عناصر الخطبة
1/شمولية تميُّز أمة محمد في الدنيا والآخرة 2/من مظاهر تميز المؤمنين في الآخرة 3/التحذير من أن يحرم المرء هذا التميز 4/بركة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته.اقتباس
أَرَأَيْتُمْ -يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ- أَنَّ الْأُمَمَ كُلَّهَا تَكُونُ لَكُمْ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْتُمُ الْقَادَةُ، وَلَكُمُ الرِّيَادَةُ، وَأَنْتُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُ الْأُمَمِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً، نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا"...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ فَضَّلَ اللَّهُ -تَعَالَى- أُمَّةَ الْإِسْلَامِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ بِخَصَائِصَ وَمُمَيِّزَاتٍ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِتَتَمَيَّزَ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ شُؤُونِهَا وَأَحْوَالِهَا، وَهَذَا التَّمَيُّزُ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ بَلْ يَسْتَمِرُّ التَّمَيُّزُ وَالتَّكْرِيمُ لَهَا حَتَّى فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَنَبِيُّهَا يَتَمَيَّزُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ بِمَا لَمْ يُعْطَ سِوَاهُ مِنَ الْفَضْلِ، وَأُمَّتُهُ تَتَمَيَّزُ عَنِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى بِمَا خُصَّتْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ التَّفْضِيلِ.
وَإِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ تَمَيُّزِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ: أَنَّهُ يُضَاعَفُ لَهَا الْأَجْرُ أَكْثَرَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، فَتَعْمَلُ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ، وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ الْكَبِيرَ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رِضَى اللَّهِ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؛ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ عَمِلَتِ النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغَارِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ؛ فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟، قَالُوا: لَا؛ فَقَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِى أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ"؛ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: "وَفِي الْحَدِيثِ تَفْضِيلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَوْفِيرُ أَجْرِهَا مَعَ قِلَّةِ عَمَلِهَا"(فَتْحُ الْبَارِي).
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَمَيُّزِهَا فِي الْآخِرَةِ: أَنَّهَا أُمَّةُ السَّبْقِ؛ تَسْبِقُ غَيْرَهَا مِنَ الْأُمَمِ فِي الْآخِرَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ كُلُّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ "قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ الْآخِرُونَ فِي الزَّمَانِ وَالْوُجُودِ، السَّابِقُونَ بِالْفَضْلِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ"(شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ).
وَمِنْ مَظَاهِرِ تَمَيُّزِهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْأُمَمِ: أَنَّهَا أُمَّةُ شَهَادَةٍ، فَالْكُفَّارُ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ سَيُنْكِرُونَ تَبْلِيغَ أَنْبِيَائِهِمْ دَعْوَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُمْ، فَيُقَدِّمُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لِيَشْهَدُوا لِلْأَنْبِيَاءِ تَبْلِيغَهُمْ دَعْوَةَ اللَّهِ -تَعَالَى-، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُجَاءُ بِنُوحٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟، فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ!، فَتُسْأَلُ أُمَّتُهُ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟، فَيَقُولُونَ: مَا جَاءَنَا مِنْ نَذِيرٍ، فَيُقَالُ: مَنْ شُهُودُكَ؟، فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَيُجَاءُ بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)[الْبَقَرَةِ: 143]"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
السَّبْقُ فِي الشَّفَاعَةِ؛ بِأَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ -تَعَالَى- شَفَاعَةَ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ -الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْعُظْمَى؛ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَأُمَّتُهُ أَوَّلُ مَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمْ، فَحِينَ يَعْتَذِرُ الْأَنْبِيَاءُ عَنِ الشَّفَاعَةِ لِلْخَلْقِ، يَتَقَدَّمُ لَهَا نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَسْجُدُ أَمَامَ الْعَرْشِ، وَيَدْعُو اللَّهَ -تَعَالَى- بِمَا يُلْهِمُهُ مِنَ الْمَحَامِدِ الْعَظِيمَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى- لَهُ: "يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي".
ثُمَّ تَكُونُ أُمَّتُهُ أَوَّلَ مُشَفَّعٍ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "نَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ، يُقَالُ: أَيْنَ الْأُمَّةُ الْأُمِّيَّةُ وَنَبِيُّهَا؟، فَنَحْنُ الْآخِرُونَ الْأَوَّلُونَ"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَعِنْدَ (أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ): "فَنَحْنُ آخِرُ الْأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبُ؛ فَتُفْرِجُ لَنَا الْأُمَمُ عَنْ طَرِيقِنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الطُّهُورِ، وَتَقُولُ الْأُمَمُ: كَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا"، فَيَا لَعَظَمَةِ هَذَا التَّمَيُّزِ الْمُحَمَّدِيِّ الَّذِي سَيَكُونُ أَمَامَ جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَتَشْهَدُ عَلَيْهِ الْأُمَمُ جَمِيعًا، وَتَغْبِطُهُمْ عَلَيْهِ!.
وَمِنْ تَمَيُّزِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ: أَنَّهَا أَوَّلُ الْأُمَمِ مُرُورًا عَلَى الصِّرَاطِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَنَّهُ قَالَ: "وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ؛ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يُجِيزُهَا"؛ أَيْ: "أَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ مَنْ يَمْضِي عَلَى الصِّرَاطِ وَيَقْطَعُهُ"(فَتْحُ الْبَارِي لِابْنِ حَجَرٍ).
وَمِنْ تَمَيُّزِهَا: أَنَّهَا أَوَّلُ أُمَّةٍ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)، وَأَنَّ أَوَّلَ أُمَّتِهِ دُخُولًا الْجَنَّةَ هُمْ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَعْلَمُ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي؟"، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ"(رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ).
وَحَتَّى فِي دُخُولِهَا إِلَى الْجَنَّاتِ تَتَمَيَّزُ؛ فَإِنَّهَا أَكْثَرُ الْأُمَمِ دُخُولًا الْجَنَّةَ؛ بَلْ إِنَّ ثُلْثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ هُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لِقَوْلِهِ -صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ-: "أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ؛ ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ)، فَضْلٌ عَظِيمٌ، وَكَرَامَةٌ كُبْرَى مِنَ اللَّهِ -سُبْحَانَهُ- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَهُ الْحَمْدُ أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَاحْمَدُوا اللَّهَ كَثِيرًا عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَاسْأَلُوهُ الثَّبَاتَ حَتَّى الْمَمَاتِ.
وَمِنْ تَمَيُّزِهَا: أَنَّ مِنْهُمْ جَمْعًا كَبِيرًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَا سَابِقَةِ عَذَابٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ، مُتَمَاسِكِينَ، آخِذٌ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَعِنْدَ أَحْمَدَ: "أُعْطِيتُ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَقُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَاسْتَزَدْتُ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَزَادَنِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعِينَ أَلْفًا"؛ وَلَفْظُ "أُعْطِيتُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ "هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ"(فَيْضُ الْقَدِيرِ لِلْمُنَاوِيِّ).
وَيَتَوَاصَلُ كَرَمُ اللَّهِ -تَعَالَى- لِأُمَّةِ حَبِيبِهِ مُحَمَّدٍ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ فَيَزِيدُ فِي الْعَطَاءِ مِنْ وَاسِعِ جُودِهِ، وَهُوَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْجَوَادُ الْكَرِيمُ أَهْلٌ لِلْعَطَاءِ وَالْجُودِ؛ فَفِي (سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ): فِي حَدِيثِ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ "بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي -عَزَّ وَجَلَّ-"؛ وَالْحَثَيَاتُ: جَمْعُ حَثْيَةٍ؛ وَهِيَ الْغَرْفَةُ، وَهُوَ مَا يُعْطِيهِ الْإِنْسَانُ بِكَفَّيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ وَلَا تَقْدِيرٍ، إِنَّهَا -وَاللَّهِ- عَطَايَا عَظِيمَةٌ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ وَلَا عَدٌّ، مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ -تَعَالَى- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ!.
أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَبَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَيَسْتَمِرُّ التَّمَيُّزُ لِلْأُمَّةِ الْمُتَمَيَّزِةِ، فَيَكُونُ مِنْ مَظَاهِرِ تَمَيُّزِهَا عَلَامَةٌ خَاصَّةٌ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ؛ فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتِي الْحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ؛ كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ"، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! أَتَعْرِفُنَا؟، قَالَ: "نَعَمْ لَكُمْ سِيمَا - أَيْ: عَلَامَةٌ- لَيْسَتْ لِأَحَدٍ غَيْرِكُمْ؛ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ)؛ وَالْغُرُّ: جَمْعُ أَغَرَّ؛ وَهُوَ أَبْيَضُ الْوَجْهِ، وَالْمُحَجَّلُ: أَبْيَضُ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنَ الْيَدَيْنِ.
أَرَأَيْتُمْ -يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ- أَنَّ الْأُمَمَ كُلَّهَا تَكُونُ لَكُمْ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَنْتُمُ الْقَادَةُ، وَلَكُمُ الرِّيَادَةُ، وَأَنْتُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُ الْأُمَمِ فِي الْآخِرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "نُكْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعِينَ أُمَّةً، نَحْنُ آخِرُهَا وَخَيْرُهَا"(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ)، وَفِي رِوَايَةٍ: "إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).
فَيَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ: كَيْفَ يَلِيقُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِفِئَامٍ مِنْ أُمَّةِ التَّمَيُّزِ الْمُحَمَّدِيِّ أَنْ يَرْفُضُوا هَذَا التَّكْرِيمَ وَيَنْكِصُوا عَنْهُ؛ وَيَكُونُوا تَابِعِينَ لِأُمَمِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؛ مُنْبَهِرِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ، وَالْحُطَامِ الْمَادِّيِّ؟!.
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِمَّنْ يُعْرِضُ عَنْ هَذَا التَّمَيُّزِ وَيَحِيدُ عَنْهُ، وَيَنْسَاقُ مُنْبَهِرًا إِلَى قِيَمِ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ وَمَا لَدَيْهَا مِنَ الْمَادِّيَّاتِ؛ حَتَّى لَا يُحْرَمَ خَصَائِصَ هَذَا التَّمَيُّزِ، فَكَمَا ابْتَعَدَ عَنْ أُمَّةِ التَّمَيُّزِ فِي الدُّنْيَا؛ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يُبْعَدَ عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ، إِذْ يَرِدُ عَلَى نَبِيِّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَى حَوْضِهِ، فَيُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَيُطْرَدُونَ مِنْ دُونِ بَاقِي الْأُمَّةِ؛ يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟، وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، إِنَّهُمْ مَا اتَّبَعُوا هَدْيَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي الدُّنْيَا؛ فَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي الْآخِرَةِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ هَذَا الْحَالِ!.
أَيُّهَا الْمُوَحِّدُونَ: "إِنَّمَا حَازَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَصَبَ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ بِنَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ خَلْقِ اللَّهِ، أَكْرَمُ الرُّسُلِ عَلَى اللَّهِ، وَبَعَثَهُ اللَّهُ بِشَرْعٍ كَامِلٍ عَظِيمٍ، لَمْ يُعْطَهُ نَبِيٌّ قَبْلَهُ، وَلَا رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ، فَالْعَمَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِ وَسَبِيلِهِ، يَقُومُ الْقَلِيلُ مِنْهُ مَا لَا يَقُومُ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ مِنْ أَعْمَالِ غَيْرِهِمْ مَقَامَهُ"(تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ)؛ فَاعْرِفُوا لِنَبِيِّكُمْ قَدْرَهُ، وَلَا تَبْرَحُوا سُنَّتَهُ وَهَدْيَهُ.
ثُمَّ أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ فَاللَّهُ -تَعَالَى- أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
التعليقات