناس يظن أنه حين يتحدث في عرض أخيه المسلم بأمر واقعي لكنه مكروه لديه أن ذلك ليس من الغيبة، وإنما الغيبة -في ظن هؤلاء- في الزيادة في الكلام في المتحدث فيه بما ليس فيه، وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكشف الحقيقة ويبين المسألة ويقول: "أتدرون ما الغيبة؟"، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
ومن هنا يتبين لك حرمة الحديث في عرض أخيك المسلم بما يكره حتى ولو كان واقعاً، ولمزيد من الإيضاح، قال العلماء: الغيبة ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقِهِ، أو خُلُقِه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو نحو ذلك، وسواء ذكرته بلفظك، أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينيك أو يدك أو رأسك، أو نحو ذلك.
ألا ما أعظم هذا الدين وهو يحفظ الحرمات، ويستر العورات! وما أجمل المؤمن وهو يتحلى بحلية الإيمان، ويتخلق بأخلاق الإسلام! وما أنظف المجتمع الذي يحافظ فيه كل فرد على حقوق الآخرين! ويتداعى البنيان أو ينهار إذا تناوشته السهام من كل مكان، وما أحوجنا إلى البناء ورص الصفوف بعيداً عن السخرية والاستهزاء، والغيبة والنميمة! تلك الجبهات الداخلية التي أشغلتنا عن الجبهات الخارجية فتسلل العدو إلى أرضنا.
أمة الإسلام: وحتى نقلع عن هذه الظاهرة السيئة، لا بد لنا من التعرف على الأسباب الداعية للغيبة، ومحاولة تجاوزها وسد أبوابها.
فمن أسباب الغيبة: شفاء الغيظ، فهو إذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئ من أغضبه، وربما تحول الغضب إلى حقد دفين، فصار الحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة، فجاهد نفسك على ألا تحقد ولا تغضب، واسأل الله في ذلك فهو خير معين.
السبب الثاني: موافقة الأقران، ومجاملة الأصحاب، فهو يرى أنه لو أنكر عليهم -في تفكههم في الأعراض- استثقلوه ونفروا من صحبته، فيضطر لمجاراتهم، وذلك علامة الضعف في الدين، وإلا فالواجب نصرة المسلم والذب عن عرضه، وفي ذلك عظيم الأجر عند الله، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره في موطن يحب فيه نصرته" رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
فضعوا هذا الحديث نصب أعينكم حين تختلط الأحاديث في المجالس، وتكون أعراض المسلمين فاكهة لها، واسألوا الله العون على ذلك.
الباعث الثالث على الغيبة: أن يستشعر من إنسان أنه سيقصده بالحديث، فيسبقه إلى ذلك ويتقدمه بالغيبة، وفي هذا المقام ينبغي أن يتذكر المسلم ما أعده الله للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، فيحفظ لسانه حتى وإن كان الحق له، ولا شك أن تلك منزلة تحتاج إلى صبر، وطول مجاهدة للنفس، وفقني الله وإياكم لبلوغها.
الباعث الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل.
الباعث الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، كأن يقول: فلان جاهل، وفهمه ركيك، وكلامه ضعيف، وهو إنما يريد إثبات الفضل لنفسه.
الباعث السادس للغيبة: الحسد، وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إلى ذلك إلا بالقدح فيه لإسقاطه عند الآخرين، وذلك عين الحسد، وهو غير الحقد والغضب الذي يستدعي جناية من المغضوب عليه، أما الحسد فقد يكون مع الصديق المحسن، والرفيق الموافق، نسأل الله السلامة من الحسد.
الباعث السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة، ومنشؤه التكبر والعجب.
الباعث الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له، فإن ذلك قد يجري في الحضور، ويجري في الغيبة، ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.
إخوة الإيمان ثمة مدخل خفي للغيبة جدير بالناس عموماً أن يعلموه، وأهل الدين والصلاح خصوصاً أن يفقهوه، ذلك هو ما سمي بغيبة القلب، أو سوء الظن الذي ينعقد به القلب ويصدقه ثم ينطق به اللسان، لا مجرد الخواطر وحديث النفس، فهذا إذا لم يستقرّ ويستمرّ عليه صاحبه فمعفو عنه باتفاق العلماء، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-، كما ثبت في الصحيحين: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل" متفق عليه.
أما ما نحن بصدده من غيبة القلب التي ينعقد عليها فقد حرره العلماء وضبطوه، بكلام نفيس، فقالوا: إذا وقع في قلبك ظن السوء فهو من وسوسة الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه، فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]، فلا يجوز تصديق إبليس، فإن كان هناك قرينة تدل على فساد واحتمال خلافه لم تجز إساءة الظن.
ومن علامة إساءة الظن أن يتغير قلبك فيه عما كان عليه، فتنفر منه، وتستثقله وتفتر عن مراعاته وإكرامه والاغتمام بسيئته، فإن الشيطان قد يقرب إلى القلب بأدنى خيال مساوئ الناس، ويلقي إليه إن هذا من فطنتك وذكائك وسرعة تنبهك، وأن المؤمن ينظر بنور الله، وإنما هو على التحقيق ناطق بغرور الشيطان وظلمته.
وإن أخبرك عدل بذلك فلا تصدقه ولا تكذبه، لئلا تسيء الظن بأحدهما، ومهما خطر لك سوء في مسلم فزد في مراعاته وإكرامه، فإن ذلك يغيظ الشيطان، ويدفعه عنك، فلا يلقي إليك مثله خيفة من اشتغالك بالدعاء له.
ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة لا شك فيها فانصحه في السر، ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه، فينظر إليك بعين التعظم وتنظر إليه بالاستصغار، ولكن اقصد تخليصه من الإثم وأنت حزين كما تحزن على نفسك إذا دخلك نقص، وينبغي أن يكون تركه لذلك النقص بغير وعظك أحبّ إليك من تركه بوعظك.
هذه كلمات تفيض منها النور والبهاء، تلك مقامات الأوفياء النجباء، جعلنا الله منهم بمَنِّه وكرمه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم عليه.
أما بعد: فاعلموا -معاشر المسلمين- أنه كما يحرم على المغتاب ذكر الغيبة يحرم على السامع استماعها وإقرارها، فيجب على مَن سمع إنساناً يبتدئ بغيبة محرمة أن ينهاه إن لم يخف ضرراً ظاهراً، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه أو على قطع الغيبة بكلام آخر لزمه ذلك.
ومما قيل في هذا المعنى:
وسمْعَكَ صُنْ عن سماعِ القبيــــ *** ــحِ كَصَوْنِ اللسانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ
فإنَّك عنـد سمـاع القبيـح شـريكٌ لقائلـه، فانتبـهْ.
إخوة الإسلام: مصيبتنا في المجالس المجاملة الزائدة عن الحدود الشرعية، فقد يتكلم أحد الحاضرين بكلام لا قيمة فيه، بل ربما كان فيه ضرر على الآخرين فلا يجد -أحياناً- مَن ينكر عليه، أو يصرف الحديث إلى ما هو أولى وأحرى، بعيداً عن أعراض المسلمين وتجريحهم والتشهير بهم، ويرحم الله عمر وهو القائل: عليكم بذكر الله تعالى؛ فإنه شفاء، وإياكم وذكر الناس! فإنه داء.
وتنبهوا -معاشر الصالحين- لمقولة الحسن -يرحمه الله-: والله! لَلغيبة أسرع في دين الرجل المؤمن من الأكلة في الجسد.
أيها المسلمون: كما ورد الاستثناء في الكذب، فقد ورد الاستثناء في الغيبة كذلك، وقال أهل العلم: تباح الغيبة إذا كان المسوغ لها غرضاً شرعيًّا صحيحاً، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو أحد ستة أسباب:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، فيذكر أن فلاناً ظلمه وفعل به كذا وكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا فازجره أو نحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان أو أبي أو أخي أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه ورفع ظلمه عني؟ ونحو ذلك، فالتعيين جائز، والتعميم أحوط.
والرابع: تحذير المسلمين من الشر، وذلك من وجوه، منها جرح المجروحين من رواة الحديث، وبيان حالهم؛ ومنها الاستشارة في مصاهرة أو مشاركة أو نحو ذلك من المعاملات، فيباح للمستفتي لهذا الغرض أن يذكر ما يعلمه في الشخص على وجه النصح للمستشير، وبيان ما يخفى عليه من أمره.
الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته، كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز -والحالة تلك- ذكره بما يجاهر به.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقبٍ، كالأعمش والأعرج والأعمى ونحوها، جاز تعريفه بذلك بنية التعريف، لا على وجه التنقص؛ فإن ذلك حرام، وإن أمكن تعريفه بغيرها فهو أولى.
أيها المسلم والمسلمة: اتقوا الله فيما تعملون وما تدعون، وراقبوه في حركاتكم وسكناتكم، واعلموا أن طريقكم إلى التوبة من الغيبة هو طريقكم في التوبة من بقية المعاصي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على عدم العودة.
ولكن تزيد الغيبة شرطاً رابعاً، وهو التحلل ممن اغتبته، فذلك من حقوق الآدميين التي لا بد من استحلالهم عنها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه" رواه أحمد والبخاري.
أما صاحب الحق فيستحب له الصفح عن أخيه إذا جاءه معتذراً، فذلك من كرم المؤمن وطيب خلقه، ودخوله في زمرة المحسنين، الذين أثنى الله عليهم بقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134].
والرسول -صلى الله عليه وسلم- أثنى على الرجل الذي كان يصفح عن إخوانه المسلمين، فقال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيعم أو أبي ضمضم، كان إذا أصبح -وفي رواية: إذا خرج من بيته- قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك -أو على الناس-" رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
أيها المسلمون: وإذا كانت الغيبة هي الغالبة في أحاديث الناس، فإن النميمة لا تقل خطراً، بل هي أشدّ، إذ هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على وجه الإفساد.
وهي لا تصدر إلا من مرضى القلوب، وضعاف النفوس، وكم ثارت الحزازات بين قريبين أو صديقين بسبب نمام أشعل فتيل العداوة بينهما، ولا غرو أن يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حق النمام: "لا يدخل الجنة نمــــَّام" متفق عليه، وفي رواية: "لا يدخل الجنة قتَّات" رواه أبو داود وصححه الألباني.
ويقال: إن رجلاً ذكر لعمر بن عبد العزيز -يرحمه الله- رجلاً بشيء، فقال عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبداً.
فترفعوا -معاشر المسلمين- عن الدنايا، وعن كل ما يخدم المكروه أو يسيء إلى المسلمين، واطلبوا معالي الأمور، وانشدوا الإصلاح، وإحسان الظن، ففي ذلكم الفلاح والنجاح، وهو طريق إلى سلامة الصدور وطهارة القلوب.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم والمسلمين سلامة الصدر وطهارة القلب، وأن ينجبنا الغلّ والحقد والحسد وسوء الأخلاق.
هذا وصلوا وسلموا على نبي الهدى والرحمة...
التعليقات