عناصر الخطبة
1/ مكانة حسن الخلق وفضله 2/ تعريف حسن الخلق 3/ دعوة لمجاهدة النفس على الأخلاق الحسنة 4/ أشد الناس وجوبا التحلى بهاهداف الخطبة
اقتباس
وكم من موظف كانت لك عنده حاجة فقضاها؛ لكنه كان عبوس الوجه، مقطب الجبين، إذا نظر نظر شزراً، وإذا تكلم تمطط في كلامه، يلقي إليك أوراقك بطرف أصابعه، وربما لم يرد عليك السلام حين ألقتيه عليه، كأنما ينفق عليك أو يرزقك؛ فما موقفك من هذا وقد قضى حاجتك؟ وما موقفك من الأول وهو لم يقض حاجتك؟ ..
الخطبة الأولى:
الحمد لله، كما يحمده المتقون، حمداً يليق بجلال وجهه وعظمة سلطانه، وأشكره شكراً يزيد نعمه التي لا يحصيها العادُّون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لاذ بحماهُ الخائفون، وتعلق بأذيال رجائه الراجون، وألح في سؤاله السائلون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أدبه ربه فأحسن تأديبه، ثم أثنى على خُلقه فكان خلقه القرآن، يتلوه في النهار، ويتجافى جنبه عن مضجعه والناس نيام، -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، كانوا في النهار فرساناً، وفي الليل قياماً، يقنتون لربهم ويسجدون، ويتعبدون ويخشعون؛ والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله تعالى، واستباق الخيرات، والمسارعة في الباقيات الصالحات، ومجانبة الموبقات والمحرمات، والصبر على المكروهات، (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90].
أيها الإخوة المؤمنون: الأخلاق الكريمة، والصفات الحسنة، لها اعتبار كبير في دين الله تعالى. وإذا كانت العلاقة بين الخالق والمخلوق تبنى على الإيمان والإخلاص والمتابعة؛ فإن علاقات المخلوقين فيما بينهم يبنى أغلبها على أساس الأخلاق والسلوك؛ لذا أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن البر حسن الخلق.
بل جعل النبيُّ حسنَ الخلق من أبواب الخيرية، قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا متفحشاً"، وكان يقول: "إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً" متفق عليه. وأخبر -عليه الصلاة والسلام- أن حسن الخلق أفضلُ ما أعطي المسلم، فعن أسامة بن شريك قال: قالوا: يا رسول الله! ما أفضل ما أعطي المرء المسلم؟ قال: "حسن الخلق" أخرجه أحمد.
ما كان هذا الاهتمام منه -صلى الله عليه وسلم- بحسن الخلق إلا لعظم منزلته عند الله تعالى، كيف! وهو سببٌ للقرب من الله تعالى، ونَيْل محبته؛ فعن أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أحبكم إلى الله وأقربكم منِّي أحاسنكم أخلاقاً..." أخرجه أحمد وصححه ابن حبان. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أحبُّ الناس إلى الله أحسنُهم خلقاً" أخرجه أحمد.
وحسن الخلق كذلك طريقٌ يوصل إلى كمال الإيمان؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً" أخرجه أبو داود والترمذي.
ويعظم شأن الأخلاق الحسنة حتى يكون صاحبها في عبادة دائمة يعادل درجة الصائم القائم، مع أنه قد لا يكون مجتهداً في نوافل العبادات، لكنه أدرك ذلك بخلقه، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن لَيُدْرِك بخلقه درجة الصائم القائم" أخرجه أبو داود.
والأخلاق الحسنة تثقل ميزان العبد في وقت يكون أحوج ما يكون إلى ما يثقل موازينه؛ بل جاء الخبر بأن حسن الخلق هو أثقل الأعمال الصالحة في الميزان، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن" أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وحسن الخلق كذلك من أقوى الأسباب التي تُدخل الجنة، فقد سئل النبي -عليه الصلاة والسلام-: ما أكثر ما يُدخلُ الناس الجنة؟ فقال: "تقوى الله، وحسنُ الخلق". قيل: فما أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال: "الجوفان: الفم والفرج" صححه الترمذي والحاكم وابن حبان.
ويعطَى صاحبُ الخلق الحسَن بيتاً في أعلى الجنة جزاءً لترقِّيه في معالي الأخلاق ومكارمها، فقد روى أبو أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أنا زعيم ببيت في ربَض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه" أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، فهنيئاً لمن جمع هذه البيوت كلها.
وقد ورد أن المرأة إذا تزوجت عدة مرات في الدنيا، فدخلت الجنة ودخل أزواجها الجنة فإنها تخير، فتختار أحسنهم خلقاً.
أيها الإخوة: واستعراضُ النصوص الدالةِ على فضل حسن الخلق، ومكانته في الإسلام، وتعداد مزاياه، لا يكفيه وقت قليل؛ لكن كانت تلك أمثلة وأدلة تنير الطريق للسائرين، على أنه لم يتوقف فضله على ما يكون في الآخرة من حساب وجزاء؛ بل شمل الدنيا أيضاً؛ فمُلْكُ قلوب الناس، ونيلُ محبتهم إنما يكون بالأخلاق الحسنة، قال الأشعث بن قيس يوماً لقومه – وكان سيدهم-: "إنما أنا رجل منكم، ليس فيَّ فضلٌ عليكم؛ ولكني أبسط لكم وجهي، وأبذلُ لكم مالي، وأقضي حقوقكم، وأحوطُ حريمكم، فمن فعل مثل فعلي فهو مثلي، ومن زاد عليَّ فهو خير مني، ومن زدت عليه فأنا خير منه"، قيل له: يا أبا محمد، ما يدعوك إلى هذا الكلام؟ قال: "أحضُّهم على مكارم الأخلاق". وقد جاء في حديث فيه ضعف أن الخلق الحسن ذهب بخيري الدنيا والآخرة.
إذا تقرر هذا الفضل في الخلق الحسن فما هو؟ وما كيفية إدراكه؟ حتى يحصلَ المسلم على ثوابه؟! سئل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- عن حسن الخلق فقال: "أن لا تغضب ولا تحتدَّ"، وقال أيضاً: "أن تحتمل ما يكون من الناس".
وإنما جعل حسن الخلق في عدم الغضب والحدة؛ لأن الغضب والحدة يولدان الاعتداء باليد، والجرح باللسان سباً وشتماً، وقد يولدان الغيبة والنميمة والكذب، وكل ذلك يتنافى مع حسن الخلق. وقال الحسن وابن المبارك -رحمهما الله تعالى-: "هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى"، وقال الواسطي -رحمه الله تعالى-: "هو أن لا يخاصِم ولا يخاصَم، من شدة معرفته بالله".
ونقل الحافظ ابن رجب عن بعض أهل العلم قوله: "حسنُ الخلق: كظم الغيظ لله، وإظهارُ الطلاقة والبِشْر إلا للمبتدع والفاجر، والعفوُ عن الزالين إلا تأديباً أو إقامة حدِّ، وكف الأذى عن كل مسلم أو مُعاهَد، إلا تغييراً منكراً، أو أخذاً بمظلمة لمظلوم، من غير تعدَّ".
قال السفاريني: "وهذا في غاية التحقيق... ثم ذكر أن من حسن الخلق: أن يحبّ للمسلمين ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم، ولا يفخر عليهم، ولا يختال... ولا يتكبر ولا يعجب، وإن تكبر عليه غيره فليحمل منه ذلك، ويعامله باللين، ويغض الطرف عن أهل الرقاعة من المتكبرين، وأن يوقر الشيخ الكبير، ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه، مع طلاقة الوجه، وحسن التلقي، وداوم البشر، ولين الجانب، وحسن المصاحبه، وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذات بين إخوانه، وتفقد أقرانه وأخدانه، وأن لا يسمع كلام الناس بعضهم في بعض، وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله، لا لأجل غرض، مع ستر عوراتهم، وإقالة عثراتهم، وإجابة دعواتهم، وأن لا يقف موقف التُّهَم، وأن يحلم عمن جهل عليه، ويعفو عمن ظلم..." اهـ.
أيها الإخوة: هذا وزنُ حسن الخلق في دين الله تعالى، وهذه حدودُ الأخلاق الحسنة وصفاتها؛ فليزن كلٌ منا أخلاقه بميزانها، فمن كان سيء الخلق فليحسن خلقه، ومن كان ذا خلق حسن فليحمد الله تعالى، ويسأله الثبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [فصلت:34-36].
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، واقتفى أثرهم، إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله! اتَّقوا الله وحسِّنوا أخلاقكم؛ فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق، والبذاءة والفحش وسوء الخلق تدل على قلة التقوى.
أيها المؤمنون: لقد كان من أهداف بعثة خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق" أخرجه أحمد والحاكم وصححه.
وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلزوم الأخلاق الحسنة، ومجاهدة النفس على التحلي بها، وليس عذراً لصاحب الخلق السيء أن يقول: طبعٌ جبلت عليه؛ إذ إن من الأخلاق ما هو مكتسب يؤخذ بالدّربة والرياضة؛ ودليل ذلك أن معاذاً -رضي الله عنه- لما أراد سفراً قال: يا رسول الله، أوصني، قال: "اعبد الله ولا تشرك به شيئاً"، قال: يا رسول الله، زدني، قال: "إذا أسأت فأحسن". قال: يا رسول الله، زدني قال: "استقم ولتُحَسِّن خلقك" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وفي حديث آخر قال له: "اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". فهذا يدل على أن منه ما هو مكتسب يربي الإنسان نفسه وأهله وأولاده عليه.
واسمعوا إلى هذا الكلام الجميل تعليقاً على هذا الحديث من الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-، قال: "وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "وخالق الناس بخلق حسن" هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه؛ فإن كثيراً من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنص له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفقهاً وقاضياً، ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم.
وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته، إهمالُ حقوق العباد بالكلية، أو التقصير فيها، والجمعُ بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً، لا يقْوَى عليه إلا الكُمَّلُ من الأنبياء والصدِّيقين.
أيها الإخوة: كم يحتاج الناس منا إلى حسن الخلق! إننا لن نسع الناس بأموالنا ولا بجاهنا، ولكن يسعهم منا حسنُ أخلاقنا؛ لا يريد من يتعامل معنا منا إلا الكلمة الطيبة، والابتسامة الجميلة، والتعامي عن الهفوة، وتلمس العذر.
يحتاج إلى حسن أخلاقنا والِدانا حتى نحقق برهماً ونحوز رضاهما، ومِن أحق الناس بحسن أخلاقنا أهلونا وأولادُنا حتى نعينهم على القيام بحقنا وبرنا، كما يحتاجه إخواننا وقراباتُنا حتى تدوم المودة، وتتحقق الصلة؛ وحسنُ الأخلاق مع الجيران هو من إكرام الجيران، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكْرِم جاره".
ومن أشدِّ الناس حاجة إلى الأخلاق الحسنة من يكثر تعاملهم مع الناس، وتشتدُ حاجة الناس إليهم، من العلماء، وطلاب العلم؛ لحاجة الناس إليهم في الفتيا والسؤال عن أمور الدين، والقضاء؛ لفصلهم في النزاعات والخصومات، والمسؤولون والمدراء، لكثرة تعامل من هم تحت إدارتهم معهم.
ويجب أن يتحلى بالخلق الحسن من كان في مواجهة جماهير الناس، وتشتدُ الحاجة إليهم، كالأطباء والموظفين في الدوائر التي يكثر مراجعوها؛ فعليهم بالصبر والمصابرة، وأن يُحسِّنوا أخلاقهم للناس، ولا تكن كثرةُ المراجعين سبباً لسوء أخلاقهم؛ فذلك امتحانٌ لهم.
كم من موظف مسؤول نال محبة الناس بحسن أخلاقه! وكم من آخر كرهه الناس لسوء خلقه، وجانبوه لفحشه! وكم من موظف دخلتَ عليه في حاجة لك فلم يقضها لك؛ لكنه أزال ما في قلبك، وشفى صدرك بكلمة طيبة، وابتسامة جميلة، واستقبال حسن.
وكم من موظف كانت لك عنده حاجة فقضاها؛ لكنه كان عبوس الوجه، مقطب الجبين، إذا نظر نظر شزراً، وإذا تكلم تمطط في كلامه، يلقي إليك أوراقك بطرف أصابعه، وربما لم يرد عليك السلام حين ألقتيه عليه، كأنما ينفق عليك أو يرزقك؛ فما موقفك من هذا وقد قضى حاجتك؟ وما موقفك من الأول وهو لم يقض حاجتك؟
إنك أحد هذين الرجلين وأنت تقبع خلف مكتبك، فاختر لنفسك ما شئت، وعامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، واعلم بأنه لا يبقى للعبد في الدنيا إلا الذكر الجميل، فكن حسن الأخلاق مع الناس؛ حتى تنال محبة الله تعالى ومحبتهم، وحتى تذكر بخير حياً وميتاً.
اللهم كما حسنت خَلْقنا فحسن أخلاقنا، اللهم صلِّ على محمد وآله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات