اقتباس
إذا أدى المخاطبون ما عليهم من واجبات نحو أئمتهم وخطبائهم، توجب على الخطباء والدعاة والأئمة تأدية الحقوق المستحقة للمخاطبين كاملة غير منقوصة. وأولى هذه الحقوق والمطالب يتمثل في احترام عقولهم وأذهانهم، وهذا الأمر لا يستطيع الخطباء تحقيقه إلا إذا أدوا ما عليهم من واجبات في تحضير الخطبة والاعتناء بها مع حسن الهندام. فالخطيب إذا وضع نصب عينه أنه سيواجه جمهوراً له آذان صاغية، وقلوب واعية، وعقول راقية، فإنه سيبذل أقصى جهد من أجل أداء خطبته على أكمل وجه.
لا يخفى على أي خطيب أنّ جمهور مستمعيه هم أهم أركان وظيفته الخطابية، فهم -تماماً- مثل الزبون الذي يريد أن يقنعه البائع بجودة سلعته وأهميتها، حتى يشتريها ويقبل على اقتنائها. فالمخاطبون هم وعاء التلقي لكل مجهودات الخطيب وآثاره، ومدى انفعالهم وتجاوبهم معه دليل يقيني على نجاح الخطيب في مهمته الجليلة. وهم الرصيد الذي يحرص الخطباء على وجوده وتنميته وإرشاده وتبصرته، وهم حقل الدعوة التي يغرس فيه خطباء الإسلام معالم دينهم ومبادئ شريعتهم. والجمهور هم المرآة التي تعكس للخطباء مدى نجاحهم، والجهة التي تعكس صدى توفيقهم في مهمتهم.
لذلك نجد أن علماء الدعوة يقررون في بحوثهم، أن وضوح القول لدى المستمع هو المقياس الصحيح والمؤثر الدقيق الدال على إصابة الداعي وإجادته. يقول الدكتور عبد الكريم زيدان -رحمه الله- في كتابه النفيس (أصول الدعوة)، في بيان الضوابط العامة في قول الداعية إلى الله –تعالى-: " يجب أن يكون القول واضحاً بيناً لا غموض فيه ولا إبهام، مفهوماً عند السامع؛ لأن الغرض من الكلام إيصال المعاني المطلوبة إلى من يكلمه الداعي، فيجب أن يكون الكلام واضحاً غاية الوضوح، لهذا أرسل الله -عز وجل- الرسل بألسنة أقوامهم حتى يفهموا ما يدعوهم إليه، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم :4]، وجعل الله -عز وجل- وظيفة الرسل -الكرام- التبليغ المبين الواضح؛ لتقوم الحجة على المخاطبين، قال تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[الأنبياء:54]. ومقياس الوضوح ليس نفس الداعي وفهمه، فقد يكون الكلام واضحاً له، غامضاً على المخاطبين، وكذلك ليس المقياس وضوح القول بذاته، فقد يكون الكلام واضحاً بنفسه، ولكنه غير واضحاً أيضاً بالنسبة للمخاطبين، فالمقياس –إذن- وضوح القول بالنسبة لجمهور المخاطبين" انتهى كلامه -رحمه الله.
وقد أفتى المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بخصوص اشتراط أداء الخطبة باللغة العربية بما يلي: "الرأي العدل هو أن اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والعيدين في غير البلاد الناطقة بها ليست شرطاً لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة وما تضمنته من آيات قرآنية باللغة العربية؛ لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن، مما يسهل تعلمها، وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم به بلغتهم التي يفهمونها".
فجمهور المخاطبين –إذن- هم الغاية التي يهدف علم الخطابة إلى إقناعهم واستمالتهم؛ لحملهم على ما يراد منهم، وكل ما كتب في فن الخطابة ومهارات الخطيب ما هو إلا ابتغاء الوصول للطريق الأمثل للدخول في قلب المستمع وعقله لإمتاعه وإقناعه، وتربيته وتهذيبه وإصلاح شأنه وتقويمه وحل مشكلاته والإجابة عن تساؤلاته وعلاج آفاته وأدوائه، وتقديم الوجبة الغذائية النافعة لروحه ونفسه وعقله وفكره.
واجبات المخاطبين:
1-حسن الاستماع، ودقة الإنصات:
الحكم التكليفي الشرعي، أنه يجب على من حضر الجمعة أن ينصت للإمام وهو يخطب، ولا يجوز له الكلام مع غيره، حتى لو كان الكلام لإسكاته، ومن فعل فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له. فعن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت". (رواه البخاري ومسلم). ويشمل المنع الإجابة عن سؤال شرعي، فضلاً عن غيره مما يتعلق بأمور الدنيا. عن أبي الدرداء قال:" جلس النبي -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وخطب الناس وتلا آية وإلى جنبي أُبيّ بن كعب فقلت له: يا أُبيّ متى أنزلت هذه الآية؟ فأبى أن يكلمني ثم سألته فأبى أن يكلمني حتى نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لي أبيٌّ: مالك من جمعتك إلا ما لغوت، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جئته فأخبرته فقال: "صدق أُبيّ، إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ". (رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني). وهذا يدل على وجوب الإنصات وتحريم الكلام والإمام يخطب يوم الجمعة. قال ابن عبد البر: "لا خلاف بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على من سمعها. ويستثنى من ذلك: الكلام مع الإمام، وكلام الإمام مع المأمومين للحاجة أو المصلحة كما سنذكر في نقطة تالية.
فالمفترض في الخطيب المثالي أن يمتثل لكل أسباب ومقومات النجاح من حسن الإعداد وجودة الإلقاء وجمال الهندام، فإذا فرغ من تهيئه نفسه، وإعداد خطبته، وحان وقت الأداء والإلقاء، جاء دور المخاطبين ولزمهم -في مقابلة أداء الخطيب ما عليه- تهيئة نفوسهم؛ لحسن الاستماع، ودقة الإنصات، وإعداد أجهزة الاستقبال الربانية فيهم من عقل وسمع وقلب إعداداً طيباً يمكنهم من استقبال إرسال الخطيب من ذبذبات الهداية، وموجات الإرشاد، وحتى يتمكن المخاطبون من حسن الاستماع والاستفادة من موضوع الخطبة يلزمهم عدة أمور منها:
أ-راحة البدن، بنيل قسط كاف من النوم قبل الذهاب إلى الجامع وسماع الخطبة، فلا يرهق نفسه بالعمل الشاق أو طول السهر، حتى لا يجد عينيه -رغماً عنه- تغلق جفونها، مستسلمة لغوايات شيطان الجمعة الذي ينفخ في عيون الناس أثناء الخطبة، فيناموا وينعسوا ولا يستفيدوا من الخطبة بشيء.
ب-التطيب والاغتسال ولبس ثياب نظيفة، وكلها أمور تعين على إنعاش البدن والعقل والفكر ومن ثم جودة الإنصات، ومن ثم ذهب كثير من أهل العلم لوجوب الغسل يوم الجمعة لعموم الأحاديث الدالة على ذلك.
ج-ترك شواغل الحياة، وغلق أبوابها، قبل الدخول إلى المسجد، وخلع هموم الحياة وتركها على باب المسجد، وطرحها وراءهم ظهرياً، فلا ينبغي لمن ذهب إلى الجمعة أن يترك باباً من أبواب الدنيا تشغل قلبه وفكره قبل الجمعة مثل ترك المتجر مفتوحاً بلا حراسة، أو المنزل وبه أطفال صغار بلا رعاية، أو ماكينة تدور، أو نار مشتعلة، وغير ذلك من الشواغل التي يجب أن تلقى في سلة المهملات؛ لضمان حسن الاستماع.
2-حسن الصحبة، والتعاون على البر والخير:
إن المخاطب عليه أن يعلم، أن العلاقة بينه وبين خطيب الجمعة ليست مقصورة على التلقي والاستماع فحسب ولا محصورة في الإصغاء والإنصات فقط، ولكن تتخطاه إلى حسن صحبة الخطيب، والوقوف بجانبه، وداوم معاونته وتأييده في كل خطوة عملية من خطوات الخير والبر، فمثل هذه المعاني تستخرج من الخطيب كل إمكاناته وطاقاته، وتشجعه على إيجاد الحلول العملية لمشاكل البيئة الأساسية المتنوعة، وتوسع دور الخطيب، وتخرج من إطاره الضيق كواعظ يلقي موعظته أو خطبته، ثم ينصرف لا يبالي على أي موقع وقعت، ولا على فهم حملت، إلى إطار أوسع وأشمل كقيادة دينية ومعنوية تلعب أهم الأدوار في حياة الناس.
3-إخلاص الولاء، وبذل النصيحة، والثناء الحسن:
لقد أوجز الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقيقة الإسلام وجوهر الإيمان بقوله: " الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". فبذل النصيحة الخالصة من واجبات المخاطبين على الخطباء، فالخطباء مهما أوتوا من بلاغة وفصاحة وعلم، بشر يصيبهم ما يصيب البشر من الخطأ والنسيان، ويحتاجون إلى النصح والتقويم باستمرار، وأولى بالمؤمنين أن يكون ولاؤهم لأئمتهم في الدنيا والدين مضاعفاً، وإخلاص النصح لهم دائماً، الأمر الذي يوجب على المخاطبين أن يكونوا عيوناً وأعواناً للدعاة في مجالات الخير، وأن يركنوا إليهم في جميع أحوالهم، وأن يطرحوا بين أيديهم كل ما يلم بهم. لذلك أجاز أهل العلم كلام المخاطبين مع الخطيب، فيجوز للمستمع أن يسأل الخطيب وأن يناقشه، بل هذا مشروع وسنة، وأيضاً يُشرع للخطيب أن يجيبه ويدل لهذا حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قائماً يخطب فدخل رجل، وقال: "يا رسول الله: هلكت الأموال وانقطعت السبل وجاع العيال، فادعُ الله أن يغيثنا، فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يديه، ولما كان في الجمعة التالية سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسأل الله -عز وجل- أن يمسكها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الدواب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر..."، والنبي -عليه الصلاة والسلام- نزل من المنبر وأخذ الحسن، وذكر أيضاً النبي -عليه الصلاة والسلام- قال لمن دخل ولم يصلِّ: "أصليت ركعتين؟" وهو يخطب قال: لا، قال: "قم فصلِّ ركعتين"، وهكذا وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يكلم الصحابة في الخطبة ويجيبونه، فإن كان هناك مصلحة شرعية من سؤال أمر مستشكل ونحو ذلك فإن هذا مشروع.
حقوق المخاطبين:
1-احترام عقولهم وأذهانهم:
إذا أدى المخاطبون ما عليهم من واجبات نحو أئمتهم وخطبائهم، توجب على الخطباء والدعاة والأئمة تأدية الحقوق المستحقة للمخاطبين كاملة غير منقوصة. وأولى هذه الحقوق والمطالب يتمثل في احترام عقولهم وأذهانهم، وهذا الأمر لا يستطيع الخطباء تحقيقه إلا إذا أدوا ما عليهم من واجبات في تحضير الخطبة والاعتناء بها مع حسن الهندام. فالخطيب إذا وضع نصب عينه أنه سيواجه جمهوراً له آذان صاغية، وقلوب واعية، وعقول راقية، فإنه سيبذل أقصى جهد من أجل أداء خطبته على أكمل وجه. وعلى الخطباء أن يراعوا ظروف سامعيهم، واختلاف نوعياتهم وطوائفهم، لذلك قال الله -عز وجل- في محكم تنزيله لنبيه الأكرم: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [ النحل :125]، فجمهور المخاطبين متباينون، منهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني، قوية الانجذاب إلى المبادئ العالية، فهؤلاء يدعون بالحكمة، وهي المعاني المحكمة والكلام الصواب الواقع من النفس أجمل موقع. ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة، ضيقة الاستعداد، شديدة الإلف للمحسوسات، قوية التعلق بالرسوم والعادات، قاصرة عن درجة البرهان، فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة، وهي ما تضمنه الكتاب العزيز من الرغبة والرهبة والإنذار والتخويف. ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لما غلب عليه من تقليد الآباء ورسوخه في العقائد الباطلة، فصار بحيث لا تنفعه المواعظ، ولا تجدي معه العبر، بل لابد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال؛ لتلين عريكته، وتزول شكيمته، وهؤلاء التي أمر الله رسوله بجدالهم بالتي هي أحسن.
2–مبادلة المخاطبين حسن الصحبة:
إن المخاطبين الذين توجب عليهم حسن الصحبة والنصح لأئمتهم وخطبائهم الذين يهدون بأمر الله، من حقهم على أئمتهم وخطبائهم ودعاتهم مبادلتهم نفس الشعور والعمل الصالح، من حسن الصحبة بمثلها أو بأحسن منها، بل ألأفضل للخطباء والدعاة أن يبادروا بهذا الواجب قبل أن يقوم به المخاطبون أنفسهم، بل يتوجب عليهم على طول باعهم وتفوق كفتهم أن يضاعفوا جهودهم ونشاطهم الخيري والدعوي الذي يتشارك فيه جمهور المخاطبين، ويوسعوا جهودهم في مجال التكافل الخيري مع بث الثقة في نفوس المخاطبين وتحفيزهم للمشاركة في هذه الأعمال التي تفتح أفاقاً واسعة للنفس البشرية كي تسمو وترقى في سماء الهداية والرشاد.
3-شمول المخاطبين بكامل الرعاية، وتمام الرعاية:
فالخطباء والدعاة مطالبين أكثر من غيرهم بتأليف قلوب المخاطبين، واستمالة نفوسهم، وهذه الغاية العظيمة إحدى ركائز العمل النبوي في نشر الإسلام، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يتألف قلوب الناس، كل حسب ما تستهوي نفسه، مادام ذلك في إطار الشرع، فهذا بكلمة حسنة تنشرح لها نفسه، وآخر بشرف تزهو به نفسه، وثالث بتكليف تنطلق به ملكاته وطاقاته ومواهبه، ورابع بعطاء يسل به سخيمة نفسه وهكذا. ولن يعين الخباء على الوفاء بهذا الحق وقضائه للمخاطبين إلا أن يجزلوا لهم ويكثروا من حسن الخطاب وجميل القول وحلو الحديث؛ ليستثيروا فيهم نوازع الخير التي فطروا عليها، وجوانب البر التي جبلو عليها.
التعليقات