عناصر الخطبة
1/خطر النظر إلى من هو أعلى منك في أمور الدنيا 2/النظر إلى أفعال النفس ومحاسبتها 3/دعوة للتزود بالصالحات واستغلال العمراقتباس
لِيُتَابِعْ كُلُّ وَاحِدٍ حَالَهُ، وَلْيُحَاسِبْ نَفسَهُ، وَلْيَحرِصْ عَلَى التَّقَدُّمِ في صَالِحِ العَمَلِ كُلَّمَا تَقَدَّمَ بِهِ العُمُرُ، وَلْيَتَزَوَّدْ بِمَا تَزَوَّدَ بِهِ الصَّالِحُونَ مِن قَبلِهِ، فَالبَقَاءُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَمرٌ غَيرُ و..
الخُطْبَةُ الأُوْلَى:
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: ثَمَّ أَخلاقٌ وَصِفَاتٌ، تَتَوَغَّلُ في النُّفُوسِ وَتَتَمَكَّنُ مِنهَا، حَتى يَرَاهَا بَعضُنَا مِمَّا يَزِيدُهُ تَقَدُّمًا، وَهِيَ في الحَقِيقَةِ وَإِن كَانَت قَد تَنفَعُهُ في بَعضِ جَوَانِبِ دُنيَاهُ، إِلاَّ أَنَّهَا قَد تَضُرُّ بِهِ في أُخرَاهُ، وَمِن تِلكَ الأَخلاقِ أَوِ الصِّفَاتِ، المُوَازَنَةُ بَينَ النَّفسِ وَبَينَ الآخَرِينَ في دُنيَاهُم، أَو مُوَازَنَةُ المَرءِ بَينَ حَالِهِ وَحَالِ غَيرِهِ في مَالٍ أَو جَاهٍ أَو مَنصِبٍ، فَتَرَاهُ دَائِمًا يَتَطَلَّعُ إِلى مَا عِندَ النَّاسِ؛ فَكُلَّمَا رَأَى في أَحَدِهِم مَا يَعُدُّهُ مَكسَبًا، اِحتَرَقَ قَلبُهُ؛ لأَنَّهُ لا يَجِدُهُ في نَفسِهِ، وَجَعَلَ يَتَلَهَّفُ حَسرَةً؛ لأَنَّهُ لم يَصِلْ إِلَيهِ، وَمِن ثَمَّ يَحتَقِرُ مَا لَدَيهِ مِن نِعَمٍ وَهِبَاتٍ وَلَو كَثُرَت وَكَبُرَت، فَيُصبِحُ طَمَّاعًا لا يَقنَعُ، مَنهُومًا لا يَشبَعُ، وَيَزدَادُ بِذَلِكَ هَمًّا عَلَى هَمِّهِ، وَيَتَحَمَّلُ غَمًّا عَلَى غَمِّهِ؛ إِذْ لا هُوَ بِالَّذِي رَضِيَ بِمَا قُسِمَ لَهُ فَارتَاحَ، وَلا بِالَّذِي نَالَ مَا تَمَنَّى فَسَعِدَ بِهِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ إِنْ كَانَت في مَكَاسِبِ الدُّنيَا فَحَسبُ، وَخَاصَّةً فِيمَا لَيسَ لِلمَرءِ يَدٌ في تَحصِيلِهِ، فَهِيَ مَرَضٌ وَلَيسَت عَافِيَةً، وَخَسَارَةٌ وَلَيسَت مَكسَبًا، وَتَرَاجُعٌ وَلَيسَت تَقَدُّمًا؛ فَاللهُ هُوَ الَّذِي يُعطِي مَن يَشَاءُ وَيَمنَعُ، وَيَخفِضُ المَوَازِينَ وَيَرفَعُ، وَلَهُ في كُلِّ ذَلِكَ حِكَمٌ قَد تَخفَى عَلَى البَشَرِ، وَلَيسَ مَا صَلَحَت عَلَيهِ حَالُ امرِئٍ يُنَاسِبُ لآخَرَ، وَرُبَّ حِرمَانٍ لإِنسَانٍ مِن أَمرٍ دُنيَوِيٍّ، هُوَ خَيرٌ لَهُ مِنَ العَطَاءِ فِيهِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ العَاقِلَ يُمكِنُهُ أَن يَستَثمِرَ المُوَازَنَةَ فِيمَا يَنفَعُهُ وَيَرفَعُهُ، وَبَدَلاً مِن مُوَازَنَةِ نَفسِهِ بِغَيرِهِ مِنَ النَّاسِ في الدُّنيَا، وَالنَّظَرِ فِيمَا لَدَيهِ وَمَا لَدَيهِم مِن مَكَاسِبِهَا الفَانِيَةِ، فَإِنَّهُ يَرجِعُ إِلى نَفسِهِ وَقُدُرَاتِهِ، وَكَمَا يُوازِنُ نَفسَهُ بِالآخَرِينَ مِمَّن هُم فَوقَهُ في مَكَاسِبِ الدُّنيَا وَعَطَايَاهَا؛ فَلْيَتَأَمَّلْ فِيمَن هُم دُونَهُ مِمَّن حُرِمُوا مِن كَثِيرٍ مِمَّا عِندَهُ؛ لِيَعرِفَ نِعمَةَ اللهِ عَلَيهَ وَلا يَجحَدَهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: “إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُم إِلى مَن فُضِّلَ عَلَيهِ في المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنظُرْ إِلى مَنْ هُوَ أَسفَلَ مِنهُ”(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ). وَفي رِوَايَةٍ لِمُسلِمٍ قَالَ: “اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم وَلا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم، فَهُوَ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم”.
أَجَل -أَيُّهَا الإِخوَةُ-، إِنَّ كُلاًّ مِنَّا سَائِرٌ إِلى نِهَايَةٍ هُوَ بَالِغُهَا يَومًا مَا، وَرَاحِلٌ عَن هَذِهِ الدَّارِ وَلا بُدَّ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مِنَ الخَيرِ لَهُ أَن يَتَقَلَّلَ مِن مُوَازَنَةِ نَفسِهِ بِالآخَرِينَ، إِلاَّ فِيمَا يَنفَعُهُ في آخِرَتِهِ، وَأَن يَحرِصَ أَكثَرَ مَا يَحرِصُ، عَلَى مُوَازَنَةِ حَالِهِ فِيمَا سَبَقَ بِحَالِهِ في وَقتِهِ الرَّاهِنِ، وَيَنظُرَ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ قَبلَ سَنَوَاتٍ وَكَيفَ أَصبَحَ الآنَ؟! بَل وَكَيفَ هُوَ اليَومَ وَمَا الَّذِي يُحِبُّ أَن يَكُونَ عَلَيهِ غَدًا؟!
هَل أَصبَحَ مِنَ المُحَافِظِينَ عَلَى صَلاةِ الجَمَاعَةِ بَعدَ أَن كَانَ غَيرَ مُهتَمٍّ بِهَا؟!
هَل أَصبَحَ يُدرِكُ تَكبِيرَةَ الإِحرَامِ مَعَ الإِمَامِ بَعدَ أَن كَانَ لا يَأتي إِلاَّ بَعدَ سَمَاعِ الإِقَامَةِ؟!
هَل أَصبَحَ مِن أَهلِ الصَّفِّ الأَوَّلِ بَعدَ أَن كَانَ يَقُومُ بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ لِيَأتيَ بِمَا فَاتَهُ مَعَ المُتَأَخِّرِينَ؟!
هَلِ التَحَقَ بِرَكبِ المُتَزَوِّدِينَ مِنَ النَّوَافِلِ بَعدَ أَن كَانَ لا يَعرِفُ إِلاَّ الفَرَائِضَ؟!
هَل جَعَلَ لَهُ حَظًّا مِن قِيَامِ اللَّيلِ وَلَو بِالمُحَافَظَةِ عَلَى الوِترِ بَعدَ أَن كَانَ نَوَّامًا حَتى عَن صَلاةِ الفَجرِ؟! أَينَ صَارَ مِن تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ؟ وَهَلَ تَقَدَّمَ حَتى صَارَ يَختِمُ كُلَّ أُسبُوعٍ أَو كُلَّ شَهرٍ؟!
هَل أَصبَحَ مِنَ المُتَصَدِّقِينَ المُنفِقِينَ بَعدَ أَن كَانَ شَحِيحًا مُمسِكًا؟!
هَل أَصبَحَ مِمَّن يَسُرُّهُ قَضَاءُ حَاجَاتِ إِخوَانِهِ وَيَسعَى في تَفرِيجِ كُرُبَاتِهِم بَعدَ أَن كَانَ لا يَهتَمُّ إِلاَّ بِنَفسِهِ؟!
إِنَّهَا لَنِعمَةٌ عَلَى المَرءِ أَن يُحَاسِبَ نَفسَهُ وَيُرَاقِبَهَا، فَيَتُوبَ مِمَّا كَانَ عَلَيهِ مِنَ مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٍ، وَيَتَخَلَّصَ مِن صِفَاتِ السُّوءِ وَأَخلاقِ الشَّرِّ، وَيَكتَسِبَ أَخلاقَ الخَيرِ وَصِفَاتِ البِرِّ، وَيَجمَعَ لِنَفسِهِ حَسَنَاتٍ بِمَا يَقدِرُ عَلَيهِ مِن طَاعَاتٍ، وَيُرجِعَ الحُقُوقَ إِلى أَهلِهَا وَيُعطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَذَلِكَ أَدعَى لأَن يُتَابَ عَلَيهِ وَيُغفَرَ لَهُ وَيُرحَمَ، وَأن يُبعَثَ مَعَ أَهلِ اليَمِينِ أَو مَعَ المُقَرَّبِينَ، فَيَنجُوَ بِذَلِكَ وَيَفُوزَ وَيَنجَحَ وَيُفلِحَ (كُلُّ نَفسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّونَ أُجُورَكُم يَومَ القِيَامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ).
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاللهَ اللهَ، لِيُتَابِعْ كُلُّ وَاحِدٍ حَالَهُ، وَلْيُحَاسِبْ نَفسَهُ، وَلْيَحرِصْ عَلَى التَّقَدُّمِ في صَالِحِ العَمَلِ كُلَّمَا تَقَدَّمَ بِهِ العُمُرُ، وَلْيَتَزَوَّدْ بِمَا تَزَوَّدَ بِهِ الصَّالِحُونَ مِن قَبلِهِ، فَالبَقَاءُ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَمرٌ غَيرُ وَارِدٍ، وَكُلُّ إِنسَانٍ في هَذِهِ الدُّنيَا؛ إِمَّا أَن يَحيَا قَلبُهُ بِمَا مَرَّ بِهِ فِيهَا مِنَ دُرُوسٍ وَعِبَرٍ وَعِظَاتٍ، فَيَتَقَدَّمَ لِلأَمَامِ خُطُوَاتٍ وَيَقطَعَ مَسَافَاتٍ، وَإِمَّا أَن يَطُولَ عَلَيهِ الأَمَدُ فَيَقسُوَ قَلبُهُ، وَيَتَأَخَّرَ وَيَتَقَاعَسَ وَيَفتُرَ.
أَجَل -أَيُّهَا الإِخوَةُ-، إِنَّ المُسَافِرَ لا يَتَوَقَّفُ في الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا هُوَ في ذَهَابٍ وَتَقَدُّمٍ، أَو في تَقَهقُرٍ وَتَأَخُّرٍ، قَالَ سُبحَانَهُ: (كَلا وَالقَمَرِ * وَاللَّيلِ إِذْ أَدبَرَ * وَالصُّبحِ إِذَا أَسفَرَ * إِنَّهَا لإِحدَى الكُبَرِ * نَذِيرًا لِلبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَو يَتَأَخَّرَ).
نَعَم، إِنَّهُ لَيسَ في الطَّبِيعَةِ وَلا في الشَّرِيعَةِ وُقُوفٌ أبدًا، وَمَا الحَيَاةُ إِلاَّ مَرَاحِلُ تُطوَى أَسرَعَ طَيٍّ؛ فَإِمَّا مُسرِعٌ مُتَقَدِّمٌ إِلى الجَنَّةِ بِالأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، وَإِمَّا مُبطِئٌ مُتَأَخِّرٌ إِلى النَّارِ بِالأَعمَالِ السَّيِّئَةِ، وَلا طَرِيقَ لِسَالِكٍ إِلى غَيرِ هَاتَينِ الدَّارَينِ، وَمَن لم يَتَقَدَّمْ فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ. فَاللهَ اللهَ، فَإِنَّ الحَيَاةَ مِضمَارُ سِبَاقٍ وَمَيدَانُ تَنَافُسٍ في الخَيرَاتِ، وَقَد حَثَّ اللهُ -تَعَالى- عِبَادَهُ عَلَى المُسَارَعَةِ وَالمُسَابَقَةِ فِيمَا يَنَالُونَ بِهِ مَرضَاتَهُ وَجَنَّتَهُ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم)، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم)، وَقَالَ سُبحَانَهُ: (فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ).
وَامتَدَحَ -تَعَالى- أَنبِيَاءَهُ وَعِبَادَهُ الصَّالِحِينَ فَقَالَ عَنهُم: (إِنَّهُم كَانُوا يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَيَدعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وَقَد رُوِيَ في بَعضِ الأَحَادِيثِ: “بَادِرُوا بِالأَعمَالِ سَبعًا: هَل تَنتَظِرُونَ إِلاَّ فَقرًا مُنسِيًا، أَو غِنًى مُطغِيًا، أَو مَرَضًا مُفْسِدًا، أَو هَرَمًا مُفْنِدًا، أَو مَوتًا مُجهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرٌّ غَائِبٍ يُنتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدهَى وَأَمَرُّ”.
التعليقات