اقتباس
وجبر الخواطر يعني فيما يعنيه تثبيت الآخر ورفع همته وتهوين مصيبته وإقالة عثرته والأخذ بيده حتى يقف على قدمه. .. والخاطر ما يرد على القلب أو النفس من رأي أو معنى أو فكرة، ثم أطلق على القلب على سبيل المجاز.
فالدهر ذو تصاريف عجيبة وتقلبات غريبة، منها ما يَسُر المرء ويفرح، وما يحزنه ويترح، وهو في كل ذلك بحاجة إلى من يأخذ بيده ويجبر بخاطره ويمسح عن قلبه غاشية الحزن ويرفع عن صدره جاثمات الكرب. ..
وما أروع وأنت في غمرة الحزن أن تمتد إليك يد تسعفك أو تسبق إلى أذنك كلمة تشد من ازرك وتسعدك. .. وتهون من أمر المصيبة وتنجدك. ... فتقف على رجليك مرة أخرى وتنهض قائماً وتتابع سيرك في هذه الحياة. ..
وكثير من لحظات الحياة تمر وتنقضي وتمسح من الذاكرة وتنمحي. .. ولا يبقى في الذاكرة ولا يثبت في جدرانها إلا أسماء أولئك الذين وقفوا معك وأنجدوك وجبروا خاطرك وأسعفوك على ما قال إبراهيم الصولي:
سَأَشكُرُ عَمراً أَن تَراخَت مَنيَّتي *** أَياديَ لَم تُمنَن وان هيَ جَلَّت
فَتىً غَيرُ مَحجوبِ الغِنى عَن صَديقِه *** وَلا مُظهِرُ الشَكوى إِذا النَعلُ زَلَّتِ
رَأى خَلَّتي من حيث يَخفى مَكانُها *** فَكانَت قَذى عينيهِ حَتّى تَجَلَّتِ
إِذا استُقبِلَت منه المَودَّةُ أَقبلت *** وان غُمِزَت مِنه القَناةُ أَكفهَرَّتِ
ولا شك أن كل واحد منا يحمل في فكره ويدخر في ذاكرته اسم شخص سجل أمامه موقفاً أو ردَّ عنه سوءاً بفعل أو قول أو رسالة مثبتة أو كلمة مشجعة جبرت خاطره وأثلجت فؤاده. .. فهو لا ينساها له كما لم ينس النبي -عليه الصلاة والسلام- موقف المطعم بن عدي حين أدخله في جواره يوم عودته من الطائف حزيناً أسيفاً فقال يوم أسر أسرى بدر: لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لأجبته فيهم.
وكما لم ينس الإمام أحمد أبا الهيثم فكان يدعو له في كل صلاة: اللهم اغفر لأبي الهيثم. .. اللهم ارحم أبا الهيثم. .. قال ابن الإمام له: من يكون أبو الهيثم حتى تدعو له في كل صلاة، قال: رجل لما مُدت يدي إلى العقاب وأُخرجت للسياط إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي ويقول لي: تعرفني ؟ قلـت: لا. قال أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان لأجل الدنيا فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين.
وجبر الخواطر يعني فيما يعنيه تثبيت الآخر ورفع همته وتهوين مصيبته وإقالة عثرته والأخذ بيده حتى يقف على قدمه. .. والخاطر ما يرد على القلب أو النفس من رأي أو معنى أو فكرة، ثم أطلق على القلب على سبيل المجاز.
وجبر الخواطر خلق إسلامي عظيم يدل على سمو نفس وعظمة قلب وسلامة صدر ورجاحة عقل ونبل محتد وكرامة أصل، وأصالة معدن وشهامة مقدرة ورجولة مباركة.
وله في تاريخنا الإسلامي المشرف أخبار رائعة وآثار ماتعة وقصص تملأ الإهاب إهاب المسلم فخراً وزهواً، وقبل أن نبدأ بذكرها لتسمحوا لي بتأصيل هذا الخلق العظيم وأين نجده من كتاب ربنا وسنة رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، ثم نعرج على الأمثلة.
إن مما يؤسس لجبر الخواطر في القرآن الكريم قوله تعالى: (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) [يوسف:15].
فكان هذا الوحي لتثبيت يوسف ولجبر خاطره؛ فإنه ذاك المظلوم الذي أوذي من أخوته، فالذي يؤذى ويظلم يحتاج إلى جبر خاطر، ومن ثَم شرع لنا جبر الخواطر المنكسرة.
ومثله قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [القصص:85]، قَالَ مُقَاتِلٌ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْغَارِ لَيْلًا مُهَاجِرًا إلى المدينة في غير طريق مَخَافَةَ الطَّلَبِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى الطَّرِيقِ وَنَزَلَ الْجُحْفَةَ عَرَفَ الطَّرِيقَ إِلَى مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ" أَيْ إِلَى مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهَا.
ومثله قوله تعالى أيضاً: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَلَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) "1" [إبراهيم: 36]، وقول عيسى: إ(ِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) "2" [المائدة: 118]، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي" وَبَكَى. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: "اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ"، فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَسَأَلَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: "اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ لَهُ: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ: إِنَّا سنرضيك في أمتك وَلَا نَسُوءُكَ "1"".
ومن جبر الخواطر الإلهي ما رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الخَلْقَ، حَتَّى إِذَا (ص: 6) فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ، قَالَتِ الرَّحِمُ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَهُوَ لَكِ " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد: 22] ".
والأمثلة القرآنية كثيرة في ذلك ومؤسسة لهذا الخلق النبيل.
ولو انتقلنا إلى السنة النبوية لرأينا هذا الخلق يتجلى في صاحبها أعظم تجلِّ وأبهى ظهور وأكمل حضور. .. قولاً وعملاً. .. وما أجمل القول حين يصحبه عمل. .. وما أروع الكلام إن عضد بترجمة حقيقة على أرض الواقع. ..
كان عليه الصلاة والسلام يجبر كل خاطر كسير حوله. .. صغيراً كان أو كبيراً. .. رجلاً كان أو امرأة. .. فكان الكل يأوي إليه والكل يسعى لديه. ..
أليس هو القائل لذلك الطفل الأنصاري: يا أبا عمير، ما فعل النغير... قال أنس -رضي الله عنه-: "كان رسول الله ـ-صلى الله عليه وسلم- ـ أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخ يقال له: أبو عمير - أحسبه قال: كان فطيما -، قال: فكان إذا جاء رسول الله ـ -صلى الله عليه وسلم- ـ فرآه قال: يا أبا عمير، ما فعل النغير -طائر صغير كالعصفور-؟ قال: فكان يلعب به" (رواه مسلم).
أليس هو القائل للأنصار وقد وجدوا في أنفسهم أن لم يعطهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الغنيمة فكَثُرَتْ فِيهِمُ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَوْمَهُ، فَدَخَلَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَنَا إِلاَّ امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، وَمَا أَنَا ؟ قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ الأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ. قَالَ: أَلاَ تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ. قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلاً فَآسَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلاَمِكُمْ ؟ أَفَلاَ تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ فِي رِحَالِكُمْ ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الأَنْصَارِ قَالَ: فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، وَقَالُوا: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ قِسْمًا وَحَظًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتَفَرَّقُوا" (رواه احمد).
صَلّى عَلَيكَ اللَهُ ما صَحِبَ الدُجى *** حادٍ وَحَنَّت بِالفَلا وَجناءُ
وَاِستَقبَلَ الرِضوانَ في غُرُفاتِهِم *** بِجِنانِ عَدنٍ آلُكَ السُمَحاءُ
أليس هو القائل: "وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا" وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.
أليس هو القائل لفقراء المهاجرين حين جاؤوه مكسوري الخاطر وقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: " أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ" (رواه مسلم).
هذا كان من قاله. .. أما حاله فلم يكن بأقل روعة بأبي هو وأمي. ... فقد فرض زكاة الفطر جبراً لقلوب الفقراء وإعزازاً لهم فقال: "اعفوهم عن السؤال في هذا اليوم".
وهو الذي كانت الجارية أو الأمَةُ مِنْ إماءِ أهْلِ المَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِه فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شاءَتْ.
بل إنه -عليه الصلاة والسلام- جبر بخواطرنا نحن الذين نحبه ونشتاقه ونتمنى لو كنا إلى جانبه نذود عنه وننافح عنه، فقال فيما رواه أحمد بإسناد حسن لغيره عن أنس بن مالك قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وددت أني لقيت إخواني قال فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ليس نحن إخوانك قال أنتم أصحابي ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني"، وفي رواية لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ووَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا " قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " بَلْ أَنْتُمْ أَصْحابِي، وَإِخْوَانُنَا لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ "، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ " فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ ".
وعلى هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- سار سلفنا الصالح رضوان الله عليهم مقتفين أثره، فكانت حياتهم مثالاً للتعاون والتآلف وإدخال السرور على النفس وجبر الخواطر المنكسرة.
فهذا سعيد بن اسماعيل الواعظ أبو عثمان روى الخطيب البغدادي رحمه الله أنه سئل أي أعمالك أرجى عندك ؟ فقال: إني لما ترعرعت وأنا بالري وكان يريدونني على التزويج فأمتنع، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان قد أحببتك حباً قد أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليك إلا تزوجتني. فقلت ألك والد ؟ قالت نعم، فأحضرته فاستدعى بالشهود فتزوجتها، فلما خلوت بها فإذا هي عوراء عرجاء شوهاء مشوهة الخلق، فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على تزويجي بها، فكنت أزيدها برا وإكراما وربما احتبستني عندها ومنعتني من حضور بعض المجالس، وكأني كنت في بعض أوقاتي على أحر من الجمر وكنت لا أبدي لها من ذلك شيئا فمكثت على ذلك خمس عشرة سنة، فما شيء أرجى عندي من حفظي إليها ما كان في قلبها من جهتي.
هذا ذكرني برجل تزوج امرأة وبعد سنوات دخل عليها المطبخ وقد جهزت طعاماً فتذوقه فإذا هو مالح جداً. . فلم يغضب. . ولم يعول ولم يولول. .. ولم يكسر الصحون. .. ولم يضرب. .. ولم يشتمها وأهلها. .. ولم يحمل حماته المسؤولية أنها لم تعلم زوجته أصول الطبخ. .. بل وضع يديه على كتفيها وقال: لقد ذكرتني الليلة بأول يوم تزوجنا فيه. .. يوم كان أول عهدك بالطبخ. .. وكنت تزيدين نسبة الملح فيه. .. فقالت: وهل كان الطعام مالحاً اليوم ؟ قال: نعم ولكنه ذكرني بأسعد يوم في حياتي. .. فجبر خاطرها. .. ووصل إلى ما يريد بأفضل طريقة، وأجمل أسلوب.
قد تكون العبادات قليلة، قد تكون الطاعات غير كثيرة، قد لا يكون هذا الإنسان مما يقوم الليل أو ممن يتهجد أو يصلي النوافل، قد لا يكون متحلياً بشيء من ذلك، لكنه ممن وفقه الله -عز وجل- إلى أن يكون جباراً للخواطر الكثيرة، وماسحاً عن الأفئدة المكلومة قتام الحزن، يجلو عنها الشعور بالآلام والمصائب مع قصده بذلك رضا الله، إذا كان كذلك فليعلم أنه محبوب من قبل الله -سبحانه وتعالى- وأنه ذو حظ عظيم.
في تاريخ مدينة دمشق عن عطاء بن أبي رباح قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد.
أي خلق هذا وأي أدب ذاك. .. الله -عز وجل- قادر على أن يجعل قلوب الناس كلها تمتلئ فرحاً وسروراً، ولكن الله -عز وجل- شاء أن يكون مفاتيح ذلك بيد عباده، أعطاني الله -سبحانه وتعالى- مفتاح إدخال السرور على قلبك، وأقدرني على إدارة هذا المفتاح لكي يكسبني الأجر عن طريق ذلك، وأقدرك الله -عز وجل- على هذا بالنسبة لي. .. تلك هي سنة رب العالمين في هذه الدنيا.
ذات مرة قام عريف حفل بتقديم خطيب ليلقي كلمة في الناس وبعد ان عرف به قال: فليتفضل مأموراً غير مشكور. .. أخطأ وكان الواجب أن يقول: مشكوراً غير مأمور. ..فضحك الناس منه، ولكن الخطيب تدارك الأمر وجبر خاطره وقال: أحسن أخي عريف الحفل في قوله مأموراً غير مشكور فالله أمرنا أن نقول الحق وننطق بالصواب، ولا داعي لشكرنا على ذلك لأنه واجب علينا، وقد قيل: لا شكر على واجب.
فجبر الخواطر طاعة يتقرب بها الإنسان إلى الله وهي من أجل القرب، بشرط واحد هو أن يكون هدف هذا الإنسان استنزال رضا الله -سبحانه وتعالى- عنه.
همسات سريعة في باب جبر الخواطر:
1- لا تستخفن بأي شيء من جبر الخواطر مهما قل، كلمة أو إشارة، فالقليل منك كثير.
2- ليكن من جبرك للخواطر همسة في أذن، وكما قال الشاعر:
لا خَيلَ عِندَكَ تُهديها وَلا مالُ *** فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ
3- لا يباح في باب جبر الخواطر أن أتنازل عن شيء من مبادئي أو ثوابت ديني أو أرتكب محرماً أو أضيع واجباً.
4- ضرورة الإخلاص في ذلك.
اللهم اجبر خواطرنا بفرج قريب ومغفرة واسعة. .. إنك سميع قريب.
المصدر: رابط العلماء السوريين
التعليقات