اقتباس
فالبركة أي: النمو والزيادة هي وصف عمل العاملين فيها وثوابهم، ومن هذا يتبيَّن أن ألف شهر: ذكر للدلالة على طول الزمن، فهو كما جاء في المثل السائر: ربَّ واحد يعد بألف، أي: بجمع كثير، وما يرويه بعض المفسرين في تعليل التحديد بألف شهر، فهو غير موثوق بصحته، والأسلوب العربي يأباه، والعدد هنا للتكثير ولا مفهومَ له.
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ* لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ ). [القدر]..
نزول القرآن منجَّماً:
أنزل الله تعالى القرآن الكريم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- منجَّماً ومفرَّقاً في ثلاث وعشرين سنة وبضعة شهور، حسب المناسبات ومُقتضى الحالات، منه ما أنزله عليه بمكة، ومنه ما أنزله عليه بالمدينة، ومنه ما أنزله عليه في سَفَرِه، أو في مقامه، وفي ليله أو في نهاره، وفي المسجد أو في حجرات زوجاته.
بداية إنزال القرآن:
فما أنزل الله القرآن الكريم على رسوله -صلى الله عليه وسلم- جملة واحدة، ولا في ليلة بعينها أو في شهر بعينه أو في مكان بعينه، ولكنه سبحانه رحمةً منه بعباده، وإرشاداً لهم إلى أفضل وقت جدير بأن يتَّخذوه عيداً لهم وموسماً لبرهم وخيرهم، نبَّههم إلى مبدأ إنزاله هذا القرآن الكريم على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وإلى أول وقت ابتدأ فيه إرسال هذا الغيث العميم للناس، فقال سبحانه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ) [البقرة: 185] . وقال جل وعلا: ( حم * وَالكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ). [الدُخان]. .
وقال عزَّ شأنه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) [القدر:1]. فدلَّ سبحانه بهذه الآيات على أنَّه ابتدأ إنزال القرآن الكريم على رسوله -صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان في ليلة من لياليه لا في نهاره، ووصف الليلة التي ابتدأ إنزال القرآن فيها بأنَّها ليلة مُباركة.
وسماها ليلة القدر، وخصَّها بسورة مكية عدد آياتها خمس: أكَّد في الآية الأولى منها أنه أنزل القرآن في ليلة القدر، ونوَّه في الآية الثانية منها: بِعِظَم شأن هذه الليلة حتى لا يوجد من الناس من يدري غاية فضلها، ووصفها في الآيات الثلاث التالية بصفات ثلاث، تدل على أنَّها موسم الخير ومَغْنم الأجر، وهذا تكريم وتقدير من الله لها، ولَفْت المسلمين إلى التماسها لإحيائها واغتنامها.
الحكمة من إخفاء ليلة القدر:
والجدير بالنَّظَر أنَّ الله سبحانه أرشد إلى أنَّ هذه الليلة ليلة في رمضان، ولم يعينها بذاتها، بل عينها بأوصافها وبأنها ليلة مباركة، وبأنها خيرٌ من ألف شهر.
والحكمة الإلهية في هذا أنه سبحانه أراد أن يوجِّه المسلمين إلى أنَّ كل ليلة من ليالي رمضان جديرة بأن تحيا بالخير والبر والطاعة والعبادة، لاحتمال أن تكون هي ليلة القدر؛ لأنَّ القرآن صريح في أنها في رمضان، والمسلم جازم بأن ليلة القدر ليلة من ليالي رمضان، وغير جازم بأية ليلة هي، فليعمر كل ليلة من لياليه بالبر وطاعة الله ليضمن أنه أحيا ليلة القدر، وغَنِمَ فيه الثواب والجزاء، فلله الحكمة البالغة في إرشاده المسلمين إلى عيدهم الجدير بأن يحيوه، وهو مبدأ نزول القرآن على رسولهم؛ وله الحكمة البالغة في إرشادهم إلى أن هذا العيد العظيم هو ليلة من ليالي شهر رمضان؛ فهو سبحانه بهذا أرشدهم أن يكون شهر رمضان كله عيداً لهم، وموسماً لطاعتهم، وميداناً لتسابقهم لنيل الأجر وجزيل الثواب.
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ) [القدر:1].
معنى القدر:
معنى القدر في اللغة العربية: التقدير، قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 91]. أي: وما قدروه حق تقديره، ومن معاني القَدْر: الشرف والمقام؛ يقال علا قَدْرُه أي: شَرَفه ومَقَامه.
لماذا سميت الليلة التي ابتدأ الله بها إنزال القرآن بليلة القدر؟
والليلة التي ابتدأ الله إنزال القرآن فيها على رسوله سمِّيت ليلة القدر، لأن فيها ابتدأ تقدير فرائض الله وأحكام الله، وتقدير أعمال العاملين من المحقِّين والمبطلين، ولهذا وصفها الله بقوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدُخان: 4] أي: فيها ابتدأ تفصيل كل شأن حكيم من شؤون العقائد والقوانين والأخلاق، وكل ما تقتضيه مصالح الناس، أو سمِّيت ليلة القدر، لأنها ليلة الشرف والعظمة والعزة للرسول وللمؤمنين وللناس أجمعين؛ لأنَّ القرآن رفع شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأَعْلى قَدْرَه، ورفع شأن الإنسانية وربأ بالإنسان عن العبودية لصنم أو وثن؛ فهي ليلة القدر والشرف والعظمة للناس جميعاً لأنها مبدأ نزول القرآن الكريم الذي كفل للناس حقوقهم وحريتهم، وأضاء لهم سبيل الرشد والهدى، وأنقذهم من الغي والضلال.
سر الإضمار في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ) [القدر:1] :
وإنما قال سبحانه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ). بالإضمار، ولم يقل: إنا أنزلنا القرآن، بالإظهار، للدلالة على أن المضمر ظاهر حاضر في كل ذهن، غير محتاج إلى إظهاره باللفظ.
معنى الآيات الكريمة:
ومعنى الآية الكريمة: إنا ابتدأنا إنزال القرآن الكريم في ليلة هي ليلة التقدير لأمور الناس وشؤونهم، بسنِّ قوانينهم، ورسم طرق هدايتهم أو هي ليلة الشرف والرفعة لهم بإنقاذهم من الشِّرك والضلال، وإرشادهم إلى التوحيد والهداية، وهي بالحق ليلة التقدير لخطط الهدى والإصلاح، وليلة الشرف والعظمة والعزَّة للرسول -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ) [القدر:2] .
المعنى: وأيُّ شيء أدراك وأعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا إنكار في صورة الاستفهام؛ أي: ولا شيء يدريك ويعلمك هذه الليلة، أي: لا شيء يعلمك أي ليلة هي، لأن هذا مما استأثر الله بعلمه لحكمة أرادها، ولا شيء يدريك ويعلمك بمبلغ شأنها وغاية فضلها، لأن هذا لا يحيط به علماً إلا الله تعالى.
وأبلغ ما يعبر به عن فضل ليلة أو أية مكرمة أن يقال: إنه لن تبلغ دراية أحد من الناس مبلغ فضلها ومنتهى علوِّ قدرها، لأنَّ الشرف إذا عَظُم لا تسهل الإحاطة به.
أوصاف ليلة القدر:
ثم وصفها سبحانه بثلاثة أوصاف:
الأول بيَّنه بقوله: (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3]:
هذا العدد ألف شهر، إنما يقصد به الزمن الطويل لا العدد المحدود.
معنى : (لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر:3] :
فالمعنى: ليلة القدر خيرٌ من أيِّ زمن طويل، لأن تفاوت درجات الأزمان ليس بطولها وقصرها، وإنما هو بنتائجها وآثارها، فهذه الليلة كانت أول الغيث، وكانت فاتحة الحياة الدستورية الإسلامية، وفيها ابتدأت العيون تبصر آيات الهدى بعد أن كانت في عمى، ابتدأت الآذآن تسمع دعوة الحق بعد أن كانت في صمم وابتدأت العقول تفكك التفكير السليم بعد أن كانت مطبوعاً عليها، فالقرآن فتح عقول الناس، ونبَّه حواسَّهم، وأنصف مظلومَهم، وأعان ضعفاءَهم، وابتدأ لهم حياة جديدة عرف فيها كلُّ إنسان أنَّ له حقوقاً وعليه واجبات، فالليلة التي ابتدأ فيها نزول هذا القرآن خير للإنسانية من ألف شهر ومن ألف عام، من حيث آثارها ونتائجها؛ وهي أيضاً خير للناس من ألف شهر من حيث مُضاعفة أجر العمل فيها، وقَبول دعاء الداعين، وتوبة التائبين؛ لأنَّ الله أكرم هذه الليلة ورفع قدرها.
مضاعفة الثواب فيها:
ومن آيات تكريمها ورفع قدرها: أنَّه أجزل الثواب على إحيائها وإسداء المعروف فيها، وجعلها خيراً من أيِّ زمن طويل آخر في كل ما يكون فيه وقت أفضل من وقت؛ ولهذا وصفها الله سبحانه بأنها ليلة مباركة، أي: مُبارك ومُضاعف أجر العمل فيها.
الليلة المباركة:
فالبركة أي: النمو والزيادة هي وصف عمل العاملين فيها وثوابهم، ومن هذا يتبيَّن أن ألف شهر: ذكر للدلالة على طول الزمن، فهو كما جاء في المثل السائر: ربَّ واحد يعد بألف، أي: بجمع كثير، وما يرويه بعض المفسرين في تعليل التحديد بألف شهر، فهو غير موثوق بصحته، والأسلوب العربي يأباه، والعدد هنا للتكثير ولا مفهومَ له.
الوصف الثاني :
والوصف الثاني بيَّنه سبحانه بقوله: (تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:4].
الملائكة: هم جنودُ الله الذين لا يَعلمُ حقيقتَهم ولا عَدَدَهم ولا شؤونهم إلا هو سبحانه.
والروح: هو جبريل عليه السلام، والمعنى: أنَّ الملائكة وجبريل تتنزَّل في هذه الليلة من عالمها العُلويِّ الروحانيّ إلى العالم السُّفلي الماديّ، وتنزلُّهم هذا إنما هو بإذن ربهم وتنفيذ لإرادته، من أجل كل أمر حكيم قَدَّر الله تفصيله لعباده وإبلاغه لهم.
دلالة الفعل المضارع : تنزَّل:
والسؤال الذي يخطر بالبال في هذا المقام هو: هل الفعل المضارع: (تَنَزَّلُ) [القدر:4] ، المراد به الاستقبال، أي أنَّ الملائكة والروح تتنزل في كل ليلة القدر من كل عام إلى أن تقوم الساعة، أو المراد به الماضي ؟ أي: أنَّ الملائكة والروح تنزَّلت في الليلة التي ابتدأ فيها إنزال القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل كلِّ أمر حكيم أذنهم الله أن يبلِّغوه إياه؟.
ذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ الفعل المضارع مراد به حقيقته وهو الاستقبال، وإلى أنَّ الله سبحانه تكريماً لتلك الليلة يأذن ملائكته والروح بأن ينزلوا فيها من عالمهم الروحانيّ إلى الأرض من أجل إحياء ذكرى الأمر الحكيم الذي بدأ إبلاغه للناس في هذه الليلة، فهي عيدٌ للملائكة وللناس.
وذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ الفعل المضارع مراد به الماضي، وأن معناه تنزَّلت وهو وصف لمبدأ إنزال القرآن على الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وأن الله سبحانه أذن ملائكته والروح بأن يتجلَّى لنفس الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين بدأ تبليغه وحيه، وابتداء إنزال القرآن عليه، وكثيراً ما يعبر عن الماضي بالمستقبل إذا كان الفعل الذي حدث في الماضي خالداً أثره حاضرة صورته؛ قال الشاعر:
فلما خشيت أظافيرهم *** نجوت وأرهنهم مالكا
أراد نجوت وأرهنتهم مالكاً، وهذا الرأي الثاني هو الذي أختاره.
الوصف الثالث من أوصاف ليلة القدر:
والوصف الثالث بيَّنه سبحانه بقوله: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ) [القدر:5]. أي: ما هي إلا سلامٌ وأمانٌ من كلِّ سُوء وشرّ، لأنها فاتحة عهد الهدى والنور، وإرشاد الناس إلى الخير والأمن، فهي من غروب الشمس حتى مطلع الفجر، أمنٌ وسلامٌ للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين وللناس أجمعين.
فيها ابتدأ تقرير مبادئ العدالة والمساواة والإخاء والتوحيد والبّر والإحسان.
دعوى أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان:
قال الأستاذ الإمام ـ رحمه الله تعالى-: ليلة القدر هي ليلة من شهر رمضان بلا شك كما تُصرِّح به آية البقرة مع ما يضمُّ إليها من آية سورة الدخان وآية سورة القدر.
وقال: أما ما يقوله كثير من الناس من أنَّ الليلة المباركة التي يفرق فيها كل أمر حكيم هي ليلة النصف من شعبان، وأنَّ الأمور التي تفرق فيها هي الأرزاق والأعمار، وكذلك ما يقولونه من مثل ذلك في ليلة القدر، فهو من الجرأة على الكلام في الغيب بغير حُجَّة قاطعة.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
مجلة لواء الإسلام، العدد الأول من السنة الثانية رمضان 1367هـ الموافق يوليو1948م.
التعليقات