عناصر الخطبة
1/النظر الثاقب والفكر الراشد وسيلة أولي البصائر لنيل رضا الله تعالى 2/حرص المؤمنين على ما حصَّلوه من أعمال صالحات 3/المعنى الحقيقي للإفلاساقتباس
إنَّه -يا عباد الله- لَتصويرٌ بديعٌ، وبيانٌ رفيعٌ، ومعالَجةٌ دقيقةٌ بارعةٌ، جُمعت مقاصِدُها في خطابٍ جامعٍ، قلَّ عددُ حروفِه وألفاظِه، وكثرَتْ معانيه ومراميه، والمرادُ به -كما قال أهل العلم-: أنَّ هذه هي حقيقة المُفلس...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنار بصائرَ أُولي النهى بهدي كتابه المبين، وأقام معالم الحق والهدى للعالمين، وأضاء جنبات نفوسهم بسنة خاتم النبيين، أحمده -سبحانه- وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أوضَح معالِمَ الطريق للسالكينَ، ونصَح الأمةَ مُشفِقًا حريصًا رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فاتَّقُوا الله -عبادَ اللهِ-، فإن التقوى سبيل الأيقاظ، ونَهْج أُولِي النُّهى، وطريق أُولِي الأبصار، بها الأمن من العثار، والفوز بالجَنَّة، والنجاة من النار؛ (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النُّورِ: 52].
أيُّها المسلَّمون: إنَّ النظرَ الثاقبَ، والفِكرَ الراشدَ، والبصيرةَ الواعيةَ، والقلبَ السليمَ؛ كلُّ أولئكَ ممَّا يبتغي أولو الألباب به الوسيلةَ إلى نَيْل المنى، وبلوغ الآمال، والظَّفَر بالمقاصد، والحُظوة بالسعادة، في العاجلة والعُقبى، فتَرَاهُم من أجل ذلك ساعينَ بكلِّ سبيلٍ، متوسِّلينَ بكلِّ وسيلةٍ، للتمييز بين الخبيث والطَّيِّب، والفَصْل بين الزَّبَد الذي يَذهَب جُفاء، وبين ما ينفع الناسَ ويمكث في الأرض، وتجِدُهم مع قوة الباعث، وشدَّة الرَّغَب، وكمال الطَّلَب؛ قد أُوتُوا حظًّا من هذا الحسِّ المُرهف، والتحرُّج الطَّهور، والإشفاق الوَجِل أن يُلفوا في بنيانهم الراسخ الذي شادُوه شيئًا من الفُتُوق، أو بَعْضًا من الشُّقُوق، التي تُفضي إلى تسرُّب شيءٍ قليلٍ ممَّا ادُّخِر فيه من كنوز الأعمال، وذخائر الباقيات الصالحات، التي صُرفت في جَمْعِها نفائسُ الأيام، لأنهَّم يَستَيقِنُون أنَّ ذهابَ الأقل مُؤذِنٌ بذهاب الأكثر، وأنَّ التفريطَ في اليسير باعِثٌ على التفريط في الخطير، وأنَّ الاستهانة بالصغائر مَدرَجةٌ إلى الوقوع في الكبائر، خاصةً إذا اجتَمَع إلى ذلك استخفافٌ بالأمور، واستدامةٌ لأسبابها، واستبقاءٌ لأصولها، وتقاعُسٌ عن تدارُك الفارط، وجَبْر الكَسْر، وإقامة المُعوجِّ، ومثل أُولِي الألباب في نهجهم المضيء هذا مثل صاحب الأرصدة المدَّخَرة، تلك الأرصدة الماليَّة الماديَّة التي أجهد في جمعها نفسه، وأضنى فؤاده؛ لتكون العدة وقت الشدة، والوقاية التي تقيه صروف الليالي، وفواجع الأيام؛ فهو لذلك مجتهد في حفظها وتنميتها وتثميرها، حذر من تبديدها وإضاعتها.
عبادَ اللهِ: إنَّ هذا الفريقَ اليَقِظَ الذي يدَّخِر الباقياتِ الصالحاتِ، لَينهَجُ هذا النهجَ الراشدَ، ويَمضِي على هذا الطريق المُستقيم، مُقتفيًا أثرَ النبيِّ الكريمِ -صلوات الله وسلامه عليه-، مترسِّمًا خُطاه، مستمسِكًا بهَديه المبثوث في الصحيح من سُنَّته، والثابت من حديثه وسيرته، فمِمَّا صحَّ وثبَت عنه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- هذا الحديثُ العظيمُ يُحدِّث به -عليه الصلاة والسلام-، موردًا إيَّاه في صورةٍ استفهاميَّة متفرِّدة، حَفَلَ بها الخطابُ النبويُّ الكريمُ، في حشدٍ وافرٍ من نصوصه الصحيحة الثابتة؛ لأنَّ فيها تنبيهًا للعقول، وشَحْذًا للأذهان، وتمكينًا للفَهْم، وباعثًا على كمالِ الحفظِ وتمامِ الضبطِ، فقد أخرَج مسلمٌ في صحيحه، والترمذي في جامعه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: "أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَنْ لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ -صلى الله عليه وسلم-: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي مَنْ يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قَدْ شَتَمَ هذا، وَقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مَالَ هذا، وَسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا؛ فيُعْطَى هذا مِنْ حَسَناتِهِ، وهذا مِنْ حَسَناتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه؛ أُخِذَ مِنْ خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه؛ ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ".
وإنَّه -يا عباد الله- لَتصويرٌ بديعٌ، وبيانٌ رفيعٌ، ومعالَجةٌ دقيقةٌ بارعةٌ، جُمعت مقاصِدُها في خطابٍ جامعٍ، قلَّ عددُ حروفِه وألفاظِه، وكثرَتْ معانيه ومراميه، والمرادُ به -كما قال أهل العلم-: أنَّ هذه هي حقيقة المُفلس، وأمَّا مَنْ ليس له مال، ومَنْ قَلَّ مالُه، فالناسُ يُسمُّونه مُفلِسًا، وليس هو -حقيقةً- المُفلس؛ لأنَّ هذا أمرٌ يزول وينقطع بموته، وربمَّا ينقطع بيَسارٍ يَحصُل له بعدَ ذلك في حياته، وإنَّما حقيقة المُفلس هذه المذكورة في الحديث؛ فهو الهالِك الهَلَاكَ التامَّ، والمعدومَ الإعدامَ المُفظعَ؛ حيث تُؤخذ حسناتُه لغرمائه، فإذا فرغَتْ حسناتُه؛ أُخِذَ من سيئاتهم فوُضعت عليه، ثم أُلقي في النار؛ فتمَّت خسارتُه، وهلاكُه، وإفلاسُه.
فليس عَجَبًا إِذَنْ أن يَعِيَ أولو الألباب من هذا البيان النبوي الكريم أنَّ ما يَرصُدُه المرءُ من أعماله في دنياه، وما يدَّخره منها لأُخراه؛ موقوفٌ على شَفَا خطرٍ داهمٍ؛ هو الانتقاصُ منه شيئًا بعدَ شيء؛ حتى تَذوِيَ زَهرتُه، ويجفَّ أَخضَرُه، ويَنضُبَ مَعِينُه، ويَنفَد مخزونُه، في رُكامٍ مجموعٍ وتحتَ أحمالٍ ثِقالٍ من حقوق العباد، الذين بَغَى عليهم في الحياة الدنيا بغيرِ الحقِّ، واستطالَ عليهم بغيرِ القِسطِ، فقامت عندَه للظُّلْم سوقٌ رائجةٌ، وارتفعَتْ بساحتِه للبغيِ راياتٌ شاهدةٌ، فكانت العاقبةُ عندَ ذلك إفلاسًا هو الإفلاسُ حقًّا؛ لأنَّه لا ملجأَ ولا مَنجَى منه إلا بالإنفاق من العُملة التي بدَّد، والرصيد الذي بعثَر وسحَب، والحسابِ الجاري الذي أغلَق وأَوْقَفَ، وأنَّى لمثل هذا المُفلس أن يستعيد شيئًا ممَّا فَقَدَ، وقد نَفِدَتْ عُملةُ الحسنات، وفَنِيَ رصيدُ الأعمال، ونَضَبَ مَعِينُ الحساب الجاري من ذخائر الباقيات الصَّالحات؛ فاحرصوا -رحمكم الله- على الحفاظ على أرصدتكم من هذه الباقيات الصالحات، وحذارِ من البَغْيِ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، والاستطالةِ على الخَلْق، بأيِّ لونٍ من ألوان الظلم، وفي أي صورة من صُوَر العُدوان، مَهمَا كان الباعثُ عليه، وأيًّا ما كانت الذريعة الموصلة إليه؛ وبذلك تُصان الأرصدةُ، وتُحرَس الذخائرُ، لتكون العدةَ في يوم الشدة، يوم اللقاء، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 6].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[يُونُسَ: 23].
نفعني اللهُ وإيَّاكم بهديِ كتابِه، وبسُنَّةِ نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قَوْلِي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولكافَّة المسلمينَ مِنْ كلِّ ذنبٍ، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الولي الحميد، الفعَّال لِمَا يريد، أحمده -سبحانه-، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، الشافع المشفَّع، ذو النهج السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ذوي الفضل والتقى والخلق الرشيد.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّه لا تعارُضَ بين هذا الحديث الصحيح المبيِّن لحقيقة المفلِس، وبين قوله -سبحانه-: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[الْأَنْعَامِ: 164]؛ فإنَّ المُفلس -كما قال أهلُ العلم-: "إنَّما عُوقِبَ بفعله، ووِزْرِه وظُلمِه، فتوجَّهت عليه حقوقٌ لغرمائه؛ فدُفعت إليهم من حسناته، فلمَّا فرغتِ الحسناتُ، وبقيتِ بقيَّةٌ من حقوق الغرماء، قُوبِلَتْ على حسبِ ما اقتضَتْه حكمةُ اللهِ -تعالى- في خَلقِه، وعَدلُه في عباده؛ فأُخِذَ قدرُ هذه الحقوق من سيئات خصومه، فوُضِعَ عليه، فعُوقِبَ به في النار، فحقيقةُ العقوبةِ إِذَنْ هي بسبب ظلمه، ولم يُعاقَبْ بغيرِ جنايةٍ وظُلمٍ منه"؛ وبهذا تجتمع الآية والحديث ولا يتعارضان.
فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأنَّ خيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدَثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار، فاستمسِكوا -أيها المسلمون- بِهَدْيِ الوحيينِ، وَاعمَلُوا بهذينِ النورينِ، تَكُنْ لكم العقبى في العاجلة والأخرى.
وصلُّوا وسلِّمُوا على خير الورى؛ فقد أمرَكم بذلك ربُّكم -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا ربَّ العالمينَ.
اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ المجاهدينَ الصادقين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع يوم التناد.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكَرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا ربَّ العالمينَ، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وَصَلَّى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات