عناصر الخطبة
1/ مفهوم التسريح بإحسان 2/تفريق الطلاق 3/البعد عن الطلاق بنية الحرمان من التركة. 4/تجنب الطلاق البدعي 5/نهي الشرع عن إخراج الزوجة من بيت الزوجية في الطلاق الرجعي.اقتباس
يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَقَالَ: لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ أَنْ يَذْكُرَ لِلنَّاسِ عَيْبَ أَهْلِهِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ وَتَزَوَّجَتْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَحَدَّثَ عَنِ امْرَأَةِ غَيْرِي؛ هَكَذَا يَصْنَعُ الْعُظَمَاءُ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ لِلطَّلَاقِ حِكَمًا وَمَقَاصِدَ يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ أَنْ يَعْرِفُوهَا، وَيَقْتَدُوا بِهَدْيِهَا، فَهُوَ عِلَاجٌ لِمَشَاكِلَ قَدِ اسْتَعْصَتْ عَلَى الْحِلِّ، وَلِقُلُوبٍ نَفَرَتْ حَتَّى لَمْ يَعُدْ لِلَمِّ شَمْلِهَا مِنْ سَبِيلٍ، وَحِينَ يُسْتَخْدَمُ الطَّلَاقُ كَمَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَشَرَعَهُ يَكُونُ الْفِرَاقُ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ، دُونَ إِيغَارِ الصُّدُورِ، وَدُونَ إِيقَادِ نِيرَانِ الشُّرُورِ، وَلِلطَّلَاقِ آدَابٌ وَأَحْكَامٌ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَقَّهَ فِيهَا، وَهُوَ مَا تَتَنَاوَلُهُ هَذِهِ الْخُطْبَةُ فِي تَرْكِيزٍ وَإِيجَازٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: وَالشَّرْعُ جَعَلَ الطَّلَاقَ حَلًّا بَعْدَ نَفَادِ كَافَّةِ سُبُلِ الْحُلُولِ وَوَسَائِلِ مُعَالَجَةِ الْمُشْكِلَاتِ؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِيهِ وَلَا ضِرَارَ، وَهُوَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُجَاوِزٍ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ عِبَادِهِ.
وَالطَّلَاقُ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، وَلَهُ شُرُوطٌ يَجِبُ عَلَى الْمُطَلِّقِ أَنْ يَنْتَبِهَ لَهَا، وَمِنْهَا:
التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ:229]؛ فَمِنَ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ: أَلَّا يَظْلِمَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ بِطَلَاقِهِ لَهَا.
وَمِنَ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ: أَلَّا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا مِمَّا وَهَبَهُ إِيَّاهَا، (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا...).
وَمِنَ التَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ أَلَّا يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَمِنْهُ أَلَّا يَذْكُرَهَا بِسُوءٍ بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَلَا يُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[الْبَقَرَةِ:237].
يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ طَلَاقِهَا وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا فَقَالَ: لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ أَنْ يَذْكُرَ لِلنَّاسِ عَيْبَ أَهْلِهِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَبَانَتْ وَتَزَوَّجَتْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَحَدَّثَ عَنِ امْرَأَةِ غَيْرِي؛ هَكَذَا يَصْنَعُ الْعُظَمَاءُ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ.
وَقَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)[الْبَقَرَةِ:231].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي التَّسْرِيحِ بِمَعْرُوفٍ: "يُخْرِجُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، مِنْ غَيْرِ شِقَاقٍ وَلَا مُخَاصَمَةٍ وَلَا تَقَابُحٍ"، (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا) قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ يُطَلِّقُ الْمَرْأَةَ، فَإِذَا قَارَبَتِ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا؛ ضِرَارًا؛ لِئَلَّا تَذْهَبَ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ يُطَلِّقَهَا فَتَعْتَدَّ، فَإِذَا شَارَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلَّقَ؛ لِتَطُولَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)؛ أَيْ: بِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ -تَعَالَى-".
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنْ حُدُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الطَّلَاقِ: تَفْرِيقُ الطَّلَاقِ وَعَدَمُ جَمْعِهِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَمَجْلِسٍ وَاحِدٍ، كَأَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ دُفْعَةً وَاحِدَةً؛ وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَمْعَ الطَّلَاقِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مِنَ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ:229].
وَالْمَعْنَى: "الطَّلَاقُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الرَّجْعَةُ مَرَّتَانِ، وَاحِدَةٌ بَعْدَ الْأُخْرَى، فَحُكْمُ اللَّهِ بَعْدَ كُلِّ طَلْقَةٍ هُوَ إِمْسَاكُ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ بَعْدَ مُرَاجَعَتِهَا، أَوْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا مَعَ حُسْنِ مُعَامَلَتِهَا بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا، وَأَلَّا يَذْكُرَهَا مُطَلِّقُهَا بِسُوءٍ".
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "إِنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ [الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ] طَلَاقًا يَمْلِكُ فِيهِ رَدَّ الْمَرْأَةِ إِذَا شَاءَ... فَإِذَا جَمَعَ الْمَرَّتَيْنِ وَالْمَرَّاتِ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ -تَعَالَى- وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُهُ".
انْظُرُوا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- فِي حِكْمَةِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؛ فَالزَّوْجُ قَدْ يَسْتَعْجِلُ بِالطَّلَاقِ، وَيَتَلَفَّظُ بِهِ فِي سَاعَةِ غَضَبٍ فَيُوقِعُهُ ثَلَاثًا، وَقَدْ يَقَعُ عَلَيْهِ ثَلَاثًا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا تَحِلُّ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَحِينَ يَهْدَأُ ذَلِكَ الزَّوْجُ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبِهِ، وَيَعُودُ إِلَى رُشْدِهِ بَعْدَ مُبَادَرَةِ طَيْشِهِ؛ يَنْدَمُ نَدَمًا كَبِيرًا، وَلَكِنَّ هَذَا النَّدَمَ قَدْ لَا يَنْفَعُهُ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الزَّوْجُ الْمُتَعَجِّلُ بِطَلَاقِهِ، وَحَصَلَ لَهُ النَّدَمُ بَعْدَ فِرَاقِهِ:
أَيَا حُزْنًا وَعَاوَدَنِي رَدَاعِي ** وَكَانَ فِرَاقُ لُبْنَى كَالْخِدَاعِ
تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَأَزْعَجُونِي ** فَيَا لِلَّهِ لِلْوَاشِي الْمُطَاعِ
فَأَصْبَحْتُ الْغَدَاةَ أَلُومُ نَفْسِي ** عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ بِمُسْتَطَاعِ
كَمَغْبُونٍ يَعَضُّ عَلَى يَدَيْهِ ** تَبَيَّنَ غَبْنُهُ بَعْدَ ابْتِيَاعِ!!
وَلَكِنْ حِينَ يَلْتَزِمُ الزَّوْجُ بِهَذَا الْحَدِّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَيُفَرِّقُ الطَّلَاقَ: طَلْقَةً طَلْقَةً، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّدَارُكُ، وَقَدْ يَنْفَعُهُ النَّدَمُ؛ إِذْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُرَاجِعَ زَوْجَتَهُ، بَلْ قَدْ يَحْجِزُهُ ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِعْجَالِ بِالطَّلَاقِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَمِنْ حُدُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الطَّلَاقِ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- الْبُعْدُ عَنِ الطَّلَاقِ بِنِيَّةِ الْحِرْمَانِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ فَكَمْ مِنْ رِجَالٍ لَا يَتَّقُونَ اللَّهَ -تَعَالَى- فِي زَوْجَاتِهِمْ، حَتَّى فِي آخِرِ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِمْ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِمُ الْهَوَى وَالشَّيْطَانُ وَهُمْ عَلَى قُرْبِ الرَّحِيلِ مِنَ الدُّنْيَا فَيَقُومُونَ بِتَطْلِيقِ زَوْجَاتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ حِرْمَانِهِنَّ مِنْ تَرِكَاتِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا بِسَبَبِ مُشْكِلَاتٍ عَائِلِيَّةٍ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ، فَيُرِيدُ الزَّوْجُ أَنْ يَنْتَصِرَ لِنَفْسِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ فَيَحْرِمَهَا مِنَ الْمِيرَاثِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الظَّالِمَةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الطَّلَاقُ عَلَى الزَّوْجَةِ الثَّانِيَةِ بِطَلَبٍ مِنَ الزَّوْجَةِ الْأُولَى أَوْ أَوْلَادِهَا؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ جَاءَتْ تُشَارِكُهُمْ فِي أَمْوَالِ أَبِيهِمْ.
أَمَّا مِنَ النَّاحِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي حُكْمِ هَذَا الطَّلَاقِ إِذَا حَصَلَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ: "إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَقَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ يَقْصِدُ حِرْمَانَ الزَّوْجَةِ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَإِنَّهَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ -غَيْرَ الشَّافِعِيَّةِ- تَرِثُهُ إِنْ مَاتَ فِي الْعِدَّةِ، وَكَذَا بَعْدَ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ؛ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَهَذَا هُوَ طَلَاقُ الْفِرَارِ".
"وَجَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَغَيْرُهُ أَنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَرَّثُوا الْمُطَلَّقَةَ الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ؛ حَيْثُ يُتَّهَمُ بِقَصْدِ حِرْمَانِهَا الْمِيرَاثَ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدِ الْحِرْمَانَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذَرِيعَةٌ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُتَّهَمْ فَفِيهِ خِلَافٌ".
أَلَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ كُلُّ زَوْجٍ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا مَعَ زَوْجَتِهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ، وَلْتَتَّقِ اللَّهَ كُلُّ زَوْجَةٍ تُحَرِّضُ زَوْجَهَا عَلَى ضُرَّتِهَا بِهَذَا الْفِعْلِ الظَّالِمِ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ الْأَبْنَاءُ وَالْبَنَاتُ أَنْ يَدْفَعُوا أَبَاهُمْ لِهَذَا الْفِعْلِ الْجَائِرِ مَعَ زَوْجَتِهِ الثَّانِيَةِ أَوْ زَوْجَاتِهِ الْأُخْرَيَاتِ غَيْرِ أُمِّهِمْ؛ فَإِنَّ الدُّنْيَا ذَاهِبَةٌ، وَأَمْوَالَهَا زَائِلَةٌ، وَلَنْ يَبْقَى إِلَّا الْعَمَلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْحِسَابُ بَيْنَ يَدَيْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ:281].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ.
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ حُدُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الطَّلَاقِ: تَجَنُّبُ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ؛ فَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- الطَّلَاقَ، وَلَكِنْ دَعَا إِلَى إِيقَاعِهِ حَسْبَ شَرْعِهِ الَّذِي شَرَعَهُ؛ بِأَنْ يَكُونَ مُفَرَّقًا، وَأَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ غَيْرِ مُجَامَعٍ فِيهِ، وَأَلَّا يَكُونَ فِي حَالِ حَيْضِ الزَّوْجَةِ أَوْ نِفَاسِهَا؛ لِأَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ، وَيَدْفَعُ الْمَفْسَدَةَ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطَّلَاقِ:1]، وَقَوْلُهُ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)[الطَّلَاقِ:1]، أَيْ: طَاهِرَاتٍ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَلِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمَّا طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمُرَاجَعَتِهَا.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُطَلِّقَ طَلَاقًا بِدْعِيًّا، سَوَاءٌ فِي الْعَدَدِ أَوِ الْوَقْتِ؛ لِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)[الْبَقَرَةِ :229].
غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ مُبَايِنًا لِهَذَا الطَّرِيقِ، فَجَاءُوا بِطُرُقٍ فِي الطَّلَاقِ دَخَلَتْ تَحْتَ مُسَمَّى الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ؛ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الزَّوْجُ زَوْجَتَهُ فِي حَالِ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا، وَهَذَا فِيهِ أَضْرَارٌ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَالِ نُزُولِ طَمْثِهَا تَتَغَيَّرُ أَخْلَاقُهَا فَقَدْ تَسُوءُ، وَهَذَا قَدْ يَسْتَدْعِي الزَّوْجَ إِلَى طَلَاقِهَا، فَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُرَاعِيَ هَذِهِ الْمَشَاعِرَ الْمُتَغَيِّرَةَ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَيَصْبِرَ وَيُمْسِكَ لِسَانَهُ عَنِ الطَّلَاقِ.
وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الْبِدْعِيُّ كَالسُّنِّيِّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ بِمُرَاجَعَةِ زَوْجَتِهِ، وَلَا تَكُونُ الرَّجْعَةُ إِلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَحِينَئِذٍ تُحْسَبُ هَذِهِ التَّطْلِيقَةُ مِنْ طَلَاقِهَا.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ حُدُودِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الطَّلَاقِ: الِابْتِعَادُ عَنْ إِخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنَ الْبَيْتِ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ لِأَنَّ إِبْقَاءَهَا فِي الْبَيْتِ أَدْعَى لِمُرَاجَعَتِهَا، وَالْعَوْدَةِ إِلَى رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِسْلَامُ حَرِيصٌ عَلَى لَمِّ الشَّمْلِ، وَعَوْدِ الزَّوْجِ إِلَى زَوْجَتِهِ، إِلَّا إِذَا جَاءَتْ بِفَاحِشَةٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)[الطَّلَاقِ:1]؛ قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي تَفْسِيرِهِ: "فَـ (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) مُدَّةَ الْعِدَّةِ، بَلْ تَلْزَمُ بَيْتَهَا الَّذِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ فِيهِ". (وَلَا يَخْرُجْنَ) أَيْ: لَا يَجُوزُ لَهُنَّ الْخُرُوجُ مِنْهَا، أَمَّا النَّهْيُ عَنْ إِخْرَاجِهَا فَلِأَنَّ الْمَسْكَنَ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ لِتُكْمِلَ فِيهِ عِدَّتَهَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِ.
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ خُرُوجِهَا فَلِمَا فِي خُرُوجِهَا مِنْ إِضَاعَةِ حَقِّ الزَّوْجِ وَعَدَمِ صَوْنِهِ، وَيَسْتَمِرُّ هَذَا النَّهْيُ عَنِ الْخُرُوجِ مِنَ الْبُيُوتِ، وَالْإِخْرَاجِ إِلَى تَمَامِ الْعِدَّةِ، (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أَيْ: بِأَمْرٍ قَبِيحٍ وَاضِحٍ، مُوجِبٍ لِإِخْرَاجِهَا، بِحَيْثُ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ الضَّرَرُ مِنْ عَدَمِ إِخْرَاجِهَا، كَالْأَذَى بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْفَاحِشَةِ، فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يَجُوزُ لَهُمْ إِخْرَاجُهَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَسَبَّبَتْ لِإِخْرَاجِ نَفْسِهَا، وَالْإِسْكَانُ فِيهِ جَبْرٌ لِخَاطِرِهَا، وَرِفْقٌ بِهَا، فَهِيَ الَّتِي أَدْخَلَتِ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهَا، وَهَذَا فِي الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ".
أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ -أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ- وَالْزَمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي أَمْرِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَسْتَهِينُوا بِحُكْمِ اللَّهِ فِيهِ، فَسَرِّحُوا زَوْجَاتِكُمْ بِإِحْسَانٍ؛ تُؤْجَرُوا، وَفَرِّقُوا الطَّلَاقَ وَلَا تَجْمَعُوهُ؛ حَتَّى لَا تَنْدَمُوا، وَتَجَنَّبُوا الطَّلَاقَ بِقَصْدِ الْحِرْمَانِ مِنَ التَّرِكَةِ؛ حَتَّى لَا تَأْثَمُوا، وَابْتَعِدُوا عَنِ الطَّلَاقِ الْبِدْعِيِّ لِكَيْلَا تَعْصُوا، وَلَا تُخْرِجُوا زَوْجَاتِكُمْ مِنَ الْبُيُوتِ عِنْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ؛ فَلَعَلَّكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا وَتُرَاجِعُوا، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الْبَقَرَةِ :229].
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْوَقَّافِينَ عِنْدَ حُدُودِهِ، الْعَامِلِينَ بِشَرْعِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات