عناصر الخطبة
1/منافع التقنية ومساوئها 2/مسؤولية الآباء والمربين في حماية الأبناء من مخاطر التقنية 3/واقع كثير من الأبناء مع التقنية وغفلة الآباء 4/آثار التقنية ومفاسدها على الأبناء.اقتباس
وَيُلَاحَظُ عَلَى الْأَبْنَاءِ الَّذِينَ أَدْمَنُوا التِّقْنِيَّاتِ الْحَدِيثَةَ بِوَجْهِهَا الضَّارِّ مُعَانَاتَهُمْ مِنَ التَّوَتُّرِ وَالْقَلَقِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْبَقَاءِ وَحِيدًا، وَالشُّعُورِ بِالِاكْتِئَابِ، فَضْلًا عَنْ شُعُورِهِمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَضَبِ وَالْإِحْبَاطِ فِي حَالِ تَمَّ مَنْعُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْوَسَائِلِ التِّكْنُولُوجِيَّةِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ: فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْعَصْرَ هُوَ عَصْرُ التِّقْنِيَّةِ الرَّقْمِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَا جِدَالٍ، فَقَدْ شَهِدَتْ أَوَاخِرُ الْقَرْنِ الْمَاضِي وَحَتَّى وَقْتِنَا الْحَاضِرِ طَفَرَاتٍ تِقْنِيَّةً وَرَقْمِيَّةً عَلَى مُخْتَلِفِ الْأَصْعِدَةِ، وَدَخَلَتْ كَافَّةَ الْمَجَالَاتِ، وَأَثَّرَتْ عَلَى حَيَاةِ الْأَفْرَادِ وَالدُّوَلِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ بِصُورَةٍ مَلْمُوسَةٍ، وَهَذَا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ -تَعَالَى- الْخَيْرَ لِلْبَشَرِ؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 13].
وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَمِنَّةٌ امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى النَّاسِ؛ إِذْ إِنَّهَا يَسَّرَتْ عَلَيْهِمُ الْكَثِيرَ مِنَ الْوَقْتِ وَالْجُهْدِ وَالْمَالِ، وَقَرَّبَتْ لِلنَّاسِ فُرَصَ التَّوَاصُلِ وَالِاتِّصَالِ مَعَ بَعْضِهِمْ لِيَنْتَفِعَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَدَخَلَتِ التِّقْنِيَّةُ دَوَاوِينَ الْحُكُومَاتِ، حَتَّى أَصْبَحَ التَّعَامُلُ مَعَ الْمُؤَسَّسَاتِ الْحُكُومِيَّةِ عَبْرَ مِنَصَّاتٍ تِكْنُولُوجِيَّةٍ، وَأَصْبَحَ التَّوَاصُلُ سَهْلًا مَعَ مُخْتَلِفِ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ مَعَ الْأَشْخَاصِ أَوِ الْمُؤَسَّسَاتِ، وَتَيَسَّرَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ كَانَتْ مُتَعَسِّرَةً مِنْ قَبْلُ، مِثْلَ إِبْرَامِ الْعُقُودِ عَبْرَ الْوَسَائِلِ التِّقْنِيَّةِ، وَإِرْسَالِ الِاسْتِشَارَاتِ الطِّبِّيَّةِ، وَتَحْوِيلِ الْأَمْوَالِ، وَالتَّعَلُّمِ عَنْ بُعْدٍ، وَالتَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ مَعَ الْآخَرِينَ حَوْلَ الْعَالَمِ، وَسُهُولَةِ انْتِقَالِ الْأَخْبَارِ، وَتَيَسُّرِ وَسَائِلِ الْمَعْرِفَةِ عَبْرَ الْبَرَامِجِ وَالْمَوَاقِعِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ، وَتَوَفُّرِ دُرُوسِهَا فِي كَافَّةِ الْمَجَالَاتِ، وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالْكُتُبِ النَّافِعَةِ، فَضْلًا عَنْ مِنَصَّاتِ الْفَتَاوَى الدِّينِيَّةِ وَالِاسْتِشَارَاتِ الطِّبِّيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ، وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ الْكَثِيرُ مِنَ الْمَنَافِعِ الَّتِي لَا يُنْكِرُهَا أَحَدٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَصَدَقَ اللَّهُ -تَعَالَى- إِذْ يَقُولُ: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 8].
فِي الْمُقَابِلِ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- لَا يَخْفَى أَنَّ التِّقْنِيَّةَ سِلَاحٌ ذُو حَدَّيْنِ؛ فَكَمَا يَتِمُّ اسْتِخْدَامُهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَجَالَاتِ النَّافِعَةِ، إِلَّا أَنَّ لَهَا مَسَاوِئَ عَدِيدَةً؛ فَقَدْ فَتَحَتِ التِّقْنِيَّةُ الْبَابَ وَاسِعًا لِكَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَسَهَّلَتِ التَّوَاصُلَ مَعَ غَيْرِ الْمَحَارِمِ، وَخَلَا كُلُّ ابْنٍ وَبِنْتٍ بِهَاتِفِهِ الْجَوَّالِ الذَّكِيِّ وَجِهَازِهِ، وَصَارَ التَّوَاصُلُ مَعَ مَنْ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَوِ الْمُسْلِمَةِ سَهْلًا وَيَسِيرًا.
وَكَذَا كَثُرَتِ الْمَوَاقِعُ الضَّارَّةُ الَّتِي تُعَلِّمُ الشَّابَّ الْجَرِيمَةَ وَالْعُنْفَ، وَهُنَاكَ غَيْرُهَا مَوَاقِعُ إِبَاحِيَّةٌ تَنْشُرُ الْفُسُوقَ وَالْفُجُورَ وَالْعِصْيَانَ، وَأَصْبَحَ الْوُصُولُ إِلَى هَذِهِ الْمَوَاقِعِ وَتَصَفُّحُهَا وَالتَّنْزِيلُ مِنْهَا وَالْإِرْسَالُ إِلَى الْآخَرِينَ مُتَاحًا؛ مِمَّا أَدَّى إِلَى إِقْبَالِ الْكَثِيرِينَ عَلَى مُتَابَعَةِ وَتَصَفُّحِ مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاقِعِ الْمُخِلَّةِ وَالْمُنْحَرِفَةِ.
هَذَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَوَاقِعِ الَّتِي تَحْمِلُ أَفْكَارًا رَافِضِيَّةً تَبُثُّ سَمُومَهَا، وَهُنَاكَ غَيْرُهَا يَنْشُرُ الْأَفْكَارَ الْإِلْحَادِيَّةَ وَيُزَيِّنُهَا لِلْمُتَابِعِينَ، وَهُنَاكَ مَوَاقِعُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ تُزَيِّنُ مَنَاهِجَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ وَتُشَجِّعُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَاللَّحَاقِ بِهِمْ، وَهُنَاكَ مَوَاقِعُ تَقْتُلُ أَوْقَاتَ الشَّبَابِ وَالنَّاشِئَةِ وَأَبْرَزُهَا "الْيُوتْيُوبْ" وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ هُنَا يَجِدُ الْأَبْنَاءُ أَنْفُسَهُمْ فِي دَوَّامَةٍ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا مِنْ مُتَابَعَةِ الْقَنَوَاتِ وَمُشَاهَدَةِ الْمَقَاطِعِ وَالْفِيدْيُوهَاتِ، بِمَا فِيهَا مِنْ خُرُوجٍ عَلَى الْقِيَمِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ، مِمَّا يُخَلِّفُ انْحِرَافًا فِي الْفِكْرِ، أَوِ اعْوِجَاجًا فِي السُّلُوكِ، أَوِ اضْطِرَابًا فِي الْمُعَامَلَاتِ، أَوْ عُقُوقًا لِلْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ.
وَالْمُصِيبَةُ الْأَكْبَرُ أَنَّ الْعَاكِفِينَ عَلَى هَذِهِ التِّقْنِيَّةِ أَوْصَلَهُمْ إِلَى هَجْرِ صَلَاتِهِمْ وَتَكْوِينِ صَدَاقَاتٍ سَيِّئَةٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا طَرِيقٌ إِلَى الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)[الْفُرْقَانِ: 27-29].
وَهُنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ نَنْسَى التَّأْثِيرَ الْكَبِيرَ لِلْأَلْعَابِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ عَبْرَ الْأَجْهِزَةِ التِّقْنِيَّةِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ارْتِكَابِ جَرَائِمَ، أَوْ تَعْظِيمِ الصَّلِيبِ، وَغَيْرِهَا؛ فَضْلًا عَنِ الْآثَارِ الصِّحِّيَّةِ السَّيِّئَةِ النَّاتِجَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْعَابِ الْإِلِكْتِرُونِيَّةِ، وَالَّتِي تَشْمَلُ إِصَابَةَ الْأَطْفَالِ بِالسُّمْنَةِ وَضَعْفِ الْعَضَلَاتِ، وَإِجْهَادِ الْعَيْنَيْنِ، وَالْعَصَبِيَّةِ الزَّائِدَةِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ عَلَى الْآبَاءِ وَالْمُرَبِّينَ مَسْؤُولِيَّاتٍ كُبْرَى فِي حِمَايَةِ الْأَبْنَاءِ مِنْ مَخَاطِرِ التِّقْنِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ إِذَا اسْتَحْكَمَتْ عَلَى عَقْلِ الطِّفْلِ أَدْمَنَهَا صَغِيرًا، وَتَحَكَّمَتْ فِيهِ كَبِيرًا، وَتَقُومُ هَذِهِ التِّقْنِيَّةُ بِدَوْرٍ مُهِمٍّ فِي تَرْبِيَةِ الطِّفْلِ وَتَوْجِيهِهِ، فَتَغْرِسُ فِيهِ مَحَبَّةَ مَا يُشَاهِدُهُ عَبْرَهَا مَعَ رُفَقَائِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ 4833 وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْأَبْنَاءَ يُولَدُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ، كَمَا أَخْبَرَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتِجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟"(صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ).
وَلِذَا يَجِبُ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُرَبِّينَ الْقِيَامُ بِدَوْرِهِمْ فِي التَّوْجِيهِ وَالتَّعْلِيمِ، وَوِقَايَةُ أَبْنَائِهِمْ مِنْ مَخَاطِرِ التِّكْنُولُوجْيَا؛ اسْتِجَابَةً لِأَمْرِ اللَّهِ الْقَائِلِ -جَلَّ وَعَلَا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التَّحْرِيمِ: 6].
وَلِأَنَّ حِمَايَةَ الْأَبْنَاءِ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ، يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْأَمِيرُ رَاعٍ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"(صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ: 5200).
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ أَبْنَاءَنَا وَيَجْعَلَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ لَنَا.
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي وَاقِعِ أُمَّتِنَا لَيَجِدُ كَثِيرًا مِنَ الْآلَامِ الَّتِي خَلَّفَتْهَا التِّقْنِيَّةُ الْحَدِيثَةُ، فَمَعَ انْشِغَالِ الْآبَاءِ بِدُنْيَاهُمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ، غَفَلُوا كَثِيرًا عَنْ مُتَابَعَةِ الْأَبْنَاءِ، وَخَاصَّةً بَعْدَمَا وَفَّرُوا لَهُمْ أَدَوَاتِ التِّقْنِيَّةِ الْحَدِيثَةِ؛ مِنْ هَوَاتِفَ جَوَّالَةٍ ذَكِيَّةٍ، وَأَجْهِزَةٍ لِوَحِيَّةٍ، وَكُمْبِيُوتَرَاتٍ شَخْصِيَّةٍ، وَشَبَكَاتِ إِنْتَرْنِتْ تَحْوِي الْغَثَّ وَالسَّمِينَ، غَابَ كَثِيرٌ مِنَ الْآبَاءِ عَنِ الرِّقَابَةِ التَّرْبَوِيَّةِ عَلَى الْأَبْنَاءِ، وَانْشَغَلَتْ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَّهَاتِ بِمُتَابَعَةِ الْمُوضَاتِ وَالصَّدِيقَاتِ؛ فَانْعَكَسَ ذَلِكَ سَلْبًا عَلَى الْأَبْنَاءِ حَتَّى قَصَّرُوا فِي وَاجِبَاتِهِمُ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالصِّحِّيَّةِ؛ وَهَذَا -لَعَمْرُ اللَّهِ- خِيَانَةٌ لِلْأَمَانَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِحِفْظِهَا؛ قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْأَنْفَالِ: 27].
عِبَادَ اللَّهِ: وَيُلَاحَظُ عَلَى الْأَبْنَاءِ الَّذِينَ أَدْمَنُوا التِّقْنِيَّاتِ الْحَدِيثَةَ بِوَجْهِهَا الضَّارِّ مُعَانَاتَهُمْ مِنَ التَّوَتُّرِ وَالْقَلَقِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْبَقَاءِ وَحِيدًا، وَالشُّعُورِ بِالِاكْتِئَابِ، فَضْلًا عَنْ شُعُورِهِمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَضَبِ وَالْإِحْبَاطِ فِي حَالِ تَمَّ مَنْعُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْوَسَائِلِ التِّكْنُولُوجِيَّةِ. وَإِضَاعَةِ الْكَثِيرِ مِنَ الْوَقْتِ فِي أَشْيَاءَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ، وَيَنْبَغِي تَنْبِيهُ الْأَبْنَاءِ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْؤُولٌ عَنْ عُمْرِهِ، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ؟"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ 2417 وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي خِتَامِ هَذِهِ الْخُطْبَةِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَكُونَ عَلَى وَعْيٍ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ تَرْبِيَةَ الْأَبْنَاءِ فِي جِيلِ التِّقْنِيَّةِ لَيْسَتْ أَمْرًا سَهْلًا، بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى الْمُتَابَعَةِ الْحَثِيثَةِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِمْ مَعَ حُسْنِ تَوْجِيهِهِمْ، وَالرِّفْقِ فِي مُعَالَجَةِ أَخْطَائِهِمْ، حَتَّى لَا نُضَيِّعَ أَبْنَاءَنَا وَنَبُوءَ بِإِثْمٍ عَظِيمٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"(أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ 7150).
وَثَانِيهَا: إِنَّ عَلَى الْآبَاءِ غَرْسَ قِيمَةِ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي نُفُوسِ الْأَبْنَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَسْتَطِيعُوا مُرَاقَبَتَهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَنْ يَعْرِفُوا كُلَّ مَا يُشَاهِدُونَهُ سَوَاءٌ عَلَى هَوَاتِفِهِمْ أَوْ عَلَى هَوَاتِفِ أَصْدِقَائِهِمْ، لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُرَاقِبُوهُ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكَنَةٍ، وَيُلْقُونَ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْقُرْآنِيَّةِ مَا يُشْعِرُهُمْ بِذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[آلِ عِمْرَانَ: 5].
وَآخِرُهَا: أَنْ نُكْثِرَ مِنَ الدُّعَاءِ لِلْأَبْنَاءِ بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالسَّدَادِ، وَأَنْ يُجَنِّبَهُمُ اللَّهُ طُرُقَ الْغَوَايَةِ وَصُحْبَةَ السُّوءِ، وَمَوَاقِعَ الضَّلَالِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ 1536 وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَاعْلَمُوا -أَيُّهَا الْآبَاءُ- أَنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَهَمِّ أَسْلِحَةِ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ، فَابْذُلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ مِنَ الْأَسْبَابِ، ثُمَّ الْجَؤُوا إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَنْ يُوَفِّقَهُمْ وَيَحْمِيَهُمْ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات