عناصر الخطبة
1/من مقاصد الشريعة حفظ المال 2/حقيقة الرشوة وحكم الإسلام فيها 3/بعض صور الرشوة وأشكالها 4/آثار الرشوة وعقوباتها في الدنيا والآخرة 5/مواطن جواز الرشوة وشروطها.اقتباس
ذم الإسلام الرشوة، لأنها تحجب العدل وتعمي عن الحق، وتكون سببا في ضياع الحقوق وإعطاء من لا يستحق ما ليس له، وقد نهى الله عباده عن.. ومن صور الرشوة: ما يكون في الحكم فيقضى، من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد جاءت شريعة الإسلام بمقاصد سامية وغايات كريمة وحِكَم بليغة؛ وإن مما جاءت به من المقاصد؛ حماية مصالح العباد وحفظ حقوقهم ورعايتها، ولتحقيق هذا المقصد الجليل؛ حرم الإسلام إضاعة المال وأكله بغير حق، ونهى كل ما يكون سببًا لضياعها، أو نقصها، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)[النساء: 29]؛ فإن حفظ مصالح العباد من مقاصد الإسلام وحِكَمه العظام؛ وقد حرم الإسلام الرشوة كونها توصل الباذل إلى أخذ أموال الناس بالباطل.
وذم الإسلام الرشوة؛ لأنها تحجب العدل وتعمي عن الحق، وتكون سببا في ضياع الحقوق وإعطاء من لا يستحق ما ليس له، وقد نهى الله عباده عن أكل أموال الناس بالباطل؛ فقال الله -تعالى-: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 188].
وروى أبو حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "استعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزد، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "ما بال عامل أبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أو لا ! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه"(متفق عليه).
والرشوة -أيها المؤمنون- متفشية في واقعنا بسبب الأنانية والجشع وضعف الإيمان، ولها أشكال متعددة وصور متنوعة؛ فمن ذلك:
بذل الراشي بعض ماله لنيل ما ليس له بالباطل، فيظلم الراشي نفسه بأكله أموال الناس بالعدوان ويظلم الآخرين بسلب حقوقهم، وكذلك يظلم المرتشي نفسه وأصحاب الحق بالمحاباة في أحكام الله؛ فيأكل كل واحد منهما ما ليس من حقه ويكتسب حرامًا، لا ينفعه بل يضره ويمحق ماله، أو بركة ماله إن بقي المال.
ومن صور الرشوة: ما يكون في الحكم فيقضى، من أجلها لمن لا يستحق أو يمنع من يستحق أو يقدم من غيره أحق بالتقديم.
ومن صورها: ما يكون عند تنفيذ الأحكام؛ فيتهاون من عليه تنفيذه بتنفيذه من أجل الرشوة؛ سواء كان ذلك بالتراخي في التنفيذ، أو بعمل ما يحول بين المحكوم عليه، وألم العقوبة إن كان الحكم عقوبة.
أيها المؤمنون: تلكم -بعضا- من صور الرشوة ومظاهرها، واعلموا أن الرشوة لا تأتي بخير، ولا ينال الراشي والمرتشي من ورائها إلا الشقاء والعنت، ومحق البركة في نفسه وماله وأهله، وخسارة دنياه وآخرته، وإليكم بعض آثارها:
أن الرشوة سبب مباشر لعدم إجابة الدعاء: لأن الحرام يوصد أبواب السماء أمام الداعي؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلي الله عليه وسلم- "إن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال -تعالى-: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)، وقال -تعالى-: (يا أيها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم)، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟"(رواه مسلم).
ومن آثار الرشوة: إعانة الراشي للمرتشي على الظلم، والله -تعالى- يقول: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)[هود: 113]، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ"(أخرجه الحاكم).
ومنها: أنها تؤدي إلى اختلال ميزان العدالة في المجتمع، وإحداث خلل فيه، قد يؤدى إلى ضياعه وانهياره، يقول ابن تيمية -رحمه الله -تعالى-: "إن الله -تعالى- ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ويخذل الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة".
فاتقوا الله واحذروا من الرشوة الموجبة للخيبة ونزع البركة والخسارة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: عرفتم حقيقة الرشوة وحكم الإسلام فيها وصورها ومظاهرها وآثارها المدمرة لدين الراشي والمرتشي ودنياهما؛ وحسبها قبحا وشؤما أن الله -تعالى- توعد الله الراشي والمرتشي بالعقوبات العاجلة والآجلة؛ فمنها:
أن الله لعن الراشي والمرتشي وطردهما من رحمته؛ كما روى الأئمة الأعلام عن خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-؛ أن قال: "لعن الله الراشي والمرتشي"(رواه الترمذي)، إضافة إلى محق بركة المال. فكيف يرضى عاقل أن يعرض نفسه لعقوبة الله، كيف يرضى أن يذهب دينه وأمانته من أجل حطام الدنيا لا يدري لعله لا يأكله فيموت قبل أن ينعم به كيف يليق بالعاقل، أن يسعى في فساد المجتمع وهلاكه.
ومن عقوبات الرشوة في الآخرة: أن الله -تعالى- أوجب النار على الراشي والمرتشي، والعياذ بالله، كما جاء من حديث عبدا لله بن عمْرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "الرَّاشِي والْمُرْتَشِي فِي النّار"(رواه الطبراني).
أخيرا: هناك سؤال يطرح وتساؤل يتردد عن حكم دفع الرشوة لاسترجاع حق أو دفع باطل؟
والجواب على ذلك بينه طائفة من أهل العلم وأفادوا بجواز ذلك وفق شروط وضوابط؛ فمن تلك الشروط:
أن يتيقن من يدفع المال أنه لا يستطيع التوصل إلى دفع هذا الظلم، أو رد هذا الحق إلا إذا دفع رشوة لمن بيده القدرة علي ذلك، والإثم هنا يقع على الآخذ دون المعطي، وذلك لأن المشقة تجلب التيسير، والله -تعالى- يقول: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)[البقرة: 286]، ورفع الحرج له أصل في الشريعة، شريطة أن تقدر الضرورة بقدرها، وقال -تعالى-: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 173].
ومنها: ألا يستحل ذلك، بل يستنكره في نفسه على الأقل، ويستغفر الله -تعالى- من ذلك، و ألا يؤدي ذلك إلى تفويت حق الأخرين.
فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا ما نهاكم الله عنه وحرمه عليكم وجعله بينكم محرما، واعلموا أن الرشوة من الإثم والعدوان الذي نهى الله عنه بقوله: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2]، والرشوة من السحت الذي وصف الله به اليهود؛ فقال -تعالى-: (سماعونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ)[المائدة: 42]، والرشوة من السحت كما فسر الآية به ابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره.
أيها المسلمون: احذروا الرشوة بشتى صورها وأشكالها وحذروا منها؛ فإن عواقبها أليمة وآثارها جسيمة كما سمعتم.
اللهم اكفنا بحلاك عن حرامك وأغننا بفضلك عمن سواك.
وصلوا وسلموا على البشير النذير حيث أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال في كتابه الحكيم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات