ثم تتحاسدون

ناصر بن محمد الأحمد

2013-08-26 - 1434/10/19
عناصر الخطبة
1/خطر الحسد 2/الحسد داء قديم 3/تحريم الحسد 4/الحسد دركات 5/الحسد على المال (قصة قارون)6/حسد العين 7/النهي عن الحسد والتحذير منه 8/الآثار السيئة للحسد 9/ كل ذي نعمة محسود 10/أضرار الحسد ومفاسده 11/من قصص الحساد
اهداف الخطبة

اقتباس

أيها المسلمون: ما من صاحب نعمة إلاّ كان له حاسدون، وكان له من حاسديه ظالمون آثمون، دبروا له المكائد، وافتروا عليه الفرى، ومكروا به أيما مكر. فذو نعمة في عقله وعلمه وعمله كان له حاسدون، ناله من حسدهم بلاء وهمّ، وحزن وغمّ. وذو نعمة في سلطانه ومجده كان له حاسدون، أفسدوا ما بينه وبين أقرانه، أو بينه و...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: الحسد داء خطير، إذا أصاب النفس الإنسانية أضناها وأشقاها، وجعلها مصدر أذىً للآخرين، وإذا ما تشرّب القلب به فسوف يظهر على الجوارح، وقد يؤدي بالإنسان إلى انحراف في السلوك.

 

الحسد: من شر معاصي القلوب، ومعاصي القلوب قد تكون أشد إثماً من كثير من معاصي الجوارح.

 

الحسد: من أخلاق اللئام، وتركه من أفعال الكرام، وكل حريق يمكنك أن تطفئه، ونار الحسد لا ينطفأ.

 

الحسد: أول ذنب عُصي الله به في السماء، وأول ذنب عُصي به في الأرض، فأما في السماء فحسدُ إبليسُ لآدم، وأما في الأرض فحسدُ قابيلُ لهابيل.

 

قال معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -: "كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلاّ زوالها".

 

وعلة الحسد يرجع إلى إفراط من الأنانية، وحب الذات، مع ضعف في الإيمان بكمال حكمة الله -تعالى-، الأمر الذي يفضي إلى الاعتراض على الله في حكمته التي وزّع على مقتضاها عطاءه، ليبلوهم فيما آتاهم، فضرره من هذه الناحية يمس جانب الإيمان ويؤثرُ فيه.

 

وداء الحسد -يا عباد الله- داء قديم في الناس، روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه عن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دب إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".

 

لقد ذم الله -تعالى- الحسد ونهى عنه؛ قال الله -تعالى-: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق: 1-5].

 

وقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ)[البقرة: 109].

 

قال العلامة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "والآية تدل على تحريم الحسد؛ لأن مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة، والحاسد لا يزداد بحسده إلى ناراً تتلظى في جوفه؛ وكل ما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة".

 

وقال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) [النساء: 54].

 

قال الإمام القرطبي -رحمه الله-: "وهذا هو الحسد بعينه الذي ذمه الله –تعالى-".

 

وقال عز من قائل: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [النساء: 32].

 

قال أبو ليث السمرقندي: "يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده للمحسود: أولها: غمٌّ لا ينقطع. الثانية: مصيبة لا يُؤجر عليها. الثالثة: مذمةٌ لا يُحمد عليها. الرابعة: سخط الرب. الخامسة: يُغلق عنه باب التوفيق".

 

وقال الجاحظ: "الحسد كالكَلْب الكَلِب، والنِّمْر النَّمِر، والسُمُّ القَشِب، والفحل القَطِم، والسيل العرم، إن مَلَك قتل وسبى، وإن مُلك عصى وبغى، حياتك موته، وموتك عرسه وسروره، يُصدِّق عليك كل شاهد زور، ويُكذِّب فيك كلّ عدل مرضي، لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك، عدوك بطانة، وصديقك علانية، فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الموتى، ومخالطة الزمنى، والاجتنان بالجدران، أهون من معاشرته والاتصال بحبله".

 

وصدق من قال:

 

احفظ لسانك لا تبح بثلاثة *** سنٍ ومالٍ إن شئت ومذهبِ

فعلى الثلاثة تُبتلى بثلاثةٍ *** بحاسدٍ ومُكفّرٍ ومُكذّبِ

 

عباد الله: والحسد دركات، وأهونه الحسد المأذون به شرعاً، وهو حسد الغبطة، ومثاله: أن يرى الإنسان ما وهب الله غيره من نعمة حقيقية، فيتمنى لنفسه من فضل الله مثلها، دون أن يتمنى زوال النعمة عن صاحبها، وهذه المنـزلة لا يكاد يسلم منها أحد، إذ هي من الدوافع الفطرية الطبيعية والتي لا يملك الإنسان دفعها، لذلك كان الحرج مرفوعاً عنها، فلا يؤاخذ الإنسان عليها.

 

ولكن لهذا النوع من الحسد حدود، ولهذه المنـزلة ضابطان:

 

الضابط الأول: أن لا تكون هذه النعمة من الخصائص التي اصطفى الله بها بعض خلقه بالتكوين الفطري، أو بالمنح الخاصة التي لا تأتي عن طريق السعي والكسب.

 

وإشغال الفكر بهذا النوع من الحسد مضيعة للوقت ومقتلة للعمر ومجلبة للحسرات، وهي من المزالق التي تهوي بالنفوس والقلوب إلى دركات الحسد الضار.

 

وهذه التمنيات تفسد على الإنسان حياته، ويعيش فيما يسمى بأحلام اليقظة؛ فمن الناس من يتمنى مثلاً أن يصطفيه الله بالنبوة، وهذا لا يأتي عن طريق الاكتساب، إذ هو من الخصائص التي يختص الله بها بعض عباده، ومن الناس من يتمنى لنفسه كمالاً من الكمالات الفطرية التي لا يملك الإنسان اكتسابها، كالجمال والقوة والذكاء وفصاحة اللسان وغير ذلك.

 

الضابط الثاني: أن تكون النعمة التي يُستطاع كسبها بالسعي الإنساني من النعم التي تنفع الإنسان في آخرته.

 

وهذان الضابطان نستطيع استنباطهما مما جاء في كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار".

 

وروى البخاري ومسلم أيضاً من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".

 

عباد الله: جاء في كتاب الله -عز وجل- في قصة قارون أنه كان رجلاً عظيم الغنى، وقارون من بني إسرائيل ومن قوم موسى، وقد آتاه الله من الكنوز شيئاً عظيماً، تنوء العصبة من الرجال بحمل مفاتحه، ولكن هذا الإنسان قد أطغاه المال والشعور بالاستغناء، فبغى على موسى والمؤمنين معه، وكان الغنى سبباً في طغيانه ثم هلاكه ثم شقائه الأبدي.

 

وقد خرج قارون ذات يوم على قومه في زينته، يتعاظم بما لديه من مال، فرآه بنو إسرائيل من موكبه الذي يحسده عليه أهل الدنيا، ولا يحسده عليه العقلاء المؤمنون طلاب الآخرة.

 

أما الأولون، فقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79].

 

وأما العقلاء المؤمنون الذين أوتوا العلم فقالوا: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص: 80].

 

وبعد زمن يسير، انتقم الله من قارون، فخسف به وبداره الأرض، وأهلكه هلاكاً قاسياً فيه عظة لمن يدّكر؛ فأصبح طلاب الدنيا الذين كانوا تمنوا مكانه بالأمس يذعنون لحكمة الله في بسط الرزق وتضييقه، ويعلنون فرحهم بأن الله قد منّ عليهم إذ لم يجعلهم مثل قارون في الغنى؛ لأن غناه كان وبالاً عليه، مع أن الذين حسدوه من قبل، كان حسدهم من باب حسد الغبطة، إذ تمنوا أن يكون لهم مثل ما أوتي قارون، ولكن النعمة التي أوتيها قارون لم تكن نعمة مقرونة بما ينفعه في آخرته.

 

والله -عز وجل- عندما قص علينا هذه القصة، بين لنا أن النعمة التي لا تنفع الإنسان في آخرته هي نقمة ووبال على صاحبها، فهي ليست من النعم التي يُحسد الإنسان عليها، قال الله -عز وجل-: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 76- 83].

 

عباد الله: وقد يكون في بعض النفوس أمراً آخر يشتد حسدهم بسببه، فيؤثر على المحسود بأمر الله -عز وجل- وهو ما يسمى بالعين، فيقال: فلان قد أصابته عين.

 

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العين حق".

 

وروى مسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "العين حق، فلو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استُغسلتم فاغسلوا".

 

وثبت أن جبريل -عليه السلام- كان يرقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن يشفيه الله من شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين.

 

وثبت من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: "أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".

 

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله علية وسلم- رأى في بيتها جارية في وجهها سُعفة -أي صفرة- فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة".

 

أيها المسلمون: ولا بد أن نعلم أن الإصابة بالعين سبب من الأسباب الكونية التي لا يمكن أن تقع إلا بإرادة الله -عز وجل-، وأن هذه من الأشياء التي تصيب الإنسان ضمن دائرة القضاء والقدر.

 

عباد الله: ولما لداء الحسد من عواقب اجتماعية سيئة جداً، ولما فيه من تأثير سيء على دين الحاسد وإيمانه، شدد الإسلام في النهي عنه والتحذير منه؛ ثبت في صحيح البخاري أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا".

 

وروى أبو داود عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

 

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا فُتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أو غير ذلك؛ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون"[رواه مسلم].

 

بارك الله لي...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: الحسد: مذموم مرذول، إنه خلق دنيء، يتوجه نحو الأكفّاء والأقارب، ويختص بالمخالط والمصاحب، حتى ربما أفضى بصاحبه إلى التلف، من غير نكاية في عدو، ولا إضرار بمحسود.

 

داء الحسد ينهك الجسد، ويفسد الود، علاجه عَسِر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء.

 

عباد الله: إن للحسد آثاراً سيئة على المجتمع، ولها شرور كثيرة، منها: الغيبة والنميمة والبغي والعدوان والظلم والاتهام بالباطل وافتراء الكذب والجور في الحكم والسرقة والغش وغيرها، وقد يصل إلى القتل.

 

ذُكر في كتب التاريخ: أن الخليفة الناصر الأندلسي قد وشّح ابنه الحُكم، وجعله ولي عهده، وآثره على جميع ولده، ودفع إليه كثيراً من التصرف في دولته، فحسده أخوه عبد الله، فأضمر في نفسه الخروج على أبيه، وتحدّث مع من داخله شيء من أمر الحكم من رجالات أبيه، فأجابه بعضهم، ثم إن الخبر بلغ الخليفة الناصر، فاستكشف أمرهم، وقبض على ابنه عبد الله وعلى جميع من معه، وقتلهم أجمعين سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة.

 

أيها المسلمون: وما من صاحب نعمة إلاّ كان له حاسدون، وكان له من حاسديه ظالمون آثمون، دبروا له المكائد، وافتروا عليه الفرى، ومكروا به أيما مكر.

 

فذو نعمة في عقله وعلمه وعمله كان له حاسدون، ناله من حسدهم بلاء وهمّ، وحزن وغمّ.

 

وذو نعمة في سلطانه ومجده كان له حاسدون، أفسدوا ما بينه وبين أقرانه، أو بينه وبين رعيته بالكذب والبهتان، فناله من حسدهم همّ وغمّ، وحزن وبلاء.

 

وذو نعمة في ماله وتجارته كان له حاسدون، أفسدوا ما بينه وبين زبائنه وشركائه بالكذب والبهتان، فناله من حسدهم بلاء وهمّ، أو حزن وغمّ.

 

وذو نعمة في دعوته إلى الله وجهاده في سبيل الله وإخلاصه ونصحه كان له حاسدون، أفسدوا ما بينه وبين إخوته وأحباءه، وتلامذته وأصحابه، بالكذب والبهتان والظلم والعدوان، فناله من حسدهم بلاء وهمّ، أو حزن وغمّ.

 

وكم من زوجين يظللهما سرادق السعادة والهناء، ويمتعهما نعيم المودة والصفاء، كان لهما حاسدون، أفسدوا ما بينهما بالكذب والبهتان والظلم والعدوان، فنالهما من حسدهم بلاء وهمّ، أو حزن وغمّ، وربما مُنيا بمر الفراق وشر الطلاق.

 

وكم من أصحاب متآخين في الله متصافين متحابين، يجتمعون في الله ويفترقون عليه، وقد ائتلفوا بينهم ائتلاف حبات عقد اللؤلؤ، لا يمر النسيم فيما بينهم إلا بعطر، ولا تطلع الشمس عليهم إلا بزهر، ولا يسبل الليل عليهم ستره إلا بصفاء، ولا يمر الزمن على أحدهم إلا بوفاء، فدخل بينهم حاسدون، أفسدوا ما بينهم بالغيبة والنميمة، كذباً وبهتاناً أو ظلماً وعدواناً، فنالهم من حسد حاسديهم همّ وبلاء، وعداوة وبغضاء، ثم تفرقوا تفرق الأعداء.

 

وكم من والدٍ أفسده مكر الحاسدين على ولده، فبات غاضباً عليه بعد أن كان راضياً عنه.

 

وكم من ولدٍ أفسده الحاسدون على أبيه، فبات عاقاً له بعد أن كان باراً به.

 

وكم من أمين خونه الحاسدون والحاسدات، فأردوه بالخيانة.

 

وكم من صادق رماه الحاسدون بالكذب.

 

وكم من عالم طعنه الحاسدون بالجهل.

 

وكم من عاقل غمزه الحاسدون بالحماقة.

 

وكم من رزين لمزه الحاسدون بالطيش.

 

وكم من عادل شيّع عنه الحاسدون أنه جائر ظالم.

 

وكم من صاحب خلق كريم وصفه الحاسدون بالنفاق.

 

وكم من داع إلى الحق صادق مخلص، وصفه الحاسدون بالرياء.

 

وكم من جميل قبحه الحاسدون وشوهوه.

 

وكم من قوي أضعفه الحاسدون وأوهنوه.

 

وكم من ثري كاده الحاسدون ومكروا به، حتى نزل به الفقر.

 

وكم من نبيّ أوقع به حاسدوه، حتى قتلوه أو أخرجوه من بلده.

 

كل هذا -يا عباد الله- له شواهد وأمثلة كثيرة في أحداث التاريخ، وما يزال التاريخ يسجل منها أحداثاً وأمثلة كثيرة في كل حقبة من الزمن، وفي كل مجتمع من المجتمعات.

 

والتحاسد بين طلبة العلم أمر معلوم مشهور، قال الذهبي -رحمه الله-: "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤف رحيم" انتهى.

 

وهكذا يقطع الحسد وشائج المودات، وصلات القرابات، ويفسد الصداقات، ويولد في الناس العداوات، ويفكك أفراد المجتمعات، ويباعد بين الجماعات.

 

إن مثل الحسد كمثل مقراض يمشي بين الناس، فيقطع الأربطة التي تصل بعضهم ببعض على أساس من الأخوة والمودة، وكمثل معول يهدم في بنيان الجماعات، ويقتلع أسس المودات والصداقات، ويضع مكانها بذور البغضاء والعداوات.

 

هذه لمحة عن آثار الحسد في المجتمع، أما أضراره على قلب الحسود فإنه أشد وأشد، يكفيك أنه اعتراض على أفعال الله -تعالى-، واتهام الله -جل وعلا- في حكمته العالية، والتطاول إلى مقام يجب على المؤمن أن يقف دونه موقف الأدب.

 

فكم يعاني قلب الحسود من الآلام يقض مضجعه، ويجعله مهموماً مغموماً يعاني كمده وحزن فؤاده -نسأل الله السلامة والعافية-.

 

وصدق عندما قال الأول:

 

جامل عدوك ما استطعت فإنه *** بالرفق يطمع في صلاح الفاسدِ

واحذر حسودك ما استطعت فإنه *** إن نمت عنه فليس عنك براقدِ

إن الحسود وإن أراك تودداً *** منه أضرُّ من العدو الحاقدِ

ولربما رضي العدو إذا رأى  *** منك الجميل فصار غير معاندِ

ورضا الحسود زوال نعمتك التي *** أوتيتها من طارف أو تالد

فاصبر على غيظ الحسود فنارُه  *** ترمي حشاه بالعذاب الخالدِ

تصفوا على المحسود نعمةُ ربه *** ويذوب من كمدٍ فؤاد الحاسدِ

 

أيها المسلمون: وختاماً: فمن نوادر ما ذكروا من قصص التحاسد؛ ما ذكره الشّعبي قال: "وجهني عبد الملك إلى ملك الروم، فلما انصرفت دفع إليّ كتاباً مختوماً، فلما قرأه عبد الملك رأيته تغيّر، وقال: يا شعبي، أعلمت ما كتب هذا الكلب؟ قلت: لا، قال: إنه كتب: لم يكن للعرب أن تُملّك إلا من أرسلت به إليّ، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه لم يرك، ولو رآك لكان يعرف فضلك، وأنه حسدك على استخدامك مثلي، فسُرِّي عنه".

 

اللهم...

 

 

 

المرفقات
ثم تتحاسدون.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life