عناصر الخطبة
1/منزلة الخوف من الله -تعالى- 2/من ثمرات الخوف من الله -تعالى- العاجلة 3/من ثمرات الخوف من الله في الآخرةاقتباس
الخوف يقود إلى تكدير السيئات وعدم التلذذ بها, قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ومن ثمرات الخوف: أنه يَقْمَعُ الشَّهَوات، ويُكَدِّرُ اللَّذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسلُ مكروهاً عند مَنْ يشتهيه؛ إذ عَلِمَ أنَّ فيه سُمًّا، فتَحْتَرِقُ الشهواتُ بالخوف...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعد: الخوف من الله -تعالى- سِمَةُ المؤمنين, وآيةُ المُتَّقين, ودَيْدَن العارِفين, وهو طريقٌ للأَمْن في الآخرة, وسببٌ للسعادة في الدَّارين, ودليل على كمالِ الإيمان, وحُسْنِ الإسلام, وصَفاء القلب, وطهارةِ النفس.
لذا كان للخوف من الله -تعالى- ثمراتٌ عاجلةٌ في الدنيا, وآجِلَةٌ في الآخرة؛ فمن ثمراته العاجلة:
أنه يدفع المُسلِمَ إلى الإخلاص: يدل عليه قوله -تعالى-: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)[الإنسان: 9, 10], فلم يعمَلوا هذا العملَ لينالوا الثناءَ والشُّكرَ من الناس؛ وإنما سبب إطعامهم هو خوفُهم من الله -تعالى-, وخوفُهم من اليوم العَبوسِ الشديد الهول.
ومن ثمراته: الخوف يدفع المُسلِمَ للقيام بالأعمال الصالحة, قال -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ)[النور: 36, 37], فهذه الأعمال الصالحة؛ مِنْ ذِكْرِ الله, وإقامةِ الصلاة, وإيتاءِ الزكاة, والتسبيحِ, وغير ذلك؛ إنما كان دافِعُها الخوف من يوم القيامة.
ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ -أي: سَارَ مِنْ أوَّلِ الليل-, وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ, أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ, أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ"(صحيح, رواه الترمذي), فمَنْ خاف من الله -تعالى-؛ اجْتَهَدَ في الأعمال الصالحة, ومَن اجْتَهَد في الأعمال الصالحة؛ بَلَغَ المَنزِلَ, وهو الجنة.
ومن الثمرات: الخوف يقود إلى تكدير السيئات وعدم التلذذ بها, قال ابن قدامة -رحمه الله-: "ومن ثمرات الخوف: أنه يَقْمَعُ الشَّهَوات، ويُكَدِّرُ اللَّذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسلُ مكروهاً عند مَنْ يشتهيه؛ إذ عَلِمَ أنَّ فيه سُمًّا، فتَحْتَرِقُ الشهواتُ بالخوف، وتتأدَّبُ الجوارح، ويَذِلُّ القلبُ ويَسْتَكِين", وليس المقصودُ تكديرَ اللذاتِ المُباحة, وإنما المقصودُ تكديرُ اللذات المُحرَّمة؛ لأنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو سيد الخائفين- استَمْتَعَ بمُباحات الدنيا, وهو القائل: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ"(صحيح, رواه النسائي).
ومنها: ثناءُ اللهِ على العبد بسبب خوفه منه؛ فقد أثنى الله -تعالى- على أنبيائه لِخَوفِهم منه, فقال -سبحانه-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء: 90], وأثنى -سبحانه- على عباده المؤمنين بوصفهم بالخَوف من عذابه؛ فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ)[المعارج: 27, 28].
ومن ثمرات الخوف: التَّمكين في الأرض, قال -سبحانه-: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)[إبراهيم: 13, 14], فمَكَّن اللهُ -تعالى- لعباده المؤمنين؛ بسبب خوفهم منه, ونَصَرَهم على أعدائهم, وأورَثَهم أرضَهم ودِيارَهم.
ومنها: النَّجاةُ مِنْ كُلِّ سُوء, يقول النبيُّ -صلى عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ مُنَجِّيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ"(حسن, رواه البيهقي), فهذه الخشية هي التي تُنجي العبدَ من كُلِّ سُوء, وهذه النجاة عامة تشمل النجاةَ في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: وكما للخوف ثمراتٌ عاجلة في الدنيا؛ فله ثمراتٌ آجلة في الآخرة, فمن ذلك:
الاستظلال بظل العرش يوم القيامة, كما دلَّ عليه حديث السبعة الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه, يوم لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّه, ومنهم: "وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ..., وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا؛ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"(رواه البخاري), فكان خوفُه من الله -تعالى-, وخشيتُه لله -تعالى-؛ سبباً في الاستظلال بظل العرش.
ومنها: الأمان يوم القيامة, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-, عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَالَ: "وَعِزَّتِي؛ لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ, إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا؛ أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا؛ أَخَفْتُهُ يوم القيامة"(حسن صحيح, رواه ابن حبان).
ومنها: النجاة من النار, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ"(صحيح, رواه الترمذي), وقال -صلى الله عليه وسلم-: "عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ, وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"(صحيح, رواه ا لترمذي).
ومنها: نيلُ مغفرةِ الله ورحمتِه, عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه-, عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنَّ رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ -أي: رَزَقَه- اللَّهُ مَالاً؛ فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَيَّ أَبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟, قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ، قَالَ: فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، فَفَعَلُوا، فَجَمَعَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟, قَالَ: مَخَافَتُكَ، فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ"(رواه البخاري ومسلم).
ومنها: نَيلُ رِضا الله -تعالى-, قال اللهُ -تعالى-: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)[البينة: 8], فنالوا رِضا اللهِ -تعالى- بسبب خشيتهم منه -سبحانه-.
ومنها: دخول الجنة: قال -تعالى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)[الرحمن: 46]؛ أي: وللذي خاف ربَّه وقيامَه عليه, له جَنَّتان مِنْ ذهبٍ آنيتهما وحُلِيَّتهما وبُنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاء على تَرْكِ المَنْهِيَّات، والأُخرى على فِعْلِ الطاعات.
ومنها: قرة العين, والنَّعيم الكبير في الجنة, قال الله -تعالى-: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 16, 17]؛ فقوله: (خَوْفًا وَطَمَعًا) أي: جامِعِين بين الوَصْفَين: خوفًا أنْ تُرَدَّ أعمالُهم، وطَمَعًا في قبولها, خوفًا من عذاب الله، وطمعًا في ثوابه, وأما جزاؤهم: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) أي: فلا يعلم أحَدٌ (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ), من الخير الكثير، والنَّعيم الغزير، والفرح والسرور، واللذة والحبور, كما قال -تعالى- - على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ: مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ, وَلاَ أُذُنَ سَمِعَتْ, وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"(رواه البخاري ومسلم).
فكما أخْفَوا العملَ؛ جازاهم من جِنْسِ عملهم، فأخفى أجرَهم؛ ولهذا قال: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
التعليقات