عناصر الخطبة
1/حث الإسلام على العمل والتكسب 2/فضل العمل والتكسب ومنزلة أهله 3/آداب العمل والتكسب 4/أسوة الساعين وقدوة العاملين.اقتباس
ومما يدل على عناية الإســلام بالعمل والعناية به؛ أنه عد العمل والسعي على الأهل والولد نوع من أنواع الجهاد، وما ذلك إلا لمنزلته وفضــله؛ فعن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: "مر على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فرأى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المؤمنين: لقد دعا الإسلام أتباعه إلى العمل وعمارة الأرض واتخاذ الأسباب المشروعة الكافلة للعيش عليها؛ من تجارة وحرث وصناعة وغيرها؛ وكان من منة الله وتفضله على عباده أن جعل لهم الأرض مستقرا وذلولا للسعي فيها وابتغاء الرزق وتحصيل المعايش منها، وأودع فيها الكثير من النعم، وسخر ما فيها من مخلوقات لخدمة هذا الإنسان، فقال في كتابه العزيز: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ)[يس: 71ـ73]، وقال -تعالى-: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[الحجر: 19ـ21].
عباد الله: على العبد أن يشكر ربه على عظيم آلائه وأن يسعى في ميادين الحياة مكافحًا، وإلى أبواب الرزق ساعيًا؛ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك: 15]، وقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)[الأعراف: 10]، وقال -عز وجل-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الجمعة: 10]، أي: اسعوا على هذه الأرض لتحقيق المكاسب والمآرب.
وكما أن الإسلام -أيها الكرام- حث المؤمنين على السعي في الأرض حذرهم من القعود عن العمل والاتكال على الآخرين وجعله مذموما مقبوحا؛ لأن في ذلك ظلم للنفس وإهانة لها، ويتجلى ذلك في قول خير الأنام -عليه الصلاة والسلام-: "اليد العُلْيَا خير من اليد السُّفْلَى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعِفَّه الله، ومن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله"(رواه البخاري ومسلم)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لأن يأخـذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلا فيسأله أعطاه أو منعه"(رواه البخاري).
أيها المؤمنون: ومما يدل على عناية الإســلام بالعمل والعناية به، أنه عد العمل والسعي على الأهل والولد نوع من أنواع الجهاد، وما ذلك إلا لمنزلته وفضــله؛ فعن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: "مر على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ"(صححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام البخاري -رحمه الله-: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده".
أيها المسلمون: ولم تحث شريعة الإسلام على العمل والتكسب فحسب؛ بل وجهت الساعين في ميادين الرزق إلى التحلي بالآداب الشرعية والتزامها:
الاتقان في العمل: جاء في الحديث الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"(صححه الألباني).
ومن الآداب: الأمانة؛ قال الله -تعالى-: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26]، (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف: 55]
ولا بد أن يكون العامل بعيدًا عن الغش والتحايل؛ فالغش ليس من صفات المؤمنين، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من غش فليس مني"(رواه مسلم)، ومر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجل يبيع طعامًا"؛ فأعجبه؛ فأدخل يده فيه فرأى بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام، قال: أصابته السماء أي المطر فقال -عليه الصلاة والسلام-: فهلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس، "من غشنا ليس منا"(رواه مسلم).
ومنها: عدم استغلال المنصب في العمل لأجل تحقيق مصالح شخصية دون وجه حق شرعي؛ وقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن ذلك من الغلول فقال: "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول"(رواه أبو داود).
فاشكروا ربكم -أيها المسلمون- على نعمة هذا الدين العظيم الذي شملت عنايته الدين والدنيا والآخرة..
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: وحتى ندرك أن منزلة العمل والتكسب منزلة شريفة تعالوا لنتأمل في حال سادة البشرية من الأنبياء والأعلام في العمل وبذل السبب؛ صح عن حبر الأمة عبدالله ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "كان آدم -عليه السلام- حراثًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا، وإبراهيم كان يعمل في الزراعة، وصالح تاجرًا، وداود حدادًا، وموسى وشعيب ومحمد -صلوات الله -تعالى- عليهم- رعاة للأغنام، وعمل -صلى الله عليه وسلم- في التجارة".
وكان لقمان الحكيم يقول لابنه: "يا بني استعن بالكسب الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد قــط، إلا أصابه ثلاث خصــال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته وأعظم من هذه الخصــال استخفاف الناس به".
وأُثِرَ عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق"، وكان يقول: "إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني".
فعلى المسلم أن يسعى ويجتهد في طرق الكسب المشروعة حتى يتحصل له ما يريد وكذلك تتحقق قيمته في هذه الحياة؛ لأنه بقدر ما يبذل يسعى ينال ويكسب، وصدق الشاعر، حيث قال:
بِقَدْرِ الْكَـدِّ تُكْتَسَـبُ المعَـالِـي *** ومَنْ طلب العُلا سَهرَ اللَّـيالِــي
ومن طلب العُـلا من غير كَــدٍّ *** أَضَاع العُمْـرَ في طلب الْمُحَــالِ
ولا شك -أيها الكرام- أن سعي خير البرية وأئمة البشرية في العمل والتكسب دليل على شرف العمل وإعفاف النفس عن السؤال والحاجة لغير الكريم المتعال، كما أن في هذا تأكيدا على سمو هذا الدين الذي حث على العمل وبين فضله وثمرته.
أيها المسلمون: هذا هو العمل في ميزان الإسلام وتلك هي أحكامه؛ فلنلتزم هذه التوجيهات الربانية والإرشادات النبوية ونحذر الظلم والبغي؛ فإن عواقب ذلك وخيمة ونتائجه أليمة في الدنيا والآخرة، ولنحذر دعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجاب؛ فقد روى الإمام أحمد -رحمه الله- أن: "دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الله -عز وجل- لها وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً *** فالظلم آخره يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لصالح القول والعمل وأن يكفينا بفضله عمن سواه، كما نستعيذ به من العجز والكسل والاتكال.
وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك.
اللهم كن للفقراء والمحتاجين والمساكين، اللهم اطعمهم واسترهم بسترك واحفظهم بحفظك، ووسع عليهم ويسر لهم سبل التكسب والعمل وافتح عليهم من بركات السماء والأرض.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.
التعليقات