اقتباس
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرٌ من مجتهدي السّلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنّه بدعة، إمّا لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإمّا لآياتٍ فهموا منها ما لم يُرد منها، وإمّا لرأيٍ رأوه، وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم، وإذا اتّقى الرجل ربَّه ما استطاعَ دخل في قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: "قد فعلت" (الفتاوى، 19/192).
من الطّبيعي أنْ يكون للصّحوة الإسلامية المعاصرة أعداء من خارجها يتربّصون بها، ويكيدون لها، فهذا أمرٌ منطقيٌ اقتضته سنّة التدافع بين الحقّ والباطل، والصراع بين الخير والشر، والتي أقام الله عليها هذا الكون الذي نعيش فيه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) [سورة الفرقان: 31].
إنما الذي يزعج ويؤرِّق ويذيبُ قلوب المؤمنين الصادقين: أن تعاديَ الصحوةُ نفسَهَا وأن يكون عدوُّها من داخلها.
من الطبيعي أنْ يكون في الصّحوة مدارس أو فصائل أو جماعات لكل منها منهجه في خدمة الإسلام، والعمل على التمكين له في الأرض, وذلك إذا كان هذا التعدّد تعدُّدَ تنوُّعٍ وتخصّصٍ، لا تعدُّد تعارضٍ وتناقضٍ..على أن يتمّ بين الجميع قدرٌ من التعاون والتنسيق، حتى يُكْمِلَ بعضُهم بعضاً, ويشدّ بعضُهم أزر بعضٍ، وأن يقفوا في القضايا المصيرية صفاً واحداً.
ومما يدمي القلبَ حقاً أن يوجد بين العاملين للإسلام!! مَنْ لا يُقدّرُ هذا الأمر حقَّ قدره، ويبذر بذور الفرقة أينما حلّ، ويبحث عن كلّ ما يوقد نيران الخلاف، ويورثَ العداوةَ والبغضاء، وتركيزه دائماً على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق.
والحقّ أنّ الاختلاف في ذاته ليس خطراً، وخصوصاً في مسائل الفروع، وبعض الأصول غير الأساسية، إنّما الخطر في التفرّق والتعادي الذي حذّر الله ورسولُه منه.
لهذا كانت الصّحوة الإسلامية والحركة الإسلامية بمختلف اتجاهاتها ومدارسها في حاجة إلى وعي عميق بما نسميه: (أدب الاختلاف): أي احترام المخالف والتعاون معه في الخير..
الاتحاد فريضةٌ, والتفرق شرٌّ وفتنةٌ
ما أشدّ حكمة ذاك الإمام الذي اختلف النّاس في مسجده بعد صلاة العشاء في رمضان: هل يصلون التراويح ثماني ركعات أم عشرون ركعة؟!! فما كان منه إلا أنْ قال:"سأغلق المسجد, ولْيَصلِّ كلُّ واحد منكم التراويح في بيته! لأن اتّحادكم فرضٌ والتراويح سنةٌ!".
لا يوجد دين دعا إلى الأخوة التي تتجسّد في الاتحاد والتضامن، والتساند والتآلف، والتعاون والتكاتف، وحذّر من التفرّق والاختلاف والتعادي، مثل الإسلام في قرآنه وسنته, وهذا من الواجبات على الدّاعين إلى الإسلام والعاملين أن يكون من أهدفهم: الاتحادُ والألفة، واجتماع القلوب، والتئام الصفوف، والبُعدُ عن الاختلافِ والفرقة، وكلِّ ما يمزق الجماعة أو يفرّق الكلمة، مما يوهن دِيْن الأمة ودنياها جميعاً.
قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران: 103].
وقال تعالى:(وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 46]
.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَد اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ". (الترمذي)
وفي الصّحيحين قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً".
ومع أنّ الله أمر بالجماعة والائتلاف، فقد شدّد سبحانه النّهي عن الاختلاف: فقال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). [الأنعام: 158].
وقال- صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ". (الترمذي)
وما أشدّ فقه شيخ الإسلام ابن تيمية حينما رأى أنّ تَرْكَ بعض المستحبات- تأليفاً للقلوب وطلباً لوحدة الصّف -مطلوبٌ فقال: "لأنّ مصلحة التأليف في الدّين (أعظم) من مصلحة فعل مثل هذا, كما ترك النّبيّ- صلى الله عليه وسلم - تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب ".
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصّلاة في السّفر ثم صلّى خلفه متمّاً, وقال:"الخلاف شر". (الفتاوى 22/407 (.
وقرّر رحمه الله أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يُتْرَكُ إذا أدّى إلى منكرٍ أكبر, أو أدّى إلى تفويت مصلحةٍ أعظم, وهذا من فقهه رحمه الله تعالى: "فإذا كان النّهي سيُؤدّي إلى مفسدةٍ أكبرَ, أو سيُضيع مصلحةً أعظمَ فلا نهيَ ولا أمرَ".
التفريق بين الاختلاف السّائغ وغيره:
ثمّة أمورٌ يفترق فيها الاختلافالذي سوّغه العلماء عن الخلاف الذي ذمّه العلماء غاية الذّمّ، منها:
-أنّه (أي الاختلاف السّائغ) لا يكون في المسائل الأصولية في الدّين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجّية السّنّة، وفرضية الصّلاة, أو فرضية الوضوء للصّلاة, مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصّريحة على إثباتها.
- أنّ الاختلاف السّائغ لا يكون في المسائل التي انعقد عليها الإجماع...
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مَن خالف الكتاب المستبين، والسّنّة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يُعامل بما يُعامل به أهل البدع" (الفتاوى: 4/172).
- أن يكون هذا القول صادراً عن الاجتهاد والنّظر في الأدلة الشّرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحقّ الذي أراده الله ورسوله، وعليه فلا كرامة لمن صدر في رأيه عن العقل المجانب للشرّع, أو عن الرؤى المنامية, ولا لمن صدر عن الهوى أو العصبية، قال الإمام الشّاطبي - رحمه الله -: "الاجتهاد الواقع في الشّريعة ضربان، أحدهما: الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصّادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه, والثّاني: غير المعتبر، وهو الصّادر عمّن ليس بعارفٍ بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأنّ حقيقته أنّه رأي بمجرد التّشهّي.. فكلّ رأيٍ صادرٍ عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضدّ الحقّ الذي أنزله..." (الموافقات4/167(.
المقصود بــــ ( أدب الاختلاف)
قال ابن حجر في الفتح (10/400): "الأدب:استعمال ما يُحمد قولاً وفعلاً, وعبّر بعضهم عنه بأنّه:"الأخذ بمكارم الأخلاق" ..وقيل: "هو تعظيم مَن فوقك, والرفق بمن دونك".
المقصود بــــ ( أدب الاختلاف) أمورٌ, من أهمها:
أولاً: عدم تكفير المخالف:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (5/200):"(والخوارج) المارقون الذين أمر النّبيّ- صلى الله عليه وسلم - بقتالهم, قَاتَلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.. لدفع ظلمهم وبغيهم, لا لأنّهم كفارٌ, ولهذا لم يَسْبِ حريمهم, ولم يَغْنَم أموالهم.
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنّص والإجماع لم يُكَفَّروا مع أَمْرِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، فكيف بالطّوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحقّ في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم! فلا يحلّ لأحدٍ من هذه الطّوائف أنْ تُكَفِّر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإنْ كانت فيها بدعةٌ محقّقةٌ، فكيف إذا كانت المكفّرة لها مبتدعة أيضاً؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنّهم جميعاً جهالٌ بحقائق ما يختلفون فيه"!
ثانياً:حرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم, لا تحلّ إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجّة الوداع: "إنّ دماءكم, وأموالكم, وأعراضكم, عليكم حرام, كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا" (البخاري).
وقال - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا, وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا, وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا, فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ, فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ"(البخاري), أي: لا تنقضوا عهد الله وعهد رسوله لمن قام بذلك.
ثالثاً:احترام الرأي المخالف، وتقدير وجهات نظر الآخرين، وإعطاء آرائهم الاجتهادية حقّها من الاعتبار والاهتمام. وذلك مبني على أصل مهم، وهو: أنّ كلّ ما ليس قطعياً من الأحكام، هو أمرٌ قابلٌ للاجتهاد، وإذا كان يقبل الاجتهاد، فهو يقبل الاختلاف، فلو كانت أدلته قطعية لما اختلف فيه علماء السّلف أصلاً.
فيُحسَنُ الظّن بالعلماء, ولا يُعتَقَد أنّهم تعمدوا ترك الحقّ الذي بان لهم, قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حكمَ الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر" (البخاري).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثيرٌ من مجتهدي السّلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنّه بدعة، إمّا لأحاديث ضعيفة ظنّوها صحيحة، وإمّا لآياتٍ فهموا منها ما لم يُرد منها، وإمّا لرأيٍ رأوه، وفي المسألة نصوصٌ لم تبلغهم، وإذا اتّقى الرجل ربَّه ما استطاعَ دخل في قوله: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286]. وفي الصحيح قال: "قد فعلت" (الفتاوى، 19/192).
وقد فقِه الصّحابة الكرام هذا المعنى فقال: علي - رضي الله عنه - لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: "إني لأرجو أن يجعلني الله وإيّاك في الذين قال الله - عز وجل - فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ) [الحجر:47]. (الحاكم).
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحلُّ هذا ويحرِّم هذا، فلا يرى المحرّم أنّ المحلّ هلك لتحليله، ولا يرى المحلّ أنّ المحرم هلك لتحريمه" (جامع بيان العلم 2/80(.
رابعاً:التسامح وألا نتعصب لرأي ضدّ رأيٍ آخر في المسائل الخلافية, ولا لمذهبٍ ضدّ مذهبٍ، ولا لإمامٍ ضدّ إمامٍ، بل نرفع شعار التسامح.
أسباب وقوع الاختلاف:
لوقوع الاختلافأسباب مبسوطة في مظانّها, من أهمها:
أولاً: اختلاف العلماء في فهم النّصوص, كما في قوله: (أَوْ لَـامَسْتُمُلنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً) [المائدة:6]. ففسرها الجمهور بأنّها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشّافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.
ثانياً:الجهل بالدليل لعدم بلوغه، مثاله: خفي على عمر رضي الله عنه حكم دخول أرض الطّاعون، بل وعلى كثيرٍ من الصّحابة، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرّحمن بن عوف بقول النّبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
ثالثاً:عدم الوثوق بصحة الدّليل الذي عند الآخرين، فقد يضعّف العالم المخالف الحديث في حين يصححه الآخرون، لاختلاف العلماء في تعديل أحد الرواة، أو لعلةٍ يراها في السّند أو المتن تجعل الرواية شاذة, أو لغير ذلك من أسباب ردّ الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.ومن ذلك قصّة عمر مع فاطمة بنت قيس حين ردّ حديثها بقوله: "لا نترك كتاب الله وسنّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لقول امرأةٍ لا ندري لعلها حفظتْ أو نسيَتْ".(مسلم)
رابعاً:- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنّصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله - صلى الله عليه وسلم - : "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق"(أحمد), فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم: بالإكراه، وآخرون: بالغضب، وآخرون: بغياب العقل بثورة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطّلاق.
ومثله قد وقع من الصّحابة عام الخندق كما في الصّحيحين عندما قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: "لا يصلّينّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة". فتمسّك بعضهم بظاهر النّص ففاتتهم الصّلاة، وتمسّك الآخرون بمفهوم النّص والمراد منه، وهو الإسراع فصلّوا وهم في الطّريق، قال ابن عمر: "ولم يعنِّف النّبيّ- صلى الله عليه وسلم - واحداً منهم".
حَمْلُ النّاس على رأيٍ واحدٍ!!
قد سجّل لنا التاريخ للإمام مالك موقفاً عظيماً -وهو الفقيهُ المحدِّثُ إمامُ دار الهجرة-حيث أراد الخليفة العباسي أنْ يُلْزِم النّاسَ ما في كتبه من آراء وأحكامٍ بسلطان الدولة، وبعبارة أخرى: أراد أن يجعل منه قانوناً عاماً لدولة الخلافة، يلتزم به كلَّ النّاس ويلغي الآراء والاجتهادات والمذاهب الأخرى! قالوا: "لما حجّ المنصور قال لمالك: قد عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي صنّفتها فتنسخ ثم أبعث في كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة آمرهم بأن يعملوا بما فيها ولا يتعدوه إلى غيره، فقال: يا أمير المؤمنين, لا تفعلْ هذا، فإن النّاس قد سِيْقَتْ إليهم أقاويلُ، وسمعوا أحاديثَ، ورووا رواياتٍ وأخذ كلُّ قوم بما سِيْق إليهم، ودانوا به من اختلاف النّاس فَدَعِ النّاس، وما اختار أهلُ كلّ بلدٍ منهم لأنفسهم".
يقول شيخ الإسلام ابن تيميةرحمه الله منكراً على مَن أراد إلزام النّاس بمذهبه في المسائل الخلافية: "كان بعض العلماء يقول: "إجماعهم حجّةٌ قاطعةٌ, واختلافهم رحمةٌ واسعةٌ".
وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: "ما يسرنّي أنّ أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم – لم يختلفوا لأنّهم إذا اجتمعوا على قولٍ فخالفهم رجلٌ كان ضالًّا, وإذا اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول هذا, ورجلٌ بقول هذا,كان في الأمر سعة".
وكذلك قال غير مالك من الأئمة: "ليس للفقيه أنْ يحمل النّاس على مذهبه".
ولهذا قال العلماء المصنِّفون في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من أصحاب الشّافعي وغيره: "إنّ مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكر باليد, وليس لأحدٍ أنْ يلزم النّاس باتّباعه فيها, ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية, فمَن تبيّن له صحة أحد القولين تبعَه, ومن قلّد أهلا لقول الآخر فلا إنكار عليه".الفتاوى (30/79).
والعجيب في بعضهم أنهم ينهون عن التقليد، وهم في الواقع مقلِّدون، رفضوا تقليد الأئمة القدامى، وقلّدوا بعضَ المعاصرين!
وأنهم ينكرون المذاهب الفقهية -التي نُقلت إلينا بالتواتر ومحّصها العلماء ودقّقوها وحقّقوا مسائلها- وقد جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً، يقاتلون دونه وينكرون على مَنْ خالفه!
وأنهم ينكرون علم الكلام القديم وما فيه من جدليات وتزيُّدات، وقد أنشئوا بأقاويلهم علم كلام جديد، لا يهتم بغرس اليقين في القلوب والخوف من الله، بقدر ما يغرس في العقول حبَّ الجدل في أمور العقيدة!!
من الحلول لتفادي الوقوع في الاختلاف:
أولاً:عيش هموم الأمّة:من أكثر ما يُوقع النّاس في حفرة الاختلاف، وينأى بهم عن الاجتماع والائتلاف: فراغ نفوسهم من الهموم الكبيرة، والآمال العظيمة، وإذا فرغت الأنفس من الهموم الكبيرة، اعتركت على المسائل الصغيرة، بل وربما اقتتلت!!ولا يجمع النّاس شيء كما تجمعهم الهموم والمصائب المشتركة، والوقوف في وجه عدو مشترك.
وإنّ من الخيانة لأمتنا اليوم أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة، اختلف فيها السّابقون، وتنازع فيها اللاحقون، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون، في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها التي ربما كنّا سبباً أو جزءاً من السبب في وقوعها.
ثانياً:من المتفق عليه لدى جميع الفصائل الإسلامية أنّ القوى العلمانية تبذل جهوداً مستميتة، يتعاون في ذلك يمينها ويسارها، لإيقاف تطبيق الشّريعة الإسلامية، وتعويق الدّعوة إليها، وتشويه صورتها في المجتمعات الإسلامية، التي تتعالى صيحاتها يوماً بعد يوم للمطالبة بها، وضرورة الاحتكام إليها كما فرض الله تعالى، وأصبح ذلك مطلباً شعبياً عاماً اجتمعت عليه الجماهير العريضة في عدد كبير من الأقطار المسلمة؟ فلماذا لا يتعاون الإسلاميون بمختلف مدارسهم وفصائلهم للوقوف صفاً واحداً أمام هذا التكتّل العلمانيّ المؤيَّدِ والمعان من كلّ القوى المعادية للإسلام غربية وشرقية؟
ثالثاً: ما تتفق عليهالفصائل الإسلامية ليس بالشيء القليل، إنه يحتاج منا إلى جهود لا تتوقف، وعمل لا يكلّ، وإرادة لا تعرف الوهن، يحتاج منا إلى عقولٍ ذكيّة، وعزائمَ قويّة، وأنْفُسٍ أبيّة، وطاقاتٍ بنّاءة.
نحن بحاجة اليوم إلى الإعراض عمّا لا ثمرة له، ولا طائل تحته من البحث في الموضوعات التي شغلت العقل الإسلامي فترة أو فترات من التاريخ، ثم لم يعد لها اليوم مكان, فمشكلة المسلمين اليوم ليست في الذي يؤول آيات الصفات وأحاديثها ـ ـ بل في الذي ينكر الذات والصفات جميعاً، من عبيد الفكر المستورد من الغرب أو الشرق.
فلنتعاون على غرس معاني الإيمان القرآني الإجمالي في أنفس الناشئة والشباب بعيداً عمّا أدخله الجدل الفلسفيّ والكلاميّ في علم العقائد.
ولنتعاون على تعليم هذه الشعوب ألف باء الإسلام، والأركان الأساسية للدين من العقائد والعبادات والأخلاق، والآداب، التي لا تختلف فيها المذاهب، ولا تتعدد الأقوال، وهذا يستغرق منا جهوداً لا حدود لها، تنسينا ما نتجادل فيه من مسائل هيهات أن ينتهي فيها الخلاف في يوم من الأيام.
وأخيراً: لماذا لا يتناسى الإسلاميون خلافاتهم الجزئية في المسائل الاجتهادية، والأمور الفرعية، لتتضام جهودهم، وتلتئم صفوفهم، وتتوحد جبهتهم، في مواجهة القوى الضخمة المعادية لهم، والمتربصة بهم، والكائدة لهم، والتي تختلف فيما بينها وتتفق عليهم؟ حرامٌ على الجبهة الإسلامية أن تعترك فيما بينها على بعض المسائل الفقهية والعقدية والسلوكيةكالتأويل والتفويض، والمذاهب والتقليد والتصوف والطّرق، وتدع تلك الثغرات الهائلة دون أن تسدّها بكتائب المؤمنين الصادقين.
الإنصاف الإنصاف, والبعد عن الطّعن:
تجد بعض المنتمين إلى مذهب يطعنون في المذهب الآخر وإمامه.
ومن ينتمون إلى الحديث أو السّلف يطعنون في الفقهاء كالأئمّة الأربعة وكبار أتباعهم, ممن لا يشكّ أحد في علمهم واجتهادهم ودينهم وورعهم.
أو يطعنون في كبار الصوفية الذين أثنى عليهم الربانيون والعلماء المحققون من خيار الأمة وممن مدحهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وربما طعنوا في الصوفية جميعاً، مع أنهم أطياف وجماعات كما أن السلفية أطياف وجماعاتفجعل الصوفية كلِّهم في سلّة واحدة ثم الحكم عليهم حكماً عاماً من الأخطاء العلمية الكبيرة.
وهذه كلمة منصفة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في التصوُّف, حيث قسّمهم إلى أصناف, ولم يعمِّمِ الحكم عليهم, وبَيَّن أن بعض الدجّالين ادّعى أنه منهم وهو في الحقيقة ليس منهم, فقال رحمه الله: "تَنَازَعَ النَّاسُ فِي طَرِيقِهِمْ, فَطَائِفَةٌ ذَمَّتْ "الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ" وَقَالُوا: إنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ, وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ.
وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ.
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ.
فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ،وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ،وَفِي كُلٍّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مَنْ قَدْ يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ, وَفِيهِمْ مَنْ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ, أَوْ لَا يَتُوبُ،وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ عَاصٍ لِرَبِّهِ، وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالزَّنْدَقَةِ, وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ". الفتاوى (11/18).
وكذلك قد يطعنون في كبار علماء الأشاعرة ويجرحونهم تجريحاً مُنْكَراً، وهم مَنْ لهم منزلة وفضلاً في الذبِّ عن هذا الدين، وعن الكتاب والسنة. فهل نطعن في معتقد ابن حجر والنووي وابن الجوزي وابن حبان !! قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في ثناءه على الأشاعرة بالجملة: "ثمّ إنّه ما من هؤلاء إلا مَن له في الإسلام مساعٍ مشكورة, وحسناتٍ مبرورة , وله في الردّ على كثيرٍ من أهل الإلحاد والبدع, والانتصار لكثير من أهل السّنّة والدّين ما لا يخفى على مَن عرف أحوالهم.. والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينِ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ), ولا ريب أنّ مَن اجتهد في طلب الحقّ والدّين من جهة الرّسول - صلى الله عليه وسلم - وأخطأَ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) (درء تعارض1/ 283).
ماذا نريد من وراء هذا المنشور؟
إننا نريد أن تقف الجماعاتُ الإسلامية السُّنِّيَّةُ (من سلفيةٍ, وصوفيةٍ, وأشاعرةٍ, وإخوان, وتحريرٍ, وجهادٍ, وتبليغٍ, وعلماءَ, وطلاب علمٍ, ودعاةٍ ...) صفّاً واحداً، في قضايا الأمة المصيرية، وفي هموم الدعوة الكبرى، وأن يكون انتماؤنا للإسلام أكبر وأهمّ وأقوى من انتماءاتنا الأخرى قال تعالى :(هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) هذه تسمية الله لنا ولن نرضى لنا اسماً آخر!! فلنجعل تنوُّعنا تنوعَ إثراءٍ وتخصصٍ.
فالسّلفية: تهتم بنشر عقيدة التوحيد, ونبذ الشرك, والبِدَعِ, وربط الأمّةِ بالكتاب والسنة, واهتماماً بتنقية السنة النبوية من الموضوعات والمكذوبات ...
والصّوفية: تهتم بالتزكية, والسّلوك, والأخلاق, والذِّكر, والعبادة, ملتزمين بالسنة مجتنبين للبدعة ...
والأشاعرة: يركّزون على مجادلة الفلاسفة المعاصرين, والتيارات الفكرية والعقدية المنحرفة من الملحدين والعلمانيين و...
والإخوان المسلمون: يغطون الجانب السياسيَّ الذي تخصّصوا فيه ...
وحزب التحرير: يهتمون بنشر الوعي بضرورة إعادة الخلافة الإسلامية ...
وجماعة الدّعوة والتبليغ: ينشرون الدعوة في بقاع الأرض، والكلّ يساهم مع غيره.
فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلِقَ له، فالميدانُ واسعٌ والعمل ُالمطلوب كثيرٌ وإسلامنا بحاجة لكلّ جهْدٍ ولكلّ فردّ.
لا يجوز أن نعتبر الاختلاف في الفروع والمواقف والمسائل الجزئية عائقاً أمام إرادة التجمّع والتضامن والتراصّ في مواجهة العدوّ المشترك، وفي تحقيق الأهداف العظمى المتفَق عليها بين الجميع.
وإنما يتمّ ذلك إذا عرفنا (أدب الاختلاف) ، والأصول أو الدعائم العلمية والخُلقية التي يقوم عليها.
التعليقات