اقتباس
فإذا نظرنا إلى الثلاث التي تمثل قاسماً مشتركاً: "قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" وجدناها تتحدث عن الأسباب الأخلاقية والسلوكية والعملية للانهيار الاقتصادي، فقيل وقال ترمز لإضاعة الوقت، وكثرة السؤال فيما لا...
تأمل هذه الكلمات الثلاث: "إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".. إنّ النظرة العابرة السطحية لترتد إلى ذهن القارئ بتصور مفاده أن هذه الكلمات الثلاث نصائح نبوية متفرقة، ونهي -يفيد الكراهة أو التحريم- لقيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال.
وبغض النظر عن الحكم؛ أهو الكراهة أم التحريم، أم هو الكراهة في بعضها والتحريم في البعض الآخر، أم الكراهة في مستوى من الثلاث والتحريم في مستوى أكبر منها، وإن كنت أميل إلى الكراهة ما لم تتلبس بمحرم، كأن يكون القيل والقال غيبة أو نميمة لا مجرد روايات لقطع الملل وقتل الفراغ، أو تبلغ كثرة السؤال مبلغ الخوض في الدين لا مجرد الجدل الكثير.
وبغض النظر كذلك عما تتضمنه هذه الكلمات من مفردات أخلاقية وأدبية هي في ذاتها من هدي النبوة، ومن تمام الأخلاق التي بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها، وهي مما لا يصح تجاوزه أو تجاهله في سياق التربية الإسلامية الرفيعة المستوى.
أقول: بغض النظر عن هذا وذاك مما هو من صميم الدين، فإنني معنيٌّ في هذا المقال المتواضع الموجز ببيان ما هو أشمل وأوسع وأعمق، وما هو بالغ مبلغ الأصول والكليات، وهو مستفاد من البحث في العلاقة بين هذه الكلمات الثلاث، وبينها وبين ثلاثيات أخرى وردت في سياقات مختلفة، يجمع بينها أن هذه الكلمات الثلاث قاسم مشترك في الروايات أجمع، وهذا مما يؤكد وحدة الموضوع.
وليكن منطلقنا هو إيماننا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوتي جوامع الكلام، وأوتي بلاغة هي من أدوات تمام البلاغ الذي أمر به، وأن من لوازم ذلك ألا يكون في كلامه متفرقات بلا رابط، وهو منطلق رشيد وسديد يفيد في الدراسة الموضوعية للسنة النبوية بغية الخروج بآفاق جديدة من الفهم للوحيين.
ولنبدأ من هنا من رواية الصحيحين التي اقتصرت على هذه الكلمات؛ فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن ورَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قال: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ، أن اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ".
لقد لفت انتباهي بشدة السياق التاريخي الذي وردت فيه هذه الثلاثية؛ فمعاوية -رضي الله عنه- بصدد بناء دولة قوية وحضارة فتية؛ فمن المؤكد أنه كان يريد حديثاً يدعمه في هذا الاتجاه، فأرسل إلى صديقه الذي يعرف طريقة تفكيره "المغيرة بن شعبة"، والمغيرة بدوره اختار له حديثاً، وكأنه يقرأ أفكاره.
ولقد استنفرني هذا الحدس، فقمت بتتبع روايات الحديث، فوجدت عجباً؛ وجدت لهذه الثلاثية روايات متشعبة، كل رواية منها ترتبط بأمور تؤكد أنها في سياق بناء منظومة من الأخلاق والسلوكيات الإسلامية الحضارية، تؤسس لبناء حضارة عظمى؛ فهذه رواية في البخاري ومسلم، ترتبط فيها الثلاث المكروهة بثلاث محرمة ارتباط المقدمات بالنتائج؛ فعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ".
ثم وجدتها في مكان آخر مرتبطة بثلاث أخرى، تمضي معها على التوازي، ولكن كل ثلاثية في مجالها؛ ففي صحيح مسلم ومسند أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثاً، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثاً: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ".
وما كدت أندهش من ارتباط هذين المجالين الكبيرين ببعضهما عن طريق هاتين الثلاثيتين حتى وجدت مجالاً ثالثاً يدخل بقوة على التوازي معهما؛ فقد روى البخاريُّ عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ: أن اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ: "لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" وَكَتَبَ إِلَيْهِ إِنَّهُ "كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ، وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدِ البَنَاتِ، وَمَنْعٍ وَهَاتِ"
وبعد أن توقف معي الاستقراء باللفظ قمت بالاستقراء المعنويّ فانضاف مجال رابع، عن طريق الارتباط بينه وبين إحدى الثلاثيات لكن بالمعنى دون اللفظ؛ روى الإمام أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي هَذِهِ فَحَمَلَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فقه غَيْرُ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فقه إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ".
فهل اتقد في ذهنك وانقدح في صدرك المعنى الكبير لهذه الجملة من الأحاديث؟
لطالما غفلنا عن معطيات إسلامية أصيلة لحضارة إسلامية قادمة لا محالة، معطيات قادرة على صناعة مدنية إسلامية غاية في الرشد، وأرى أنّ هذا أوان الحديث عنها؛ إذ إن ما يجري الآن في بلاد المسلمين من مخاض مؤذنٌ بميلاد جديد وكبير لهذه الأمة، ولقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نتطلع للميلاد الكبير ونحن في غمرة المخاض، عندما ضرب بمعوله الكدية فتطاير منها الشرر المبشر بالانطلاقة الكبرى، وتلألأ حولها الوهج المؤذن بانبلاج الفجر العبقريّ، فقال: الله أكبر فتحت فارس، الله أكبر فتحت الروم.
هذه الجملة المتسقة من الأحاديث تضع بدقة بالغة وبإحاطة عجيبة الأسس الأخلاقية والسلوكية لبناء حضارة إسلامية قوية، هذه الأسس منها أسس القوة الاقتصادية وأسس الرشد السياسي، وأسس القوة العقدية، وأسس المنهجية العلمية.
فإذا نظرنا إلى الثلاث التي تمثل قاسماً مشتركاً: "قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" وجدناها تتحدث عن الأسباب الأخلاقية والسلوكية والعملية للانهيار الاقتصادي، فقيل وقال ترمز لإضاعة الوقت، وكثرة السؤال فيما لا يفيد ترمز لتبديد الطاقة العقلية التي هي أعظم مورد بشري، وإضاعة المال تعني تبديد الموارد المادية؛ فهذه أسباب للفقر وانهيار الاقتصاد على مستوى الفرد والمجتمع والدولة؛ لذلك قرنت في رواية أخرى بالثلاث المحرمة التي تعتبر الأثر المترتب على الفقر، وهي "عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات"، فوأد البنات كان الفقر سبباً فيه بنص القرآن: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ)[الأنعام:١٥١]، وعقوق الأمهات -لا عقوق الوالدين- سببه الفقر أيضاً؛ لأنهن غالباً يعمرن بعد وفاة الأزواج، فيتسبب الفقر في عدم القدرة على الوفاء بحقوقها وحقوق الزوجة والأولاد، فيقع العقوق في كثير من الأحيان.
ويستفاد من هذا أن الحفاظ على الموارد المادية، والموارد البشرية -وعلى رأسها الطاقة الذهنية- والوقت من ضروريات التأسيس لاقتصاد قوي عظيم، والقوة في المجال الاقتصادي لها عامل كبير في النهضة والبناء الحضاري، وربما كان هذا هو السر في تكرار هذه الثلاث لتكون محور في هذه الثلاثيات الرشيدة.
وفي المجال السياسي ثلاثة أسس للرشد السياسي: سيادة الشريعة: "أن تعبدوه لا تشركوا به شيئاً"، والحسبة السياسية أو المعارضة البناءة: "وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم"، والوحدة حول دستور الأمة: "وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا".
وفي المجال العلمي لمحات سريعة تكشف عن بعض ملامح المنهجية العلمية؛ مثل التخصص "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "فحامل الفقه هو الراوي المحدث والآخر هو الفقيه، وقواعد المنهجية العلمية مبثوثة في الكتاب والسنة، أدعو إلى تتبعها واستقصائها وبذل الجهود في استخلاص نظرية كاملة فيها من القرآن والسنة، لكن اللمحة هنا كانت كافية لضم خط رابع إلى المنظومة المبهرة.
ومع هذه المجالات العملية يأتي المجال الداعم الذي يمدّ بالطاقة؛ مجال العقيدة، وليس المقصود بها هنا مسائل العقيدة العلمية، وإنما العقيدة العملية المحركة لمكامن القوة في المسلم: "لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، "اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ".
هذه -إذن- هي الأسس الأخلاقية لبناء حضارتنا التي نبتغيها، والتي نضع اليوم أصولها ودعائمها، وهذه هي سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات