اقتباس
هي إشكالية تحتاج حلًا، مفادها: أن الخطيب في أمَسّ الحاجة إلى التكرار؛ لما له من فوائد جمة، ولأن ضرورات كثيرة تحتِّمه وتقتضيه، لكن التكرار ـ في نفس الوقت ـ له عيب خطير؛ وهو أنه يبعث على الملل والضجر، وإن السامع لينصرف عن الخطيب انصرافًا جزئيًا أو كليًا بمجرد شعوره أن الخطيب يكرر! فما الحل لتلك الإشكالية؟!
أظنك قد حسبت أننا أخطأنا عند وضع هذا العنوان؛ «تكرار المعاني دون تكرارها»، ولكن هل يدهشك أننا قد تعمدنا وضع هذا العنوان بهذه الصورة، وأنه ليس هناك من خطأ؟
نعم، فإنما نقصد: طرق المعاني الواحدة بأساليب مختلفة متغايرة متنوعة، بحيث لا يشعر السامع والمتلقي أن هناك تكرارًا أصلًا، فنكون قد كررنا دون أن نكرر، وقبل طرح أركان تلك الاستراتيجية، لا بد من الإجابة على سؤالين مهمين:
السؤال الأول: ولماذا نحتاج التكرار أصلًا؟
والجواب: أن التكرار من الضرورات التي لا يستغنى عنها بحال من الأحوال؛ وذلك للأسباب التالية:
(1) التكرار طريقة حتمية ضرورية للتعليم والتعلم والحفظ والاستظهار: قال رجل لأبي مسعود الرازي: إنا ننسى الحديث! فقال: «أيكم يرجع فِي حفظ حديث واحد خمس مئة مرة؟» قالوا: ومن يقوى على هذا، قال: «لذاك لا تحفظون»([1])، والمطالع لسير الحفاظ والعلماء يقف على أعجب من ذلك.
كذا فحامل القرآن إن لم يكرره نساه، «استذكروا القرآن؛ فلهو أشد تفصيًا من صدور الرجال من النعم بعقلها»([2])، وقس على ذلك كل علم؛ إن لم يكرره صاحبه نساه وتفلت منه.
(2) أنه وسيلة مهمة من وسائل تقرير المبادئ، يقول السيوطي أثناء حديثه عن أنواع الإطناب: «النوع الرابع: التكرير، وهو أبلغ من التأكيد وهو من محاسن الفصاحة ـ خلافًا لبعض من غلط ـ وله فوائد: منها التقرير، وقد قيل: «الكلام إذا تكرر تقرر»، وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله: (وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) [طه: 113]»([3])، قال الخازن في معنى: «وَصَرَّفْنَا»: «أي: كررنا وفصلنا القول فيه»([4])، ثم واصل السيوطي كلامًا طويلًا معدِّدًا فوائد التكرار.
(3) أن العقول والأفهام متفاوتة: فمن الناس من لا يعي مقصد الخطيب من أول مرة، بل لم يكن كل الصحابة يفهمون عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كل ما يقول، لذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي»([5])، «يعني: أنا مبلِّغ للوحي السماوي إلى جميعهم من غير فرق, لكن الله سبحانه يعطي الفهم من يشاء»([6])، لذا يحتاج من لم يفهم من أول مرة أن نكرر له مرة بعد أخرى.
(4) أن طبع الإنسان الغفلة والنسيان: فإن وعى كل الناس وفهموا ما يقصده الخطيب، فلن يستجيب الجميع لأول نداء وطلب، وإن استجابوا فكثيرًا ما ينسون ويغفلون فيحتاجون من يذكِّرهم، وإن ذكروا فمنهم من يتوانى أو يكسل فيحتاج من يعينه ويحضه ويدفعه، ولذا قال الله ـ تعالى ـ: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات: 55].
فنخلص من هذا كله إلى أن التكرار ضرورة حتمية لا يستغني عنها أحد، وأنه من ضروب الفصاحة والبلاغة.
السؤال الثاني: إذا كان للتكرار كل هذه المميزات، فلماذا نحتاج استراتيجية تدريبة على إخفائه وعدم إبدائه؟!
والجواب: ذلك أن للتكرار ـ رغم كثير مميزاته ـ عيبًا خطيرًا، وهو: أنه يبعث الملل والضجر في نفس السامع، بحيث ينصرف ذهنه ويتشتت انتباهه ويفكر في الانصراف بمجرد بدء الخطيب لحديثه المكرر بعينه، وإن كانت خطبة جمعة جلس مضطرًا متبرمًا ينتظر انتهاءها بضيق صدر.
لذلك نلجأ إلى هذي الاستراتيجية لتجنب هذا العيب الخطير؛ فنكرر الأمر المهم لتأكيده وتقريره وضمان استيعابه، ونكرر الشيء الخطير كذلك للتنفير والتحذير منه ولضمان بغض الناس له... لكننا نكرر بأساليب متعددة متنوعة مختلفة بحيث لا يشعر أغلب السامعين بأن الخطيب يكرر، ومن أحسَّ بذلك منهم انتفى عنه الملل بفضل الأسلوب الجديد والطرح المختلف للموضوع.
والآن، دعونا نطرح أساليب وطرُق تلك الاستراتيجية.
***
تختلف أساليب استراتيجية «تكرار المعاني دون تكرارها» تبعًا لاختلاف طبيعة الموضوع المطروح؛ وذلك أن الخطيب إما أن يتحدث عن فضيلة يريد تعميمها، وإما عن رذيلة يريد استئصالها، وإما عن قضية أو حادثة يريد بيان وجه الحق فيها، ولا يخرج غرض الخطيب ـ في الغالب ـ عن ذلك.
ولكل من هذه الأغراض الثلاثة استراتيجية خاصة، وسوف يقتصر حديثنا في هذا المقال على الغرض الأول منها:
استراتيجية تكرار الفضائل دون تكرارها:
وسنتخذ ـ إن شاء الله ـ من فضيلة «صلة الرحم» نموذجًا توضيحيًا، نستقرأ من خلاله كيف طبق قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- مبدأ: «تكرار الفضائل دون تكرارها»، وأساليب ذلك كثيرة، منها:
الأسلوب الأول: الأمر المجرد:
وهذا هو أسلوب الحض والحث البديهي الأولي؛ أن يأمر الخطيبُ الناسَ أمرًا مباشرًا، فيقول ـ في مثالنا ـ: «صلوا أرحامكم» أو «عليكم بصلة الرحم» أو ما يشابه ذلك.
ومثاله: حديث ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنكم مفتوح عليكم ومنصورون، فمن أدرك منكم فليتق الله، وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر، وليصل رحمه»([7])، ومثله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتقوا الله وصلوا أرحامكم»([8])؛ فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفضيلة أمرًا مباشرًا مجردًا ولم يستخدم أيًا من وسائل الترغيب أو الترهيب أو الاستفهام، أو غيرها.
الأسلوب الثاني: الترغيب المباشر:
وينقسم إلى قسمين:
(أ) ترغيب دنيوي: وهو أسلوب نبوي متبع، ومثاله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه»([9])، وكذا قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «صلة الرحم محبة في الأهل»([10]).
(ب) ترغيب أخروي: فلما سأل رجل فقال: «أخبرني بما يقربني من الجنة، وما يباعدني من النار» أجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»([11]).
ومثله قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»([12]).
الأسلوب الثالث: الترغيب غير المباشر:
ويكون ذلك بالإشارة والإشعار أن صلة الرحم من الفضائل، دون التصريح بعبارة: «صلة الرحم» ولا مشتقاتها، ونمثِّل لذلك بحديث ابن عمر أن رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي توبة؟ قال: «هل لك من أم؟» قال: لا، قال: «هل لك من خالة؟» قال: نعم، قال: «فبرها»([13]).
فمثل هذا الأسلوب النبوي مُشعِر بفضل صلة الرحم وأنها من مكفرات الذنوب، وذلك دون أدنى تصريح، وهذا أسلوب ناجح موفق يناسب أغلب الناس في عصرنا.
ونَعُدُّ من هذا الأسلوب أيضًا أن يُصرَّح باسم الفضيلة، دون أن يخصَّها بـِحـَضٍّ ولا بترغيب، بل تُوضع في سياق يُشعِر بفضلها؛ كوضعها بين فضيلتين عظيمتين، وها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك فيقول: «إنما الدنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل»([14])؛ فجاءت الصلة بين التقوى وبين العلم بحق الله في المال، ثم أُثني على فاعل الثلاثة مجتمعة بأنه في «أفضل المنازل».
الأسلوب الرابع: تعظيم شأن الفضيلة:
فدون أن يقول الخطيب: «اصنعوا» أو «افعلوا»، فكفى أن يُعظِّم شأن الفضيلة ـ التي يريد تقريرها ـ وهذا أيضًا ما صنعه قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم- حين قال: «إن الرحم شجنة من الرحمن([15])، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته»([16]).
فاشتقاق الله ـ تعالى ـ اسم «الرحم» من اسمه: «الرحمن»، إشعار قوي بتعظيم شأنها، وكذلك كونه ـ تعالى ـ يصل من وصلها ويقطع من قطعها.
ومن تعظيم شأن الفضيلة جعلُها من علامات الإيمان: كقوله ـ صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه»([17]).
ومنه أيضًا: بيان أنها من أصول الدين والرسالة المحمدية: فلما سأل عمروُ بن عبسة السلمي النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وبأي شيء أرسلك؟» أجابه: «أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان»([18]).
وطُرُق تعظيم شأن الفضائل عديدة؛ فقد يكون تعظيم الشأن بذكر الخصائص والمميزات، كما في النماذج السابقة، وقد يكون بالتصوير اللغوي كأن يقول الخطيب: «صلة الرحم! وما أدراك ما صلة الرحم! وهل أروع منها! وهل أدل على رضا الله عن العبد من أن يوفقه إلى صلة رحمه! فما أعظم شأنها! وما أغزر بركاتها...».
الأسلوب الخامس: استغلال سؤال أو واقعة:
وهذا الأسلوب من أبرع وأروع ما يصنع الخطيب، ولا يُوفق إليه إلا الخطيب الذكي المسدد، فكثيرًا ما تُوجه للخطيب الأسئلة وتقابله الحوادث والوقائع، وما عليه إلا أن يستثمر ـ بذكاء ـ تلك الفرص السانحة التي سعت إليه سعيًا؛ فيؤكد في حكمة على تلك الفضيلة التي حمل على عاتقه تقريرها، حتى تستقر في ذهن وقلب السائل أو صاحب الواقعة.
وما جئنا بهذا إلا من استقراء أساليب الخطيب الأعظم -صلى الله عليه وسلم- فعن قتادة أن رجلًا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «إيمان بالله» قال: يا رسول الله، ثم مه؟ قال: «ثم صلة الرحم».
قال: يا رسول الله، أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: «الإشراك بالله» قال: يا رسول الله، ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم»([19]).
فقد استغل -صلى الله عليه وسلم- السؤالين في تقرير فضيلة الصلة، ثم في التحذير من ضدها.
وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستغل كل واقعة، مستخدمًا فيها نفس هذا الأسلوب الذكي، من ذلك ما روته ميمونة بنت الحارث أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: «أوفعلت؟!» قالت: نعم، قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»([20]).
ولنا أن نتصور كم كان ندم ميمونة أنها لم تصل بتلك الوليدة رحمها، وأنها ضيَّعت الأجر الأعظم، وكيف أنها قد وعت الدرس فيما استقبلته من أعمالها.
الأسلوب السادس: الترهيب من ضدها:
ولن نتوسع في هذا الأسلوب هنا؛ فسيأتي ـ إن شاء الله ـ موضعه، وكفى أن نعلم أن من أساليب تقرير الفضائل ـ دون تكرير الأمر بها ـ: التحذير من ضدها، وهو على قسمين:
الأول: الترهيب الدنيوي: كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرحم»([21]).
ومنه كذلك: إخباره -صلى الله عليه وسلم- أن قطع الرحم من علامات الساعة، حين قال: «لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش، وقطيعة الرحم»([22]).
الثاني: الترهيب الأخروي: وقد استخدم سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- هذا الأسلوب قائلًا: «لا يدخل الجنة قاطع» قال سفيان ـ أحد الرواة ـ: يعني قاطع رحم([23]).
وكلًا من القسمين قد يكون مباشرًا كالأمثلة السابقة، وقد يكون غير مباشر كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟»([24])؛ فقرن بين الإثم وقطع الرحم، فهذا ترهيب غير مباشر دنيوي.
ومن الترهيب غير المباشر الأخروي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإياكم والشح، فإنما أهلك من كان قبلكم الشح، أمرهم بالقطيعة، فقطعوا أرحامهم»([25]).
الأسلوب السابع: سرد قصة:
والقصة أسلوب ناجع غير مباشر للحث على الفضائل، وها هو سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- يحض على بر الوالدين ـ رأس صلة الرحم ـ من خلال سرد قصة جريج العابد الذي فضَّل صلاة التطوع على تلبية نداء أمه؛ «فقال: أي رب أمي وصلاتي؟! فأقبل على صلاته»([26])، وكيف ابتلاه الله ـ عز وجل ـ فأجاب دعوة أمه عليه؛ عقوبة له، والقصة بتمامها في الصحيحين.
وكذا فقصة أبي بكر الصديق الذي قطع صلته بمسطح بن أثاثة قريبه؛ لخوضه في عرض ابنته أم المؤمنين الطاهرة العفيفة، فنزل قوله ـ تعالى ـ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى) [النور: 22]، مشهورة معروفة.
وما أكثر القصص التي يمكن للخطيب أن يستخدمها لتقرير الفضائل، وهي كثيرة منثورة في كتب التراث، ومما جمع الكثير منها كتاب: «صلاح الأمة في علو الهمة» للعفاني، وغيره.
كما أن للخطيب أن يستشهد بقصص واقعية معاصرة عايشها أو نقلها إليه ثقات، وربما كان ذلك ـ في بعض الأحوال ـ أوقع وأحسن.
الأسلوب الثامن: التكليف بما يخدمها:
وهذا أسلوب حصيف غير مباشر للحث على الفضائل؛ أن يكلف الخطيب سامعيه بما يخدم ويمهد للفضيلة التي يريد تقريرها، مثال ذلك تكليفه -صلى الله عليه وسلم- بتعلم الإنسان نسبه ليتمكن من صلة رحمه، حين قال: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم»([27]).
فإذا وضعنا في الحسبان أن تعلُّم الأنساب ليس مطلوبًا في ذاته؛ فقد نُهينا عن التفاخر أو الاعتداد بها، وأدركنا أن فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- لن ينفعها نسبها، فيتضح أن الغرض الرئيسي هو: صلة الأرحام، فما كلَّف -صلى الله عليه وسلم- بتعلم الأنساب إلا للتمكن من صلة الرحم.
ومن ذلك، أن يكلف الخطيب أشباله بحفظ الفاتحة ـ مثلًا ـ ليتمكنوا من تعلم الصلاة بعد ذلك، وأن يحثَّ الجميع على تعلم قواعد اللغة العربية؛ ليستقيم لسانهم عند قراءة القرآن...
الأسلوب التاسع: الوصية وأخذ العهد والميثاق:
قد يُلبس الخطيب الحث على الفضيلة ثوب الوصية، وللوصية شأن في القلوب وذكر في العقول، وها هو سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- يوصي أبا ذر وصية وعاها فما نساها، يقول أبو ذر: «أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- أن أصل رحمي وإن أدبرت»([28]).
ويكون تأثير هذا الأسلوب بمقدار مكانة الخطيب في القلوب؛ فكلما كانت للخطيب عند سامعيه محبة ومهابة كلما كان لوصيته إياهم احترامًا وكرامة.
الأسلوب العاشر: تحقير ما يصد عن الفضيلة:
فأكثر ما يصد عن صلة الرحم هو الشح بالمال، وقد نقلنا تحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- من الشح منذ قليل، أما في هذا الأسلوب فيحقِّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويهوِّن من شأن المال نفسه، الذي هو سبب الشح وسبب قطع الرحم كليهما، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا»([29]).
فإذا هان وحقُر شأن الشيء ـ الذي يصد عن الفضيلة ـ لم يترك المسلم من أجله تلك الفضيلة.
***
أخي الخطيب: إنك لن تعدم كل هذه الأساليب وأكثر منها في كل فضيلة حث عليها الإسلام، فخاير بينها واستخدمها كلها أو بعضها إذا ما أردت تكرارًا، ولا تُعِدْ نفسك بتكرار نفس العبارات ونفس الأسلوب ونفس الألفاظ، فيمل منك السامعون.
ولقد رأيتَ كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد كرَّر دون أن يكرر؛ فنوَّع الأساليب والطرق، واستغل الحوادث والأسئلة والقضايا، ورغَّب ورهَّب، وعظَّم وحقَّر، وحبَّب وبغَّض، واستخدم الوسائل الدنيوية والأخروية...
وإنك لتقف في كل فضيلة على عشرات أو مئات النصوص النبوية الداعية إليها والمقررة لها، ولا تكاد ـ إذا تجاوزت عن الروايات المتعددة لنفس الحديث ـ تحس فيها بتكرار ولا إملال، فهو أسلوب نبوي؛ «أن نكرر دون أن نكرر»، ولنا في سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة.
---------
([1]) تهذيب الكمال للمزي (1/424)، الناشر: مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى، 1400 هـ.
([2]) البخاري (5032)، ومسلم واللفظ له (790)، ومعنى «تفصيًا»: تفلتًا وانفصالًا، والمقصود: النسيان.
([3]) الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (3/224)، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ.
([4]) تفسير الخازن (3/213)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة الأولى، 1415 هـ.
([5]) البخاري واللفظ له (71)، ومسلم (1037).
([6]) المفاتيح في شرح المصابيح لمظهر الدين الزَّيْدَانيُّ (4/197)، دار النوادر، وهو من إصدارات وزارة الأوقاف الكويتية، الطبعة الأولى 1433هـ.
([7]) النسائي في الكبرى (9742)، وابن ماجه (30)، وصححه الألباني (1383).
([8]) البيهقي في شعب الإيمان (7577)، وكتاب حديث الزهري (153)، وأورده الألباني في الصحيحة (869)، وقد نعتبر كلمة: (اتقوا الله) ترهيبًا من ترك صلة الرحم.
([9]) البخاري (2067) ومسلم (2557).
([10]) الترمذي (1979)، والحاكم (7284)، وصححه الألباني (الصحيحة: 276).
([11]) البخاري (1396) ومسلم واللفظ له (13).
([12]) ابن ماجه (3251)، والحاكم (4283)، وصححه الألباني (الصحيحة: 569).
([13]) الترمذي (1904)، وابن حبان (435)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب والترهيب: 2504).
([14]) الترمذي (2325)، وأحمد (18031)، وصححه الألباني (المشكاة: 5287).
([15]) قال المناوي: ««الرحم شجنة من الرحمن» أي: اشتق اسمها من اسم الرحمن»، فيض القدير للمناوي (4/53)، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى مصر، الطبعة الأولى 1356هـ.
([16]) البخاري (5988) ومسلم (2554).
([17]) البخاري (6138).
([18]) مسلم (832).
([19]) أبو يعلى (6839)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (2901)، وصححه الألباني (صحيح الترغيب والترهيب: 2522).
([20]) البخاري واللفظ له (2592) ومسلم (999).
([21]) ابن ماجه (4211)، والترمذي (2511)، وصححه الألباني (الصحيحة: 918).
([22]) البزار (2432)، والحاكم (8566)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 5894).
([23]) البخاري (5984)، ومسلم (2556).
([24]) مسلم (803).
([25]) ابن حبان واللفظ له (5176)، وأبو داود (1698)، وصححه الألباني (صحيح أبي داود - الأم: 1489).
([26]) البخاري (2482)، ومسلم (2550).
([27]) الترمذي (1979)، والحاكم (7284)، وصححه الألباني (الصحيحة: 276).
([28]) البزار واللفظ له (3966)، وابن حبان (449)، وصححه الألباني (الصحيحة: 2166).
([29]) مسلم (1013).
التعليقات