عناصر الخطبة
1/أهمية القلب ودوره في صلاح الدنيا والآخرة 2/أثر النية الصالحة في مضاعفة الأجر 3/اختبار القلوب بالفتن والابتلاءات 4/تثبت الله تعالى للمتقين الصادقين 5/الوصية بالعناية بصلاح القلوب 6/أعظم مصيبة تصيب القلوب القسوة والغفلة 7/علاج أمراض القلوباقتباس
الكيِّسُ مَنْ دان نفسَه وحاسَبَها، وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجز مَنْ أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ، فحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وزِنُوها قبل أن توزنوا، فإنَّه أهون في الحساب غدًا أن تُحاسِبُوا أنفسَكم اليومَ، وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ على الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي آوى مَنْ إليه أوى، وأعدَّ لمن قصَدَه جناتِ المأوى، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، على العرش استوى، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه ما ضل وما غوى، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النَّجْمِ: 3-4]، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وأمَر بالتقوى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ونهى النفس عن الهوى.
أما بعدُ: فإن خير الحديث كلام الله المنزَّل، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله المفضل، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: أوصيكم بتقوى الله -جل وعلا-، فلا سعادة إلا بالتقوى، ولا فَلَاح إلا بطاعة المولى، ثم اعلموا أن طاعة الله خير مَغنَم ومَكسَب، ورضاه خير ربح ومطلب، والجنة حُفَّت بالمكاره، وحُفَّت النارُ بالشهوات، (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)[آلِ عِمْرَانَ: 185].
أيها الناسُ: القلبُ وعاءُ الخير والشر في الإنسان، وهو مصدر الكفر والإيمان، وهو سيد الجوارح المسؤول عن توجيهها، وآلة العقل التي يتم الإدراك بها، بصلاحه تصلح الأجساد والأبدان، وبفساده تفسد الجوارح والأركان، فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ"(مُتَّفَق عليه).
عبادَ اللهِ: القلوب مكمَن الإرادة والاختيار، وهي مناط التكليف والاختبار، وعليها مدار قَبول الأعمال والحساب، ومضاعَفة الثواب والعقاب، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما الأعمال بالنيات، وإنَّما لكل امرئ ما نوى"(مُتَّفَق عليه)؛ فالنية وسيلة لمضاعَفة الأجر، وقد أثاب الله على النيَّة في الخير ولم يؤاخذ بها في الشر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً"(رواه مسلم).
والنية شرط في قَبول الأعمال، وشرطٌ في المؤاخَذة عليها، قال تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 5].
أيها الناسُ: القلوبُ سريعةُ التقلب والتبدل، كثيرة التغير والتحول، فعن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: "لا أقول في رجل خيرًا ولا شرًّا حتى أنظر ما يُختَم له، بعد شيء سمعتُه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، قيل: وما سمعتَ؟ قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لَقَلْبُ ابنِ آدمَ أشدُّ انقلابًا من القِدْر إذا اجتمَعَتْ غليًا"(رواه أحمد).
فَمَا سُمِّيَ الإنسانُ إلَّا لِنَسْيِهِ *** وَلَا القلبُ إِلَّا أنَّه يتقلَّبُ
عبادَ اللهِ: ويمتحن اللهُ القلوبَ عند الفتن والمحن والابتلاءات، فمن كان فيما بينه وبين الله في داخل نيته التي لا يطلع عليها إلا الله، صادقًا مع الله، ثبَّته وأسعده في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)[إِبْرَاهِيمَ: 27].
فيا مُصرِّفَ القلوب صرِّف قلوبَنا إلى الطاعات، ويا مقلبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا إلى الممات.
والقلوب -عبادَ اللهِ- بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، فعن شهر بن حوشب قال: "قلتُ لأمِّ سلمةَ -رضي الله عنها-: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان عندَكِ؟ قالت: كان أكثرُ دعائه: يا مقلبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دِينِكَ، قالت: فقلتُ: يا رسول الله، ما لِأَكْثَرِ دعائِكَ: يا مقلبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دِينِكَ؟ قال: يا أمَّ سلمةَ، إنَّه ليس آدميٌّ إلَّا وقلبُه بين أصبعين من أصابع الله، فمَنْ شاء أقام، ومَنْ شاء أزاغ"(رواه الترمذي).
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].
أيها الناسُ: إن القلوب بحاجة إلى الرعاية والمراقَبة، والتهذيب والتزكية والمتابَعة، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لِحُصينِ بنِ المنذرِ: "قل: اللهم أَلْهِمْنِي رُشدي، وَقِنِي شرَّ نَفْسِي"، وقال في خطبة الحاجة: "ونعوذ بالله من شرور أنفسنا"، فاحرِصوا على إصلاح القلوب وتزكية النفوس، فمَنْ أصلَح باطنَه أصلَح اللهُ ظاهرَه، ومَنْ أصلَح سريرتَه أصلَح اللهُ علانيتَه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"(رواه مسلم).
فانظروا -رحمكم الله- إلى ظواهركم فأصلِحُوها، وإلى بواطِنِكم فطهِّرُوها، واصدقوا مع الله يصدقكم الله، وتفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفِروه، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الإنسان وكرَّمَه، ومنَحَه العقلَ فشرَّفَه وفضَّلَه، ووهَبَه الإدراكَ فكلَّفَه وعلَّمَه، فسبحان مَنْ سوَّاه وعدَّلَه، وتبارَك اللهُ أحسنُ الخالقينَ.
أيها الناسُ: أعظمُ مصيبة تُميت القلوب، وتحجب عنها كل خير ومرغوب، وتمنعها من كل مطلوب القسوة والغفلة، فبسببها يُطبَع على القلب بالران، ويُحجَب عن الخير والإيمان، فيميل إلى الفسق والعصيان، قال تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 7]، وقال: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الْحَدِيدِ: 16].
عبادَ اللهِ: إنَّ القلوب لَتمرض وتموت، وتَصلُب فتقسو قسوةً، فتصير مثلَ القلوب الصمّ أو أشدَّ قسوةً، قال تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)[الْبَقَرَةِ: 74]، وإذا جفَّت القلوبُ وَقَسَتْ فإنَّ طريق التأثير والموعظة إليها مسدود، ولن تستجيب للعلاج، ولن تَقبَل الهَدْيَ، ولن تُذعِن للحق، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 23]، فأحيوا القلوب بذكر الله عباد الله، واحذروا من الغفلة والقسوة واتقوا محارم الله.
أيها الناسُ: ولَمَّا اختار اللهُ مضغةَ القلب من بين أجزاء البدن، وجعلها محل الإيمان، ومنبع الخير والشر في الإنسان، جعَل سلامةَ القلوب شعارًا للنجاة يوم القيامة فقال: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، وقال: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الصَّافَّاتِ: 83-84].
وبعدُ عبادَ اللهِ: فالكيِّس مَنْ دان نفسَه وحاسَبَها، وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجز مَنْ أتبَع نفسَه هواها، وتمنَّى على الله الأمانيَّ، فحاسِبُوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبُوا، وزِنُوها قبل أن توزنوا، فإنَّه أهون في الحساب غدًا أن تُحاسِبُوا أنفسَكم اليومَ، وتزيَّنوا للعَرضِ الأكبرِ على الله؛ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)[الْحَاقَّةِ: 18].
اللهم حبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قلوبنا، وكَرِّهْ إلينا الكفرَ والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم يا مقلبَ القلوب ثبِّت قلوبَنا على دِينِكَ، اللهم يا مصرفَ القلوبِ صرِّف قلوبَنا على طاعتكَ؛ (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8].
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم انصُرْ دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وَقِنَا عذابَ النار، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ بتوفيقِكَ، وأيِّده بتأييدِكَ، اللهم وألبسه ثوب الصحة والعافية، يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهدِه لما تحبُّ وترضى، يا سميعَ الدعاءِ، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا، وسائرَ بلاد المسلمين، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهم احفظ حدودَنا، وانصر جنودَنا المرابطينَ، يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعينَ.
التعليقات