اقتباس
إن الداعية الماهر هو الذي يصنع لديه مناعة تحصنه من فيروسات المجتمع، فهو كالطبيب الذي يعالج المجتمع من وباء منتشر، في نفس الوقت الذي يحرص فيه جيداً على ألا يصاب بالمرض.
إذا كانت دعوة الإسلام دعوة منفتحة، تدعو للحوار مع الجميع وتقبل الآخر والتعايش معه، رغم اختلاف الأفكار و تنوع الآراء وحتى تعدد الديانات، فإنها في الوقت ذاته تحذر من الانجراف وراء ألفاظ و سلوكيات وعادات يلتقطها الداعية من هنا وهناك، ويحاول تطبيقها كنوع من التقارب والانفتاح، ومع الوقت وتكرار المواقف و... الأحداث، سيجد الداعية نفسه قد فقد شيئاً من الشخصية الإسلامية التي تستمد قوتها من الإسلام ذاته بعقيدته وتعاليمه وعاداته، وسيجد نفسه قد تجاوز الخط الفاصل بين أن يكون منفتحاً على الجميع مشاركاً لهم في مساحات الاتفاق والمناطق المشتركة، وبين أن يتأثر بسلوكهم وأفكارهم، وهنا تحدث مشكلة يمكن وصفها بالخطيرة، اسمها: الذوبان في المجتمع.
وعندما يذوب الداعية في المجتمع تصبح هويته مهددة، وتصبح شخصيته أضعف، وينتقل هذا الضعف تلقائياً إلى دعوته نفسها، فيصبح أقل مصداقية وأقل تأثيراً وأقل نجاحاً.
والأصعب من ذلك هو موقف المسلمين المهاجرين للحبشة، والذين كانوا يتعرضون لغربة الأهل بالإضافة إلى غربة العقيدة، وفى الغربة يضعف الإنسان وتفتر همته و تتغير مفاهيمه وقناعاته، فيبدأ في قبول التنازلات واحداً تلو الآخر، لكن السنوات الطوال في الحبشة، لم تنجح في أن تغير المسلمين، أو تشوه عقيدتهم، أو تبلبل أفكارهم، لأنهم كانوا يتذكرون دائماً أنهم أصحاب رسالة إلى العالم، جاءوا ليغيروا الدنيا لا لتغيرهم الدنيا، وظلوا كذلك حتى أذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعودة إلى المدينة.
أنواع من الذوبان:
لا ينتبه البعض للخط الفاصل بين الانفتاح على المجتمع والذوبان فيه، فيفاجئ من حوله، ويفاجأ هو نفسه، بأنه يكتسب سلوكيات و أفكار المفروض أنها لا تتفق مع دعوته وهويته، وربما تأخذ هذا الأخطاء الأشكال الآتية:
أولاً: الألفاظ
هناك فئات من المجتمع ضحلة الثقافة وبعيدة عن التدين، لديها هواية بين الحين والآخر أن تخرج على المجتمع بألفاظ غريبة، تهين الذوق واللغة العربية وتجرح الفطرة، وأحيانا تخدش الحياء، وللأسف يأخذ جهابذة الفن هذه الألفاظ ليسوقوها عبر أفلام لا تقل ضحالة وتفاهة عن مخترعيها، لتخرج للعالم كله، فيسمعها الكبير والصغير، ونفاجأ أنها انطلقت في الشوارع كفيروس يصعب السيطرة عليه، وتنتقل هذه الألفاظ الغريبة من الفئات الضحلة الثقافة إلى الفئات المتعلمة من شباب الجامعات، حتى أنني فوجئت في إحدى المرات بكتاب يشبه القاموس، يحوى عدداً هائلاً من الألفاظ الغريبة التي يتناولها لشباب، حتى أنها لتصبح لغة جديدة للشباب لا يمكن أن تتحاور معهم بها، إلا إذا درستها وفهمت معناها.
إلى هنا يصبح ألأمر ظاهرة سلبية ينبغي على الداعية أن يتصدى لها بثقافته وشخصيته، إلا أن المفاجأة المحزنة، هو أننا نجد عدداً من الدعاة الشباب، ممن ينطق بهذه الألفاظ، ويتناولها في أحاديثه سواء مع هؤلاء الشباب أو غيرهم، بمعنى انه لم يقر الأمر فقط، بل ساعد في انتشارها أيضاً.
وبمرور الوقت، سيجد هذا الداعية الشاب نفسه قد اعوج لسانه، وانحط مستوى مفرداته، وأصبح صعباً عليه أن ينطق اللغة العامية المهذبة الرفيعة، التي تليق بداعية يجرى القرآن على لسانه ليل نهار.
إن الله يرفع شأن الداعية إلى أقصى مدى، لأنه هو الذي يضئ طريق الناس و يبصرهم، يقول تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) [الأحزاب:45- 46]،
ثانياً: السلوكيات
لا يتصور أبداً أن يقبل شاب ملتزم دعوة أصدقاء له يدعونه لفيلم في أحد دور السينما مثلاً، أو الجلوس معه في مقهى مشبوه بدعوى التقارب والألفة بينهم، فهنا لابد أن تظهر الخطوط الفاصلة، وأن تتضح بشجاعة ولطف في نفس الوقت، دون أن تقطع روابط الصداقة والود بين الأطراف.
كما لا يتصور أيضاً أن يشاهد احد سائقي التاكسي الملتزمين وهو يتعارك مع زملائه السائقين وزبائنه من الركاب بنفس ألألفاظ ونفس التصرفات التي يراها من زملائه غير الملتزمين.
وهنا يتنازل الداعية عن مبدأ الخيرية الذي شرف به الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، لأنها هي التي تحافظ علي مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى وإن تنازل عنه كل الناس:
يقول تعالى: ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر)ِ... [آل عمران:110]، وربما يعد نموذج الزواج من النماذج الواضحة في الذوبان في المجتمع، فبعض الدعاة قد ينادى يتيسير الزواج على الشباب وعدم التحامل عليهم، إلا انه عند التعرض لنفس الموقف، يجد نفسه يحاكى المجتمع بدلاً من أن يقدم نموذجاً حياً لمواجهة عادات أسهمت في مشكلة اجتماعية خطيرة.
ثالثاً: الأفكار
في عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة والانترنت، والعالم الذي تحول إلى قرية صغيرة، انطلقت الأفكار - كل الأفكار- بلا قيود أو حدود، وأصبح لزاماً علينا أن نمرر ما يرد إلينا من أفكار وبسرعة على الإسلام بأصوله وثقافته وحدوده، دون أن ننبهر بأفكار وافدة، قبل أن نغربلها وندرك تأثيرها وخطورتها، ولعل فكرة الحرية ( رغم جمالها وموافقتها للإسلام ) والتي ضغطت بقوه على المجتمع العربي في العشر سنوات الأخيرة، والتي تدخلت فيها السياسة الأمريكية بشكل رئيسي، هي من أكثر الأفكار التي تثير الجدل والبلبلة، وهى فكرة عدم فهمها جيداً في إطار الإسلام، وعدم دراستها بعلم وروية، سيجنح بنا إلى مشكلات أخرى ربما تعانى مجتماعتنا منها الآن، خصوصا أنها مجتمعات مكبوتة، لم تتربى على الحرية، ولم تعرف ان لها ضوابط، وان الله وضع حداً بين الحرية والفوضى، وأن المسئولية والواجب هما اللذان يحميان الفرد والمجتمع من هوس الرغبات اللانهائية التي لا تفكر إلا في ( الأنا ) وفقط.
كيف يواجه الداعية الذوبان في المجتمع ؟
على الداعية أن يتسلح بأسباب ثلاثة، تجعله قادراً على التواصل مع المجتمع دون أن يـتأثر سلبياً به، وهى:
أولاً: الروح الإيمانية العالية
تمثل قوة الإيمان والاتصال بالله، الحصن الحصين ضد الذوبان السلبي في المجتمع، فالالتزام بالعبادات من الصلاة في جماعة وصلاة النوافل وقراءة الأذكار والورد القرآني وصيام السنن، هو الذي يعطى مناعة للمسلم ضد أي أفكار سلبية تفد إليه، فيسهل عليه مقاومتها بما لديه من رصيد إيماني يجعله يرى الله في كل شئ، ويجعله دائماً على بصيرة بما يرى أو يسمع، ويرزقه الله الهداية فلا يضل ولا يشقى، قال تعالى: ( والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم ) [محمد: 17].
ثانياً: قوة الشخصية
لا يمكن أن يؤثر الداعية فيمن حوله إلا إذا كان متمتعاً بشخصية قوية، لا تقبل التنازلات ولا تنقاد لأفعال خاطئة تحت دعوى الإحراج والخجل، أو تحت مبرر أن الكثرة تغلب الشجاعة، وقوة الشخصية لا تعنى العصبية ولا المشاجرات المستمرة، بل تعنى إبداء وجهة نظرك بثقة وهدوء، وعن علم وقدرة على الحوار، والتمسك بما تراه صحيحاً رغم ما تواجهه من ضغوط، وأن تفهم الطرف الأخر بأن لديك خطوطا حمراء في التعامل لا يمكن تخطيها، لأنها تخالف ما تؤمن به من أوامر الإسلام، وان رضا الله مقدم لديك على رضا الأصدقاء، وذكاء الداعية يجعله يرسل هذه الرسالة لمن حوله في ود و لطف وهدوء، بما يحافظ على استمرار العلاقة بينهم، فلا يقطعها فيفشل في دعوته.
ثالثاً: العلم والثقافة
لكي تستطيع أن تتواصل مع المجتمع بكل أطيافه وتعدد آرائه، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على هويتك وشخصيتك الملتزمة التي لا تقبل تهاوناً في حق الله، لابد أن تتسلح بالعلم الشرعي أولاً، ثم تصقل هذا العلم بالقراءة الحرة في كل المجالات، والثقافة التي تجعلك تستطيع أن تقف على أبواب أي موضوع فتستطيع فتحه والحوار حوله بثقة واتزان، وهو شئ سيجعل الآخرين يقبلون آرائك حتى لو خالفتهم، لأنك تتحدث عن علم ودراية، فيحترمون اختلافك معهم في نفس الوقت الذي يستمرون في الاستماع إلى دعوتك دون ضجر.
قال تعالى: " قلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي".. [يوسف: 108]
إن الداعية الماهر هو الذي يصنع لديه مناعة تحصنه من فيروسات المجتمع، فهو كالطبيب الذي يعالج المجتمع من وباء منتشر، في نفس الوقت الذي يحرص فيه جيداً على ألا يصاب بالمرض.
التعليقات