عناصر الخطبة
1/شدة تأثر النبي -صلى الله عليه وسلم- لفراقه مكة 2/خروج الإنسان من الأوطان يعادل خروج الروح من الأبدان 3/لا يحب وطنه من يجاهر بالمعصية والفواحش 4/مكانة بلاد الحرمين ووجوب المحافظة عليهااقتباس
ولكن لا يحبُّ الوطنَ من يتعامى عن محاسنِه الأنيقةِ، ولا يرى إلا معايبَه الدَّقيقةَ، ينتقدُ بلادَه ولا يُثني، يَهدمُ أمجادَه ولا يبني، يعيبُ أهدافَه ولا يمدحُ، يحزنُ لإنجازاتَه ولا يفرحُ، يذهبُ يشتكي عليها عندَ المُنظَّماتِ والهيئاتِ، ويستعدي عليها عند أبوابِ السَّفاراتِ، فلا يرى في بلادِه إلا العيوبَ والأخطاءَ...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا .. من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له ومن يضللْ فلا هاديَ له وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 71].
أما بعد: موقفٌ حزينٌ .. فِراقٌ وحَنينٌ .. كيفَ لا، وها هو سيِّدُ الوَرى .. يُودِّعُ أُمَّ القُرى، وقفَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- قبلَ خُروجِه من مكةَ على الحَزْوَرَةِ -تَلٍّ مُرتفعٍ يُطِلُّ على الكعبةِ- وهو على راحلتِه، فقالَ: "ما أطيبَكِ من بلدٍ، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ، واللهِ إنكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ".
فتحقَّقَ بهجرتِه ما أخبرَه به وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ قبلَ سِنينَ، حينَ قالَ له: "يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟"، قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا".
قَالَ السُّهَيْلِيُّ -رحمه الله-: "يُؤخذُ مِنهُ شِدَّةَ مُفارَقَةِ الوَطَنِ على النَّفسِ؛ فإنَّه -صَلَّى اللهُ عليه وسلم- سَمِعَ قَولَ وَرقةَ أَنَّهُم يُؤذُونَهُ ويُكذِّبُونَه فلَم يَظهَرْ مِنهُ انزِعَاجٌ لِذلكَ، فلمَّا ذَكرَ لَهُ الإخراجَ تَحرَّكتْ نَفسُهُ لحبِّ الوَطنِ وإِلْفِهِ، فقالَ: "أوَ مخرجِيَّ هُم؟"، وصدقَ رحمَه الله؛ فحُبُّ الأوطانِ متأصلٌ في فطرةِ جميعِ الكائناتِ؛ فالطُّيورُ تَحِنُّ إلى أَوكارِها، والحِيتانُ تحنُّ إلى بِحارِها، والإبلُ تحنُّ إلى معاطنِها، والدَّوابُّ تحنُّ إلى مساكنِها، والبشرُ يحنون إلى أوطانهم.
لقد ذكرَ اللهُ -تعالى- في كتابِه أنَّ خُروجَ الأجسادِ من الأوطانِ، يعادلُ خُروجَ الأرواحِ من الأبدانِ، فقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النِّسَاءِ: 66].
ومدحَ سُبحانَه المهاجرينَ بتضحيتِهم وتركِهم لأوطانِهم في سبيلِ اللهِ -تعالى- (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الْحَشْرِ: 8].
وأما الشعراءُ فكانَ في أشعارِهم نصيبٌ من حب الوطنِ .. فيقول أبو تمام:
كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى *** وحنينُه أبدًا لأولِ منزلِ
نقِّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى *** ما الحُبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
الوطنُ، فيه الماضي والذكرياتُ، فيه المستقبلُ والأمنياتُ، فيه الأهلُ والأحبابُ، ومفارقتُه قطعةٌ من العذابِ، كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَوْمَهُ فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ فَلْيُعَجِّلْ إِلَى أَهْلِهِ"، يقولُ الأصمعيُّ -رحمَه اللهُ-: "سَمعتُ أَعرابيًّا يَقولُ: إذا أَردتَ أن تَعرفَ الرَّجلَ، فانظرْ كَيفَ تَحنُّنُهُ إلى أوطانِه، وتَشوُّقُهُ إلى إخوانِه، وبكاؤهُ على ما مضى من زَمانِه".
هل سمعتم بمَيسونَ بنتِ بَحْدَلٍ الكَلبيةِ؟ امرأةٌ ذَاتُ جَمالٍ بَاهرٍ، وحُسنٍ غَامِرٍ، تزوجَها أميرُ المؤمنينَ معاويةُ بنُ أبي سفيانَ -رضيَ اللهُ عنه-، ثُمَّ نقلها من الباديةِ إلى قصرٍ في الشَّامِ على الغُوطةِ، وفي يومٍ من الأيامِ، لبستْ أفخرَ ثيابِها، وتزيَّنتْ بالحُلِّي والجَواهرِ، ثم جَلستْ في رَوشنِها وحَولها الوصائفُ، فنظرتْ إلى الغُوطةِ وأشجارِها، وسَمعت تجاوبَ الطيرِ في أوكارِها، وشَمَّتْ نَسيمَ الأزهارِ، وروائحَ الرَّياحينِ والنُّوَّارِ، فتذكرتْ باديتَها، وحَنَّتْ إلى أهلِها ومسقطِ رأسِها، فبكتْ وتَنهدتْ، فقالتْ لها بعضُ جليساتِها: "ما يُبكيكِ وأنتِ في مُلكٍ يُضاهي مُلكَ بلقيسَ، فَتنفسَّتِ الصُّعداءَ ثم أنشدتْ:
لَبَيْتٌ تخفِقُ الأرواحُ فيه *** أحبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وأصواتُ الرياحِ بكل فَجٍّ *** أحبُّ إليَّ من نَقْر الدُّفوفِ
وكلبٌ ينبح الطُرَّاق عنِّي *** أحبُّ إليَّ من قِطٍّ ألوفِ
ولُبْسُ عباءةٍ وتقَرَّ عيْني *** أحبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيْرَةٍ في كِسْرِ بَيْتي *** أحبُّ إليَّ من أَكْلِ الرَّغيفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى *** إلى نفسي من العيشِ الظَّريفِ
فما أبْغي سُوى وَطني بَديلًا *** فحَسبي ذَاكَ من وَطنٍ شَريفِ
فسمعَ بهذا معاويةُ -رضيَ اللهُ عنه-، فطلَّقها وأرسلها إلى أهلِها، ومن يلومُها وقد قالَ الجاحظُ في كتابِه "الحنينُ إلى الأوطانِ": "وكانتِ العربُ إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربةِ بلادِها، رملًا وعَفْرًا، تستنشقُه عندَ نزلةٍ أو زكامٍ أو صداعٍ"، وهكذا النَّاسُ يُحبونَ أوطانَهم ولو لم يكن فيها شيءٌ جميلٌ، كما قالَ الشَّاعرُ:
بلادٌ ألفناها على كلِّ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ، ولكنها وَطَنْ
ولكن لا يحبُّ الوطنَ من يتعامى عن محاسنِه الأنيقةِ، ولا يرى إلا معايبَه الدَّقيقةَ، ينتقدُ بلادَه ولا يُثني، يَهدمُ أمجادَه ولا يبني، يعيبُ أهدافَه ولا يمدحُ، يحزنُ لإنجازاتَه ولا يفرحُ، يذهبُ يشتكي عليها عندَ المُنظَّماتِ والهيئاتِ، ويستعدي عليها عند أبوابِ السَّفاراتِ، فلا يرى في بلادِه إلا العيوبَ والأخطاءَ، وتعمى عُيونُهُ عن كلِّ المحاسنِ والآلاءِ، فهو يعيشُ في حِضْنِ الأعداءِ، بُوقًا يُردِّدُ الشَّتيمةَ في كلِّ لقاءٍ، يَعبثُ بوحدةِ الصَّفِّ وسَفكِ الدِّماءِ، ونسوا أو تناسوا نِعمَ اللهِ -تعالى- عليهم وهو العزيزُ الشَّكورُ، وما بذلتْه البلادُ لهم على مرِّ الدُّهورِ، ولسانُ حَالِ الوطنِ يقولُ لمثلِ هذا المغرورِ:
أُعَلِّـمُهُ الرِّمَـايةَ كُلَّ يَـومٍ *** فَلمَّـا اشْتَدَّ سَاعِدُه رَمانِي
وَكَمْ عَلَّمْتُـهُ نَظْمَ القَوَافي *** فَلَـمَّـا قَالَ قَافِيةً هَجـانِي
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدَ الشاكرين، تباركَ ربُّنا وتقدسَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تمتْ كلمتُه، وعمَّتْ رحمتُه، وفاضتُ نعمتُه، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمَ تسليمًا كثيرًا...
أما بعد: أيُّها الأحبَّةُ: لا يُحبُّ الوطنَ من يجاهرُ بالمعصيةِ ويُفَاخِرُ بها أمامَ العِبادِ، فيكونُ سببًا في رفعِ العافيةِ عن البِلادِ، وقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلا المُجاهرينَ".
ولا يُحبُّ الوطنَ مَنْ يُشيعُ الفاحشةَ وأخبارَها بينَ المؤمنينَ، في نَشرِ كَلِمةٍ أو مقطعٍ أو فِعلٍ مَشينٍ، ومن يُسخِّرُ قنواتِ الفُجورِ المُجرمةِ، لتزيينِ الرَّذيلةِ والعلاقاتِ الآثمةِ، وقد قالَ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النُّورِ: 19].
وإذا ظهرتِ المعاصي والفواحشُ في مكانٍ، تَجرَّأَ عليها السُّفهاءُ وضُعفاءُ الإيمانِ، وأتوا بالشَّرِّ على بلادِهم وأهلِهم، بل وعلى الجميعِ، وانتشرَ الفسادُ في الفضاءِ الوسيعِ، كما قالَ سبحانَه: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الرُّومِ: 41].
عبادَ اللهِ: إننا نعيشُ في وطنٍ قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ العميمَ، ويحبُّه كلُّ مُسلمٍ على وجهِ الأرضِ؛ لِما فيه من معالمِ الدِّينِ العظيمِ، فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ، تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- تُشَدُّ إليه الرِّحالُ في كلِّ زمانٍ، أمنٌ وأمانٌ، وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، فلنحافظْ على هذه النِّعمِ، فإن اللهَ -تعالى- إذا شُكِرَ باركَ وزادَ، وإذا كُفرِ عاقبَ وأبادَ، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النَّحْلِ: 112].
فاللهم لكَ الحمدُ ربنَا حتى ترضى، ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ، اللهم أَعِنَّا على ذكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عبادَتِكَ، اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، اللهم آمِنَّا في أوطانِنا، وأدمْ نعمةَ الأمنِ والاستقرارِ في بلادِنا، اللهم مَن أرادَنا وبلادَنا والمسلمينَ بسوءٍ فأشغلْه في نفسِه، واجعلْ كيدَه في نحرِه، واجعلْ تدبيرَه تدميرَه، اللهم وَفِّقْ إمامَنا لما تحبُ وترضى، وخذْ بناصيته للبرِ والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عملَه في رضاك، وهيئ له البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُه على الخيرِ وتعينُه عليه، واصرفْ عنه بطانةَ السوءِ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.
التعليقات