اقتباس
وغير خافٍ أنه لا بدَّ من توافُر الرغبة الصادقة في قيام الشاب بهذا الواجب، لا أن يكون ذلك شيئًا فُرِض عليه نتيجة توزيع القوى العاملة، فكم رأينا من هذا النوع خطباءَ يصلحون لأي مِهنة أخرى سوى الخطابة، وكيف لا وهم لا يَملكون الاستعداد النفسي للدعوة، فضلاً عن الزاد العلمي الواجب توافُرُه فيمن يعتلي منابر المسلمين؟
لا شك أنه من واجب المسلمين جميعًا؛ البحث عن وسيلة للنهوض بمقام المنبر مقامه المأمول بين جماعة المسلمين، كما كان على مرِّ الدهور والأزمان: قِبلةَ أنظارٍ، ومطافَ قلوبٍ، يُوجِّه ويُرشد، ويُصلح ويُقوِّم، ما كان بمقدور مُعتليه القيام بذلك؛ بسَعة ثقافته، وقوة رُوحه، وصحة عبادته، وعظيم إحاطته بقضايا العصر والناس، وهذا-فقط-ما يَربط الناس بالمنبر.
إذ لا بد من النظر في تأهيل الطالب الذي يتَّخذ لنفسه سبيل الدعوة إلى الله منهجًا، يمده بروافدَ ثقافية إسلامية نقيَّة، قائمة على نبْعَي الدين الصافيينِ-الكتاب والسُّنة -وما بُني عليهما واستُمِدَّ من روائهما من فكرٍ إسلامي، صاغَ رؤية الإسلام للكون والحياة والوجود، فقدَّم الفكرة الكاملة والشاملة لكل قضايا الإنسان.
وغنيٌّ عن البيان أن المؤلفات المقرَّرة على طلاب المعاهد الأزهرية، وحتى المرحلة الثانوية -لا تَمُتُّ إلى ذلك الغرض بصلة، وغير خافٍ أنه لا بدَّ من توافُر الرغبة الصادقة في قيام الشاب بهذا الواجب، لا أن يكون ذلك شيئًا فُرِض عليه نتيجة توزيع القوى العاملة، فكم رأينا من هذا النوع خطباءَ يصلحون لأي مِهنة أخرى سوى الخطابة، وكيف لا وهم لا يَملكون الاستعداد النفسي للدعوة، فضلاً عن الزاد العلمي الواجب توافُرُه فيمن يعتلي منابر المسلمين؟ والبعض منهم تُواتيه شجاعته بإعلان ذلك بنفسه؛ لأنه صدَق مع نفسه، وهذا ما يُحتِّم على القائمين على أمر الدعوة إنقاذَه من المسؤولية التي لا يَملك القيام بها، وإنقاذ المسلمين من مُصابهم في منابرهم، التي ينتظرون منها كل جمعة أن تَجلو قلوبهم، وتجدِّد إيمانَهم، وتصحِّح عقائدَهم، وترشد خُطاهم إلى الله -عز وجل -فإذا بها تُورثهم المَلل والسَّأم، وتُفسد أفكارهم، وتَفجَعهم في لغة قرآنهم، بل وفي آيات كتاب ربِّهم -سبحانه وتعالى.
لِم لا يكون في حُسباننا حين نختار للدعوة مَن يقوم بها -أن يكون راغبًا فيها، حريصًا على الجهاد بها؟ ثم نمده بالزاد الوافر من علوم الإسلام وفكره، وميزانه لقضايا العصر، عن طريق الكتب والمحاضرات والدورات التدريبية، وعقْد الاختبارات الدورية؛ حتى تطمئنَّ على سلامة حِفظه للقرآن الكريم، ودوام اطِّلاعه على عيون الثقافة الإسلامية، وتقديم العون في إيجاد الحلول الإسلامية لِما يعرض عليه من قضايا؛ حتى يكون عرْضه لها-أمام الناس-سليمًا مأمونًا، وعندها نطمئنُّ على صحة الرابطة بين المسلم ومنبره.
غير أننا لا يَخفى علينا وجوب أن يقوم للدعوة جهازٌ مستقل عن كل سُلطة، سوى سلطة الوازع الديني ورُوح الإسلام، وليَرأسها شيخ الجامع الأزهر، ولتَجمع بين أعضائها طائفة من القائمين على أمر الدعوة من الهيئات الإسلامية الرسمية والشعبية، فكم ضمَّت هذه الهيئات أعلامًا من الدعاة المخلصين المجاهدين، يَتوقُون إلى البذل والعطاء.
ولتكن مهمة ذلك الجهاز: الإشراف على شؤون الدعوة، من تثقيف الدعاة، إلى محاسبة الغافلين والخاملين والمتجاوزين حدودَ مهمَّتهم، وأن يحكم الدعاةَ جميعًا ميثاقُ شرفٍ يُحاط الداعية به علمًا فور قيامه بوظيفة الدعوة!
ويجب أن يكون للدعاة نظامهم المالي الخاص، أُسوة بغيرهم من الخرِّيجين العاملين في بعض المِهَن الأخرى ذوات الكادر الخاص، فإننا لا نَعدو الحقيقة إذا قلنا: إن مهنة الدعوة أشقُّ في معايير الحياة من مهنة عُمال المناجم؛ حيث إنها تُقوِّم عِوَج النفوس، وتُجدِّد إيمان القلوب، وتصحِّح عقائد الناس، وتَمحو عنها زَيْف الخرافة، وتهويل الباطل.
ثم الأَوْلَى والأهم أن يكون للدعاة حَصانة، تشبه حَصانة القُضاة ونوَّاب الشعب في البرلمان؛ حتى يكون بمأْمنٍ من عواصف الهوى، واستبداد الأحقاد، وذِلَّة الحاجة، وهو يقف أمام المسلمين موقف القيادة والزعامة الرُّوحية، يَغرس في نفوسهم حب الخير، ويَستنهض فيها القِيَم، فلا غنى له عن حصانة تَحول دون العصْف به، وتجعل مُساءلته حين الزَّلل للجهاز القائم بأمر الدعوة المُقترح!
وهكذا أرى أن تحقيق هذه المقترحات يعود بالمنبر إلى مقام ريادته وزعامته، والتفاف الناس حوله؛ لتُثمر الدعوة في نفوس المسلمين بإذن الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
التعليقات