عناصر الخطبة
1/ ذكرى الهجرة فرصة لاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام 2/قصة الهجرة وتفاصيلها 3/وجوب المحافظة على التاريخ الهجري 4/من دروس الهجرة: فن صناعة الأمل 5/الفرج بعد الشدة ويتبع الهزيمة النصر
اهداف الخطبة

اقتباس

لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة, وأوجفت قبائل العرب على أبوبكر مرتدة وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة؛ فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض, وهاجت الفتنة في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها؛ ثم عادات المياه إلى مجراها, فرأينا حكم عمر بن عبدالعزيز كيف فعل وكيف فتح في الأرض ومن قبله ومن بعده...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله جعل الهجرة فتحا ونصرا وعزا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام, وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله إمام المهاجرين ورسول الإسلام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

روحي بحبك في الضياء تهيم *** والشوق منى في هواك عظيم

والقلب مسرور بذكر محمد *** في ذكره نور و فيه نعيم

 

اللهم صلي وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم, ياخير البرية ويارسول البشرية, بلغت الرسالة وأديت الأمانة وجلوت الظلمة وكشفت الغمة وتركتنا على المحجة البيضاء, تكفل الله بعصمتك من الناس, آمنت فدعوت فجهرت بمكة فحربت وحصرت ومن مكة أخرجت.

 

أيها المسلمون: بعد أيام قليلة نفتتح عاما هجريا جديدا يذكرنا بسيرته -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه التي نحتاج لسردها لاسيما مع واقع أليم تعيشه أمتنا.

 

نتحدث عن هجرته -عليه الصلاة والسلام- لنطبقها على ما نراه من أحداث في عالمنا, كفأل حسن وأمل بالله عظيم, ونقتدي بخلالها برسولنا -صلى الله عليه وسلم- في إيمانه وصبره وجهاده وأخلاقه وفي ثباته وتضحيته وفي صفاته كلها العقيدة أغلى من الأرض.

 

جاءت هجرته -صلى الله عليه وسلم- بعد الرسالة بثلاث عشر عام, بعد أن جاء بإبلاغ دين الله ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله -جل جلاله- صابرا محتسبا, يؤذى في سبيل الله هو وأصحابه وهم صابرون, وقد جاء الإذن بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع الأوس والخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم.

 

فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة, فأذن الله لنبيه بالهجرة بعد ثلاث عشر سنة بلغ, رسالة ربه ودعا إليه على بصيرة بمكة, فلم يجد من أكثر قريش سوى الرفض لدعوته والإيذاء الشديد له ومن معه, بل بلغ الأذى إلى محاولة قتله -صلى الله عليه وسلم-.

 

حين اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاورا ماذا يفعلون به -صلى الله عليه وسلم-, لما رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة فاقترح أبو جهل الرأي أن نأخذ من كل قبيلة شابًّا جَلْدًا ثم نعطي كل واحد سيفا صارما ثم يعمد إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد؛ فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل, فلا يستطيع بنو عبد مناف يعني عشيرته أن يحاربوا قومه جميعا؛ فيرضون بالدية فنعطيهم إياها (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].

 

فأعلم الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بما أراد به المشركون, وأذن له بالهجرة وكان أبوبكر رضي الله تعالى عنه- قد تجهَّز من قبل للهجرة إلى المدينة, فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "على رِسْلك -أي: انتظر- فإنِّي أرجو أن يؤذن لي"، فتأخَّر أبو بكر -رضي الله عنه- ليصحبه.

 

تروي عائشة -رضي الله عنها-: فبيمنى نحن في بيتنا في منتصف النهار إذ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الباب متقنع, فقال أبوبكر: "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر جلل". فدخل عليه السلام وقال لأبي بكر: "أخرجْ من عندك", فقال: "إنما هم أهلُك بأبي أنت وأمي", فقال "قد أذن لي بالخروج", فقال أبوبكر: "الصحبة يا رسول الله", فقال له: "نعم".

 

تقول عائشة: فبكى أبي من الفرح, رضي الله عن أبي بكر الصديق وأرضاه يبكي من الفرح لأنه يرافق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رحلة المخاطر قد تذهب به روحه.

 

فقال أبوبكر: "يا رسول اللهُ: خذ إحدى راحلتي هاتين", فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نَعم بالثّمن".

 

عند عبدالله بن عدي الزهري أنه قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحزورة بمكة فقال: "وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ, وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ, وَلَوْلا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْـــكِ, مَا خَرَجْتُ" وعن ابن عباس قال -صلى الله عليه وسلم- في مكة: "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ, وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ, مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ".

 

قال ابن اسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمع المشركون على بابه يرصدونه متى نام ينقضون عليه, فأتى الفدائي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لينام مكانه -صلى الله عليه وسلم- أمام أعينهم وخرج -صلى الله عليه وسلم- من بيته موقنا بربه واثقا بأمله يخرج من بيته فينشر على رؤوسهم التراب وهم يحاصرونه وهو يقرأ عليهم (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) [يس:9].

 

وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نم فالمخاوف كلهن أمان

 

ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليالٍ, يبيتُ عندهما عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما-، وكان غلامًا شابًّا ذكيًّا واعيًا، فينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش فلا يسمع بخبر حول النبي -صلى الله عليه وسلم-  وصاحبه إلا حفِظَه حتى يأتي به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- من كل وجه وتسعى بكل وسيلة ليُدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: "مَن أتى بهما فلَهُ على واحد مائة من الإبل"، ولكن كان الله معهما يحفظهما بعنايته ويرعاهما برعايته, حتى إنّ قريشًا لَيقفون على باب الغار فلا يرونهما، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: قُلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-ونحن في الغار: "لو أنَّ أحدهم نظرَ إلى قدميه لأبْصرنا" فقال: "لا تحزن، إن الله معنا، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما".

 

وكان أبوبكر يسد خرق الغار بيديه ورجليه خشية أن يخرج منها شيء يؤذيه -صلى الله عليه وسلم-, حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليالٍ متَّجهَين إلى المدينة على طريق الساحل, فلحقهما سراقة بن مالك الـمُدلجي على فرس له, فالتفت أبو بكر فقال: "يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تحزن، إن الله معنا".

 

فدنا سراقة منهما حتى إذا كان بحيثُ يسمع قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غاصت يدا فرسه في الأرض مرتين أو ثلاثة, حتى مسَّ بطنُ الفرس الأرض وكانت أرضٌ صلبة فنزل سراقة وزَجَرها فنهضت.

 

قال سراقة: "فوقَعَ في نفسي أنْ سيظهر أمر رسول لله -صلى الله عليه وسلم-، فناديتهم بالأمان فوقفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومَن معه فركبتُ فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم, وعرضت عليهم الزاد والمتاع وقلت لهم: "إنك تَمُرُّ على إبلي وغنمي بمكان كذا فخُذْوا منها حاجتك".

 

فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حاجة لي في ذلك ولكن أخفِ عنّا" ووعده سوار كسرى, فرجَع سراقة وجعل لا يلقى أحدًا من الطلب إلا ردّه وقال لهم: "كفيتم هذه الجهة".

 

فسبحان الله! سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر! رجل ينطلق على فرسه طالبًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ليظفرَ بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينطلق حتى عاد ناصرًا مُعينًا مُدافعًا يعرضُ عليهما الزاد والمتاع, وهكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد وستكون العاقبة له.

 

يا طريدا ملأ الدنا اسمه *** وغدا لحنا على كل الشفاه

وغدت سيرته أنشودةً *** يتلقاها رواةٌ عن رواه

ليت شعري هل درى من طاردوا *** عابدوا اللات وأتباع مناه

طاردت في الغار من بوّءها ***سؤددا لا يبلغ النجم مداه

 

لـمَّا سمع أهل المدينة بخروجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرّة ينتظرون قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه, حتى يطردهم حرّ الشمس، فلمَّا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعالى النهار واشتدَّ الحر رجعوا إلى بيوتهم, فإذا برجل من اليهود على أُطمٍ من آطام المدينة ينظر لحاجة له فأبصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, فلم يملك هذا اليهودي أنْ نادى بأعلى صوته: "يا معشر العرب، هذا جدّكم؛ -يعني: حظّكم- وعزَّكم الذي تنتظرون".

 

فهبَّ المسلمون بلقاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعهم السلاح تعظيمًا وإجلالاً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإيذانًا باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه -رضي الله عنهم-، فتلقَّوه -صلى الله عليه وسلم- مستبشرين بظاهر الحرَّة فعدلَ بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء, وأقام فيهم بضع ليالٍ وأسَّس المسجد, ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقوّنه في الطرقات.

 

قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد".

 

وقال أنس بن مالك -رضي الله عنه-: "شهدت يوم دخل -صلى الله عليه وسلم- المدينة فلم أرى يوما أحسن منه ولا أضوء منه, وإني لأسعى بين الغلمان اليوم وأنا يومئذٍ غلام والناس يقولون: الله أكبر، جاء محمد، جاء محمد".

 

هكذا يردّد الناس هذه الكلمات فرحًا بمقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو أحبّ إليهم من نفوسهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور, دخل -صلى الله عليه وسلم- المدينة وكل قبيلةٍ من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته, وكلا يقول عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "دعوها فإنها مأمورة، وإنما أنزل حيث أنزلني الله -عزَّ وجل-".

 

فلمَّا انتهت البعير به إلى مكان مسجده برَكت فلم ينزل عنها حتى وثبت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أطلق لها الزمام, فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبَرَكت, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هذا إن شاء الله المنزل".

 

وكان هذا المنزل لغلامَيْن يتيمين فدعاهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساوَمَهما ليشتريه منهما فيتّخذه مسجدًا، فقالا: "بل نَهبُه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبةً حتى اشتراه منهما". وقال: "أيّ بيوتنا أقرب؟" قال أبو أيوب: "أنا يا رسول الله، هذه داري وهذا بابي، قال: فانطلِق فهيئ لنا مقيلاً ".

 

أقبِلْ فتلك ديارُ يثْربَ تُقبلُ *** يكفيكَ من أشواقها ما تحمِلُ

القومُ مُذْ فارَقْتُ مكةَ أعينٌ *** تأبَى الكَرَى وجوانحٌ تَتَمَلْمَلُ

يتطلَّعُون إلى الفِجاجِ وقولهُم *** أفَما يُطالِعُنا النبيُّ المرسَلُ

رفَّتْ نضارتُها وطابَ أريجُها *** وتدفَّقَتْ أنفاسُها تتسلسلُ

فكأنَّما في كلِّ دارٍ روضةٌ و*** كأنَّما في كُلِّ مَغْنَىً بُلْبُلُ

 

ثم جاء عبد الله بن سلام وكان حبر من أحبار اليهود فقال: "أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بالحق, وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم ابن أعلمهم, فادعهم واسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت؛ فإنهم إن علموا به قالوا في ما ليس بي".

 

فأرسل -صلى الله عليه وسلم- إلى اليهود فأتوا إليه, فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر يهود: ويلكم! اتّقوا الله، فو اللهِ الذي لا إله إلا هو إنكم لَتَعلمون أني رسول الله حقًّا وأني جئتكم بالحق؟", قالوا: "ما نعلم هذا",  قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فأيّ رجل فيكم عبد الله بن سلام؟" قالوا: "هو سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا"، قال: "أرأيتم إن أسلم؟" قالوا: "حاشا لله ما كان ليُسلم"، قال: "أرأيتم إن أسلم؟" قالوا: "حاشا لله ما كان ليُسلم"، قال: "أرأيتم إن أسلم؟" قالوا: "حاشا لله ما كان ليسلم".

 

وكان عبد الله بن سلام قد اختبأ لينظر ما يقولون، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ياابن سلام: اخرج عليهم" فخرجَ عليهم فقال: "يا معشر اليهود: اتَّقوا الله، فو اللهِ الذي لا إله إلا هو إنّكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق؟" فقالوا له: كذبت،  فأخرجهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال ابن سلام للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألم أُخبرك - يارسول الله - أن اليهود قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور".

 

هذه هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من بلده ليقيم دعوة الله ويصلح بها عباد الله,  هذه الهجرة وفيها من الفوائد والعبر ما لا يحصيه البشر, ولذلك اتفق الصحابة زمن عمر على التوريخ بها؛ لأن الله فرق بها بين الحق والباطل وجعلوا بداية العام من شهر الله المحرم لحرمته وختام العام بشهر ذي الحجة لختام الحج, رغم أنها وقعت في شهر ربيع الأول.

 

والحرص على المحافظة على التاريخ الهجري علامة على الإسلام, يريد الكثيرون مع الأسف إزالتها والتشبه بتاريخ العجم, ومن ثم تقليدهم في مناسباتهم وأعيادهم الباطلة, وهذا ما نراه حصل في بعض بلاد الإسلام.

 

كذلك لم يرد شيء بالاحتفال بذكرى الهجرة إلا بذكر العبر وقصصها أما غير ذلك فلم يرد.

 

فاتقوا الله -عباد الله- واهجروا المعاصي لتقوموا بإحدى الهجرتين ومن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه, ومن اتقى وأحسن كان الله معه, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:40].

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا.

 

أما بعد: عباد الله اتقوا الله -تعالى- وتوبوا إليه.

 

عباد الله: ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل والفأل الحسن, فمن يدري ربما كانت هذه المصائب باب إلى خير مجهول ورب محنة في طيها منحة, أوليس الله يقول: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ) [البقرة: 216].

 

لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة, وأوجفت قبائل العرب على أبوبكر مرتدة وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة؛ فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض, وهاجت الفتنة في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها؛ ثم عادات المياه إلى مجراها, فرأينا حكم عمر بن عبدالعزيز كيف فعل وكيف فتح في الأرض ومن قبله ومن بعده.

 

ثم جاء الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها في القدس حتى اذا استيأس ضعيف الإيمان ظهر نور الدين ثم  صلاح الدين؛ فطهرت بلاد الإسلام من الصليبين وابتسم بيت المقدس من جديد.

 

وقويت شوكة الرافضة حتى سيطروا على بغداد, والفاطميون العبيدون على مصر وكتبت في ذلك الوقت بمصر مسبة الصحابة, ثم انقشعت الغمة بسقوطهم وعزة أهل السنة.

 

وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد, وقتلوا فيها وحدها مليون مسلم وقيل ذهب المسلمون, بل إن المؤرخين نعوا الإسلام فكسر الله أعداءه في عين جالوت على أبطال مصر والشام وما بعدها وعاد للأمة مجدها.

 

وهكذا يعقب الفرج الشدة ويتبع الهزيمة النصر ويأذن الفجر على أزيل ليل مهزول, واليوم ونحن نرى حركات تريد التصحيح في عالمنا العربي, وانقشاع ليل الظلم والطغيان وانتحار الفساد الذي عسا بالأمة ومقدراتها, وما نراه من الظلم والطغيان الذي يحيط بإخواننا في أرض الشام على يدي الرافضة النصيريون, ممن يقتل ويتعدى وينتهك الأعراض حتى هجر أهلها ونيل من أعراضهم, وجاعوا حتى أكلوا كما رأينا بعض المقاطع حتى أكلوا لحوم القطط في ضواحي دمشق حاضرة الإسلام وتاريخه.

 

وهذه ثورتهم منذ ثلاث سنوات والعالم يتفرج ولا حول ولا قوة إلا بالله, ولكنها المنحة في طيات المحنة, والأمل بالله عظيم بالنصر على هؤلاء الطغاة فلا يأس (وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ)

 

قال ابن مسعود -رضي الله عنه- "أكبر الكبائر الإشراك بالله, والأمن من مكر الله والقنوت من رحمة الله واليأس من روح الله".

 

إذا اشتملتْ على اليأس القلوبُ *** وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ

وأوطنت المكارهُ واستقرت *** وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوْبُ

ولم ترَ لانكشاف الضرِّ وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريبُ

أتاكَ على قنوطٍ منك غوثُ *** يمنُّ به اللطيفُ المستجيبُ

وكلُّ الحادثاتِ اذا تناهتْ *** فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرْيَبُ

 

فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام, يا من احترقت قلوبهم على آلامها: لا يبلغن بكم اليأس مبلغا فإن الذي أهلك فرعون وعاد وثمود, والذي رد التتار ودحر الصليبين, قادر على أن يمزق شمل أعداء الإسلام والظلمة والطغاة والمتآمرين على الإسلام وأهله, وأن يبدد غطرسة اليهود, ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة وأن يطهر المسجد الأقصى.

 

وأنت كذلك يا من ابتلاك الله في رزقك أو في صحتك أو في ولدك, أنت يا من جاهدك الفقر وانهكتك العلل وأخذ الموت أحبابك, وعدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد, جدد الأمل بالله اتخذ من الهجرة أملا بالله.

 

لابد أن نجدد الأمل مع الله استفادة من هجرته -صلى الله عليه وسلم- وألا ننسى رحمته وفضله.

 

اللهم ارزقنا محبة نبيك وإتباع سنته والاقتداء بهديه والاستفادة من خلقه وشرعه واحشرنا في زمرته ..

 

 

 

 

المرفقات
حديث الهجرة.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life