حتى لا يكون في الميراثِ نزاع

محمد بن عبدالله السحيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/حفظ الإسلام للحقوق العامة والخاصة 2/حب المال جبلة بشرية وقسمة الله بنفسه للميراث حسما لنزاع الورثة 3/إجراءات منع حدوث النزاع بين الورثة المتعلقة بالمورث حال حياته 4/وجوب إعطاء الرحم نصيبها من التركة وبعض الإجراءات المتعلقة بالورثة بعد موت المورث 5/واجبات العلماء ومؤسسات المجتمع تجاه نزاعات الورثة

اقتباس

عبادَ اللهِ: إنَّ المتأمِّلَ للتشريعِ الإسلاميِّ في الميراثِ يُدْرِكُ أنَّ الإجراءاتِ الاحترازيةَ الاستباقيةَ للمورِّثِ في حياتِه تُجَنِّبُ الورثةَ النزاعَ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ وذلك مِن خلالِ امتثالِ المورِّثِ منهجَ التقوى، والقولِ السديدِ، وطِيب كَسْبِه، وعدْله بين ورثتِه، وحَصْره لتركته حال حياته، وإثباتَه الحقوق التي له وعليه، وتوثيقَها شرعًا، و...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أما بعدُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ...)[النساء: 1].

 

أيَّها المؤمنونَ: حمايةُ الحقوقِ -عامةً كانت أو خاصةً- سِمَةٌ مطَّرِدةٌ في شريعةِ الإسلامِ؛ بيانًا لها، وحَفْزًا لأدائِها، وترهيبًا من إخفارِها. وبقدْرِ تمسُّكِ المجتمعِ برعايةِ الإسلامِ للحقوقِ تكونُ قوَّتُه ولُحْمتُه، سِيّما في ما كان له للنفسِ فيه أَرَبٌ وحُبٌّ مفطورٌ والذي يأتي في مُقدَّمِه المالُ؛ كما قال اللهُ -تعالى-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]؛ مما غدا به المالُ أكبرَ سببِ نزاعِ الناسِ.

 

ولَمَّا كان المالُ بهذه المَثابةِ، وكان هَضْمُ الحقِّ فيه فَاشِيًا خاصةً بين مَن يشتركون فيه بسببٍ؛ كما حكى تعالى عن نبيِّه داودَ -عليه السلامُ-: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)[ص: 24].

 

ولَمَّا كانت الرحمُ سببَ شراكةٍ قسريٍّ بين الورثةِ، ولِمَا خصَّ اللهُ به الرحمَ مِن متينِ المكانةٍ فقد أبانَ اللهُ بنفسه جُلَّ أحكامِ الميراثِ تفصيلًا في كتابهِ الكريمِ؛ حَسْمًا للنزاعِ المؤدِّي للقطعيةِ والبغضاءِ، ورتَّبَ على رعايةِ تلك الأحكامِ الوعدَ الجميلَ، كما رتَّبَ على إخفارها الوعيدَ الوبيلَ، فقالَ إِثْرَ آياتِ المواريثِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء: 13-14] فرعايةِ هَدْيِ الشريعةِ في الميراثِ ضمانةٌ لوصولِ الحقِّ وافيًا للورثةِ مع بقاءِ اللُّحْمَةِ والأُلْفَةِ بينهم، وسلامتِهم مِن شؤمِ التنازعِ ومَعَرَّةِ القطعيةِ.

 

عبادَ اللهِ: إنَّ المتأمِّلَ للتشريعِ الإسلاميِّ في الميراثِ يُدْرِكُ أنَّ الإجراءاتِ الاحترازيةَ الاستباقيةَ للمورِّثِ في حياتِه تُجَنِّبُ الورثةَ النزاعَ إلى حدٍّ كبيرٍ؛ وذلك مِن خلالِ امتثالِ المورِّثِ منهجَ التقوى، والقولِ السديدِ؛ كما قال تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)[النساء: 9]؛ فاللهُ -سبحانه- وليُّ المتَّقي حين يراعي السدادَ في قولِه، خاصةً في إرشادِه الآخرينَ بلزومِ جادَّةِ العدلِ في الميراثِ بين ورثتِهم، واللهُ هو الخليفةُ في أهلِ ذلك المتقي، والوكيلُ على شأنِه، ومَن كان اللهُ وكيلَه؛ فلا ضَيْعَةَ عليه، هذا إن كان ورثتُه ضعافًا؛ فكيف وإن كانوا أشدَّاءَ راشدِين؟

 

هذا وإنَّ مِن أجْلَى خصالِ التقوى التي لها أثرٌ في إبقاءِ الألفةِ بين الورثةِ: طِيبَ كَسْبِ المورِّثِ؛ إذ البركةُ والهناءُ مِن ثَمَرِ طِيبِ المَكْسَبِ؛ مما يُرجى به للقرابةِ حِفظُ حقِّها وَبقاءُ وُدِّها.

وعدْلُ المورِّثِ بين ورثتِه سواءً من الزوجاتِ أو الأولادِ مِن ألزمِ خصال التقوى التي تَحفظُ الألفةَ بين الورثةِ وتُبْعِدُ عنهم النزاعَ، وذلك يحتِّمُ عليه ألا يَخُصَّ بعضَهم بالتفضيلِ دونَ بعضٍ.

 

كما أنَّ مِن الهداياتِ الشرعيةِ في إبعادِ الخصامِ بين الورثةِ: حَصْرَ المورِّثِ أثناءَ حياتِه تركتَه بالبيانِ المفصَّلِ، وإثباتَه الحقوقَ التي له وعليه، وتوثيقَها شرعًا، ومِن أهمِّ هذه الحقوقِ: الديونُ، والأوقافُ، والوصايا، وإثباتَ نصيبِ شركائِه إنْ لم تُدَوَّنْ أسماؤهم في الأوراقِ الرسميةِ، وبيانَ حقوقِ الأولادِ الذين انفردوا بالعمل معه في تجارته، وليس في ذلك ما يُدْنِي الأجلَ، أو ينكِّدُ العيشَ.

 

ومن تلك الهداياتِ: حِرْصُ المورِّثِ على إغناءِ ورثتِه؛ كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّك إنْ تَذَرْ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ مِن أنْ تذرَهم عَالةً يتكَفَّفُونَ الناسَ"(رواه البخاريُّ ومسلمٌ)؛ وذلك يقضيْ بألّا يوصيَ في مالِه بما يُفْقِرُ ورثتَه، أو يؤخِّرُ قِسمةَ التركةَ بينهم. ومِن هنا كان من المستحسنِ للمورِّثِ إنْ أرادَ أن يوصيَ بشيءٍ بعد وفاتِه أن يجعلَه في شيءٍ مُفْرَزٍ محدَّدٍ، لا أنْ يكونَ مُشاعًا.

 

وإن كان المورِّثُ ذا يسارٍ، وخشيَ مِن وقوعِ النزاعِ بين ورثتِه؛ فمن الأفضلِ أن يقسمَ تركتَه أثناءَ حياتِه، ويُبْقِيَ له ما يحتاجُ إليه، ويتوسعُ فيه.

 

أيها المسلمون: وكما وجَّهتْ الشريعةُ الغراءُ المورِّثَ بما يكونُ فيه إقصاءُ النزاعِ بين الورثةِ؛ فكذلك أوصتِ الورثةَ؛ فإنّ عليهم واجبًا عظيمًا في حفظِ حقِّ الرحمِ بينهم؛ ولئن كان لهم حقٌّ في التركةِ؛ فإنَّ عليهم حقًا قد يعظمُ عن حقِّهم في الميراثِ؛ وذلك بألا تكونَ هذه التركةُ سببًا للشحناءِ والقطعيةِ بينهم.

 

ومن توجيهاتِ الشريعةِ في ذلك: إشعارُهم بوشيجةِ الرحمِ، وخَطَرِ قطيعتِها التي كثيرًا ما يُفْضي إليها نزاعُ الميراثِ، وأنْ يُفصحَ كلٌّ منهم عمّا في ذمتِه من أموالِ المورِّثِ دون كتمانٍ أو بخسٍ، وأن يأخذوا بالسماحةِ في تحصيلِ الحقوقِ؛ كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "رَحِمَ اللهُ رجلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"(رواه البخاريُّ).

 

ومِن غالبِ شأنِ تلك الرحمةِ التي دعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لصاحبِها بها أن يُنْزِلَ اللهُ البركةَ للوارثِ السَّمْحِ في قَسْمِه؛ والواقعُ شاهدٌ بذلك.

 

وتعجيلُ قسمةِ التركةِ بعد وفاءِ الديونِ وإخراجِ الوصيةِ -إن وجدتْ- ممّا يُجَنِّبُ الورثةَ النزاعَ، فإنْ قُسِمَتْ بالرضا والاختيارِ بينهم فذلك خيرٌ دون ضغطٍ على بعضِ الورثةِ أو إحراجٍ، وإلا فليبادرِ الورثةُ أو بعضُهم بالتقديمِ على القضاءِ طَلَبًا لقسمةِ التركةِ إجبارًا، وليس في ذلك غضاضةٌ على أحدٍ منهم، بل اللائمةُ تلحقُهم حين يُحْجِمُون عنِ القسمةِ مجاملةً أو خَجَلًا وقلوبُهم بالشحناءِ مملؤةٌ على بعضِهم.

 

وإنْ كان مِن الورثةِ مَن ائْتَمَنَه الورثةُ أو مورِّثُهم، أو كان مُطاعًا نافذَ الكلمةِ فيهم؛ فالواجبُ عليه أكبرُ؛ فلا يستغلَّ ذلك في الضغطِ عليهم وإحراجِهم بما فيه ظلمٌ لهم، كالتنازلِ عن حصصِهم، أو إجبارِهم على اختيارِ ما لا يرضونَه منها، أو جعلِ التركةِ شركةً عائليةً بينهم. وإن رأى الورثة الأصلحَ في جعْلِ ميراثِهم شركةً عائليةً؛ فليُحْتَطْ في توثيقِها، وبيانِ أعمالِها، وتسهيلِ اطلاعِ الوراثِ الشريكِ على ذلك، وتمكينِه من مراجعةِ حساباتِها متى شاءَ، وتدوينِ ذلك في عقد التأسيس، وإلا فمصيرُها إلى النزاعِ غالبٌ كما هو الواقعُ وللأسف!

 

وعلى الورثةِ المبادرةُ بقسمةِ التركةِ الجَلِيِّةِ الثابتةِ التي ليس فيها نزاعٌ، وتأجيلُ ما لم يَثْبُتْ أو ما فيه نزاعٌ بعد قسمةِ المتفقِ عليه؛ إذ إنَّ مِن أبرزِ أسبابِ تأخُّرِ قسمةِ الميراثِ جعلَه جملةً واحدةً دون فصْلٍ بين ما هو ثابتٌ متفقٌ عليه وغيرُ ثابتٍ أو مختلفٌ فيه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ...

 

أما بعدُ: فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ...

 

أيها المؤمنون: ولأنَّ المجتمعَ المسلمَ في الشعورِ كالجسدِ الواحدِ؛ فإنَّ عليه مسؤوليةً في علاجِ نزاعِ الورثةِ، وعلى أهلِ العلمِ في ذلك واجبٌ ومسؤوليةٌ؛ وذلك مِن خلالِ تبيينِ أحكامِ الميراثِ للناس، وتذكيرِهم بالعقوبةِ الشديدةِ المترتبةِ على تعدي حدودِ اللهِ في تلك المواريثِ، كحرمانِ النساءِ من الإرثِ أو بعضِه، وأكلِ مالِ اليتيمِ، والإرشادِ إلى الطرقِ المُثلى في قسمةِ الإرثِ ومعالجةِ إشكالاتِه، والمبادرةُ بالإصلاحِ بين الورثةِ حالَ نزاعِهم، وتكرارُ عَرْضِ الصلحِ بينهم، والصبرُ على نَزَقِهم ونِفَارِهم مِن واجبِ عقلاءِ العوائلِ ومؤسساتِ المجتمعِ، وتسهيلُ إجراءاتِ التقاضي في قضايا المواريثِ أمامَ المحاكمِ، وتسريعُها وترشيدُها له أكبرُ الأثرِ في إنجازِ قسمةِ التركاتِ، وتقليلِ أَمَدِ النزاعِ بين الورثةِ.

 

وعلى مؤسساتِ المجتمعِ وأفرادِه الوقوفُ مع الضعيفِ من الورثةِ حتى يستوفيَ حقَّه، سيما إن كان المتحكِّمُ في التركةِ ظالمًا أو مراوغًا؛ فلا قَدَاسَةَ لأُمَّةٍ لا يؤخذُ لِضعيفِها الحقُّ من قَوِيِّها.

 

وعلى وكلاءِ الورثةِ –خاصةً المحامينَ- مسؤوليةٌ عظيمةٌ في تقريبِ وجهاتِ النظرِ ورَأْبِ صدعِ الشقاقِ بين الورثةِ إنْ وَقَعَ، وألَّا يَحْمِلَنَّهم حبُّ المالِ على إعانةِ الظالمِ وكتمانِ الحقِّ ورفضِ الصلحِ العادلِ وإطالةِ مدةِ النزاعِ وتوسيعِ هُوَّتِه والإشقاقِ على الورثةِ؛ فإنَّ بركةَ الأجرِ الربانيِّ العظيمِ بالإسهامِ في الإصلاحِ وإبقاءِ الألفةِ بين الورثةِ وإزالةِ الشوائبِ منها وتقليصِ النزاعِ لا تُقارنُ بالمالِ وإنْ كَثُرَ، قال اللهُ –تعالى-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء: 114].

المرفقات
ZQZFjPQmrUrrTGxfnpkqr7wx9TSwlFlOaD4ITk6k.pdf
eie5DHJJZ8HS32V0xab5Kos5Dj2jF59whbJHWDsE.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life