عناصر الخطبة
1/وقفات مع حديث "أحد جبل يحبنا ونحبه"

اقتباس

والمُسْلِمُ، حِينَ تَحِلُّ بِهِ مُصِيْبَةٌ، فإِنَّهُ لا يَتَطَيَّرُ بِزَمَانِها ولا بِمَكانِها، ولا يَتَشاءَمُ بِما اقْتَرَنَ فيها، وإِنَّما يَصْبِرُ على ما أَصابَهُ، ويَحْتَسِبُ عِنْدَ اللهِ ثَوابَه...لا يَتَشاءَمُ المُسْلِمُ مِنَ بِقَاعِ المَصَائِبِ ولا يَتَطَيَّرْ بِها، وإِنَّما يَنْفِرُ مِنْ الأَسْبابِ الجَالِبَةِ للمَصائِبِ ويَفِرُّ مِنْها، والذُّنُوبُ أَعْظَمُ سَبَبٍ لِـجَلْبِ المَصائِبِ وتَداعِيْها...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا

 

أيها المسلمون: جَبَلٌ عَظِيْمٌ صَلْدٌ أَصّم، لَهُ حِجارَةٌ قاسِيَةٌ وصُخُورٌ صَلْبَةٌ، لَهُ امْتِدادٌ عَلَى مَسَاحَةٍ مِنَ الأَرْضِ ولَهُ في السَّماءِ شُمُوخ، لَه عُمْقٌ في باطِنِ الأَرْضِ ولَهُ في جَوفِها رُسُوْخ، جَبَلٌ بارزٌ عَلى مَشارِفِ مَدِيْنَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَلُوحُ للناظِرِين مِنْ مَكانٍ بَعِيْدَ، تَرَدَّدَ ذِكْرُهُ في نُصًوصِ السُّنَّة كَثِيْراً، أَثْنَى عليهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأَثْبَتَ مَحَبَّتَهُ لَه، عَنْ أَبِيْ حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ غَزْوَةِ تَبُوْك، حتَّى إِذا أَشْرَفْنا على المَدِيْنَةِ قال: "هذِهِ طابَةُ ــ يَعْنِيْ المَدِيْنَة ــ وهذا أُحُدٌ، جَبَلٌ يِحِبُّنا ونُحِبُّه"(متفق عليه)، "جَبَلٌ يُحِبُّنا ونِحِبُّه"، شَرَفٌ نالَهُ هذا الجَمادُ، شَرَفٌ يُجَلِّلَ ذاكَ الجَبَل، شَرَفٌ تَقَاصَرَ عَنْ بُلُوغِهِ أَقُوامٌ لَهُم في النَّاسِ عَقْلٌ، وتَقَهْقَرَ عَنْ إِدْرَاكِهِ أَقْوامٌ لَهُم في الناسِ مَقام؛ "جَبَلٌ يُحِبُّنا ونِحِبُّه".

 

عَلَّمَنا حَدِيْثُ (أُحُد)، أَنَّ حُبَّ اللهِ ورَسُولِهِ كَرامَةٌ يَهَبُها اللهُ لِمَنْ شَاءَ، فَكْمِ حِيْلَ بَيْنَ قُلُوبٍ وبَيْنَ نَعْمائِها، تُحِبُّ ما تَهْواهُ في دُنْيا الهَوى، الحُبُّ للرحمَنِ لا تَهْواهُ.

 

(جَبَلٌ يُحِبُّنا ونِحِبُّه) عَلَّمَنا حَدِيْثُ (أُحُدٍ)، أَنْ لا أَحَدَ يُدْركُ فَضْلاً بِمَحْضِ سَعْيِهِ وتَدْبِيْرَه، وأَنْ لا أَحَدَ يُدْرِكُ نِعْمَةً، بِمَحْضِ تَخطِيْطِه وتَقْدِيْرِه، وإِنَّما يُدْرَكُ الفَضْلُ بِمِنَّةِ اللهِ ولُطْفِهِ وتَيْسِيْرِه (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).

 

عَلَّمَنا حَدِيْثُ (أُحُد) أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ ورَسُولِهِ لَيْسَتْ شِعاراً يُرْفَعُ وشَرِيْعَةً تُضَيَّع، وإِنَّما مَحَبَّةُ اللهِ ورَسُولِهِ، حَقِيْقَةٌ، تَشْهَدُ لَها الأَفْعالُ، وتَنْطِقُ بِها الأَقْوالُ، وتُقِرُّ بِها الضَّمائِرْ.

 

مَحَبَّةُ اللهِ ورَسُولِهِ، لَها بُرْهانٌ ودَلِيْلٌ وشاهِد، صَمَتَ (أُحُدٌ) وَلَمْ يَنْطِق، وشَهِدَ لَهُ بالحُبِّ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- (جَبَلٌ يُحِبُّنا ونِحِبُّه).

 

مَحَبَّةُ العَبْدِ للهِ ولِرَسُولِهِ، شَرَفٌ كُلٌّ يَدَّعِيْهِ، والدَّعاوَى ما لَمْ يُقِيْمُوا عَلَيْها بَيِّناتٍ، أَصْحَابُها أَدْعِياءُ، مَحَبَّةُ اللهِ ورَسُولِهِ، دَلِيْلُها صِدْقُ الاتِّباع؛ فَمَنْ زَعَمَ الحُبَّ وخالَفَ، مُفْتَرٍ لَوْ قَامَ حَالِفْ؛ قَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ -رحمه الله-: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يُحِبُّوْنَ اللهَ؛ فَابْتَلاهُمُ اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

 

عَلَّمَنا حَدِيْثُ (أُحُد)، أَنَّ حُبَّ الله للعَبْدِ اصْطِفاء، فَكَما اصْطَفى اللهُ بالحُبِّ جَبَلاً على سائِرِ الجِبالِ، يَصْطَفِيْ بالمَحَبَّةِ رِجَالاً عَلى سائِرِ الرِّجالِ، ومَنْ أَقْبَلَ على اللهِ بِقَلْبِهِ قَبِلَه، ومَنْ تَقَرَّبَ إِليهِ بالصَّالِحاتِ أَحَبَّه، فِيْ الحَدِيْثِ القُدْسِيِّ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلّ-: "وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه، وَمَا يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بالنَّوافِلِ حتَّى أُحِبَّهُ"(رواه البُخاري).

 

يُحِبُّ اللهُ مَنْ يُقِيْمُ عَقِيْدَةَ التَوْحِيْدِ، فَلا يَتَخَلَّى عَنْها ولا يَتَنازَلُ ولا يَحِيْد، يُحِبُّ اللهُ مَنْ يَرْسُو ثابِتاً على الدِّيْن، ويَصْمُدُ مُصابِراً، في سَبِيْلِ مَرْضاةِ رَبِّ العالَمِيْن، ومَنْ تَخَلَّى عَن العَقِيدَةِ أَو ارْتَكَس، أَو زاغَ عَنْها أَو ارْتَدَّ أَو انْتَكَسَ، فَلا يَضُرُّ إِلا نَفْسَهُ، واللهُ يَجْتَبِيْ مِنْ عِبادِهِ خَيْراً مِنْه، يَجْتَبِيْ قَوْماً يُحِبُّهُم ويُحِبُّوْنَه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

 

(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، لَيْسَ الشَّأَنُ في أَنْ تُحِبَّ، ولَكِنَّ الشأَنَ في أَنْ تُحَبَّ، الشأَنُ كُلُّ الشأَنِ أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ الذي أَنْشأَك، أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّكَ فَعَدَلَك، أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ وهُوَ الغَنِيّ، أَنْ يُحِبَّكَ اللهُ المُهَيْمِنُ العَلِيّ.

 

يُحِبُّكَ اللهُ، فَيَقْذِفُ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِ المُؤْمِنِيْن، وإِذا أَحَبَّ اللهُ عَبْداً، فلا تَسَلْ عَنْ أَبْوابٍ العَطاءِ والإِكْرامْ، وَلا تَسَلْ عَنْ أَبْوابِ الفَيْضِ والإِنْعام، يُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، ويَعْصِمُهُ مِنْ العُسْرى، يَشْرَحُ صَدْرَهُ لِفِعْلِ الخَيْراتِ، ويُعِيْنُهُ عَلى اجتِنابِ المُنْكَرات، يُحَبِّبُ إِليهِ الإِيْمانَ ويُزَيِّنُهُ في قَلْبِه، ويُكَرِّهُ إِليهِ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيان، وَفِيْ تَمَامِ الحَدِيثِ القُدْسِيْ قالَ اللهُ: "فإذا أحْبَبْتُهُ، كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذي يَسْمَعُ به، وبَصَرَهُ الَّذي يُبْصِرُ به، ويَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بها، ورِجْلَهُ الَّتي يَمْشِي بها، وإنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، ولَئِنِ اسْتَعاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ"(رواه البُخاري).

 

عَلَّمَنا حَدِيْثُ (أُحُد)، أَنَّ في الجَمَادَاتِ مُولاةٌ للهِ ولِرَسُولِه: (جَبَلٌ يُحِبُّنا)، جَبَلٌ يُحِبُّ رَسُولَ اللهِ ويُحِبُّ المؤْمِنِيْنَ، ومَنْ تَخَلَّقَ مِنَ النَّاسِ بأَخْلاقِ هذا الجَبَلِ، أَدْرَكَ فَوزاً ونالَ نَعِيْماً، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ -أَيْ أَحَبَّ قَوماً سَبَقُوا في عَمَلِ الصَّالحاتِ وقَصُرَ عَمَلُهُ عَنْ عَمَلِهِم- كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"(مُتَفَقٌ عليه).

 

أَعْظَمُ بِشارَةٍ تُرَفْرِفُ لَها قُلُوب المُؤْمِنِيْن، ومَنْ أَحَبَّ قَوماً تَخَلَّقَ بأَخْلاقِهِم، ومَنْ أَحَبَّ قَوماً تَشَبَّهَ بِخِصالِهِم، ومَنْ أَحَبَّ قَوماً اقْتَدَى بأَفْعَالِهِم؛ (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا).

 

عَلَّمَنا (أُحُد) أَنَّ العَظِيْمَ يَنْثَنِيْ تَواضُعاً اللهِ، وأَنَّ العَظِيْمَ يَسْتَجِيْبُ انْقياداً لأَمْرِ اللهِ؛ قَالَ أَنَسٌ -رضي الله عنه-: صَعِدَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- (أُحُدًا) وأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بهِمْ أُحُد، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "اثْبُتْ أُحُدُ؛ فإنَّما عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وصِدِّيقٌ، وشَهِيدَانِ"(رواه البخاري)، (أُثْبُتْ أُحَد) أُمِرَ الجَبَلُ بالثَّباتِ فَثَبَتْ، والجَبَلُ مُصْغٍ لأَمْرِ الله سَامِعْ.

 

خُوطِبَ الجَبَلُ بِما يُخاطَبُ بِهِ العُقَلاءُ، وتِلْكَ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزاتِ الرَسُولِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَعَ ما يُشابِهُها في سَابِقِ الأَنْبِياءِ؛ قَالَ اللهُ عَنْ دَاودَ -عليه السلام-: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ)، (أُثْبُتْ أُحَد)، ولَقَلْبُ المؤْمِنِ أَوْلَى بالثَّبات.

 

(أُثْبُتْ أُحَد)، فَثَباتُ الجِبالِ ثَباتٌ للأَرْض، وثَباتُ القَلْبِ ثَبَاتٌ للدِّيْن؛ (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا* إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا).

 

باركَ اللهُ لي ولكم بالقرآن العظيم،

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْن، وأَشْهَدُ أَن لا إِله إلا اللهُ ولي الصَّالحِين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رَسُولُ رَبِّ العالَمِيْن، صلى اللهُ وسَلَّم وبارك عليه وعلى آلِهِ وأَصْحابِهِ أَجْمَعِيْن؛ أَما بعدُ: فاتَّقُوا الله -يا عبادَ اللهِ- لعلكم ترحمون.

 

أيها المسلمون: وعَلى سُفُوحِ ذاكَ الجَبِلِ، كانَتْ واحِدَةٌ مِنْ مَعَارِكِ الإِسْلامِ مَعَ الكُفْر -غَزْوَةُ أُحُدٍ-حَفِظَتِ السِّيْرَةُ أَحْدَاثَها، وفَصَّلَ القُرآنُ وَقَائِعَها، وبَيَّنَتِ الآياتُ عِبَرَها، وفي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ جَاءَ النَّبأَ؛ (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

 

أَصَابَ المُسْلِمِينَ في (أُحُدٍ) قَرْحٌ وبلاءٌ وشِدَّة؛ (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

 

عَلِمَ المُسْلِمُونَ، أَن البِقاعَ التي يُصِيْبُهُم فِيْها قَدَرٌ مِنْ أَقْدارِ اللهِ المُؤْلِمَةِ، لا شَأَنَ للبِقاعِ في حُلُولِها، فَما تَشَاءَمَ المُسْلِمُونَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ، بَلْ جاءَ البَيانُ ظاهِراً مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- في الثَّناءِ عَلَيْه "وَهذا أُحُد، جَبَلٌ يِحِبُّنا ونُحِبُّه".

 

والمُسْلِمُ، حِينَ تَحِلُّ بِهِ مُصِيْبَةٌ، فإِنَّهُ لا يَتَطَيَّرُ بِزَمَانِها ولا بِمَكانِها، ولا يَتَشاءَمُ بِما اقْتَرَنَ فيها، وإِنَّما يَصْبِرُ على ما أَصابَهُ، ويَحْتَسِبُ عِنْدَ اللهِ ثَوابَه.

 

لا يَتَشاءَمُ المُسْلِمُ مِنَ بِقَاعِ المَصَائِبِ ولا يَتَطَيَّرْ بِها، وإِنَّما يَنْفِرُ مِنْ الأَسْبابِ الجَالِبَةِ للمَصائِبِ ويَفِرُّ مِنْها، والذُّنُوبُ أَعْظَمُ سَبَبٍ لِـجَلْبِ المَصائِبِ وتَداعِيْها؛ قالَ اللهُ في شأَن مُصَابِ المُسْلِمِيْنَ في أُحُد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ)، وفي كُلِّ مُصِيْبَةٍ قال الله: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).

 

(وَهذا أُحُد، جَبَلٌ يِحِبُّنا ونُحِبُّه) بَيانٌ، لا يَدْعُو إِلى تَقْدِيْسِ الجَبَلِ ولا إِلى شَدِّ الرِّحَالِ إِليه، ولا إِلى اسْتِحْبابِ زِيارَتِهِ ولا إِلى الصُعُود عليه، فَما كانَ أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَتَقَصَّدُونَ ذلكَ ولا يَتَعَبَّدُونَ للهِ به.

 

وحِيْنَ تَتَعَلَّقُ القُلُوبُ بِبَعْضِ البِقاعِ أَو الآثارِ أَو المعالِمِ دُونَ اسْتِنادٍ إِلى دليلٍ شَرْعِيٍّ، فإِنَّما تَفْتَحُ لِنَفْسِها أَبواباً مِن الضلالات وأَنواعاً مِن الشُّرُور.

 

وما تَخْلَخَلتْ عَقائِدُ كَثِيْرٍ من المُسْلِمِيْن في كَثِيْرٍ مِن البُلْدَانِ، إِلا حِيْنَ تَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُم بِغَيْرِ اللهِ، يُقَدِّسُونَ بُقَعاً مِنْ الأَرْضِ، ويُقَدِّسُونَ حَجَراً أَو مَعْلَماً أَو بَشَرا؛ فلا يَزَالُونَ يُعَظِمُونَها حَتَى يَتَوَسَّلُونَ بِها، أَو يَتَوَجَهُونَ إِليها ويَدْعُونها مِنْ دَونِ الله.

 

(وَهذا أُحُد، جَبَلٌ يِحِبُّنا ونُحِبُّه) وفي بَيانِ عَظِيْمِ الأُجُورِ، كانُ (أُحُدٌ) مَضْرِبَاً للمَثَل، رَوى أَبُو هريرةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: "مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازةٍ، فَلَهُ قِيْرَاطٌ، وَمَنْ يَتْبَعُهَا حَتَّى يُقضَى دَفنُها، فَلَهُ قِيرَاطَانِ، أَصْغَرُهُما مِثْلَ (أُحُد)، فَذُكِرَ ذَلِكَ لابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- فَتَعَاظَمَهُ، فَأَرْسَلَ إِلى عَائِشةَ -رضي الله عنها- يَسْأَلُها، فَقَالَتْ: صَدَقَ أَبُو هُرَيْرةُ؛ فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: "لقَدْ فَرَّطْنَا في قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ"(متفق عليه).

 

وإذا صُلِّيَ في وَقْتٍ واحِدٍ على أَكثرِ مِن جَنازَةٍ، فإِن القَرارِيطَ تَتَعَدَّدُ بعددَ تلكَ الجَنائِز؛ قالَ ابنُ بازٍ -رحمه الله-: "الأَحادِيثُ كُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ القَرَارِيْطَ تَتَعَدّدُ بِعَدَدِ الجَنَائِز"ا.هـ و"لقَدْ فَرَّطْنَا في قَرَارِيطَ كَثِيرَةٍ

 

اللهم أحسن عاقبتنا،

 

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life