عناصر الخطبة
1/أهمية التفاؤل وحسن الظن بالله تعالى 2/التفاؤل في حياة الأنبياء 3/صور من التفاؤل في حياة خاتم النبيين 4/ثمرات التفاؤل وفوائده 5/المستقبل لهذا الدين.اقتباس
فاليأسُ مرضٌ فتاكٌ، وجرثومةٌ قاتلةٌ، إذا تمكنت من قلبِ مُؤمنٍ أحرقت مُهجَتهُ، وأطفأت نُورهُ، وشتَّت أمرهُ، وحطَّمت آمالهُ، وقتلت عزيمتَهُ، وساقتهُ إلى حَتفِه، ففي مثل هذه الأوضاعِ العصيبةِ, تعظمُ الحاجةُ لاستحضار أسابِ الأمَلِ وصورِ التفاؤلِ، وحُسنِ الظنِّ..
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار .
معاشر المؤمنين الكرام: نتحدّث اليوم -بإذن الله وعونه وتوفيقه- عن خُلُقٍ عظيمٍ من أخلاق الإسلام الراقية، وصِفةٍ كريمةٍ من أجلِّ صفاتِ المؤمنين الكُمَّل، فهي صفةٌ عزيزةٌ: لا يظفرُ بها إلا من قويَ إيمانهُ، وارتفعَ يقينهُ، وعلا توكلهُ، واشتدت ثقتهُ بربه -تبارك وتعالى-.
صفةٌ جليلةٌ: من حققها ارتاحت نفسهُ، واطمأنَ قلبهُ، وانشرحَ صدرهُ، وطابَ عيشهُ، ومن فقدها عاشَ سلبياً كئيباً، أسيراً للهمِّ والقلق، والعجزِ والوهن، والخمول والكسل.
صفةٌ رائعةٌ: تُعْطِي المُؤمِنَ قُوَّةً وعَزِيمَةً، وهمةً وطَاقَةً عَظِيمةً، فيرى الحياة جميلة، ويرى البعيدَ قريباً، والصعبَ سهلاً، والمستحيلَ مُمكناً، يكفي أن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- قال عن هذه الصفة: "تُعجِبني".
إنه خُلُق التفاؤلِ وحُسنُ الظنِّ بالله يا عباد الله، والناسُ اليوم بأمسّ الحاجة إلى مَن يبثُّ في نفوسهم الأمل، ويوقدُ في حياتهم روحَ التفاؤلِ وحُسنَ الظنِّ بالله -تبارك وتعالى-، خُصوصاً إذا بدأ اليأسُ والقنوطُ يتسلَّلُ إلى النفوس.
فاليأسُ مرضٌ فتاكٌ، وجرثومةٌ قاتلةٌ، إذا تمكنت من قلبِ مُؤمنٍ أحرقت مُهجَتهُ، وأطفأت نُورهُ، وشتَّت أمرهُ، وحطَّمت آمالهُ، وقتلت عزيمتَهُ، وساقتهُ إلى حَتفِه، ففي مثل هذه الأوضاعِ العصيبةِ, تعظمُ الحاجةُ لاستحضار أسابِ الأمَلِ وصورِ التفاؤلِ، وحُسنِ الظنِّ بالله -جلَّ وعلا-.
وهذا هو منهجُ الأنبياءِ -عليهم جميعاً أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم-، فإِبراهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- دَفَعَهُ تَفَاؤلُهُ وحُسْنُ ظَنِّهِ بِربهِ أَنْ يتضرعَ ويَدْعُوَ خَالِقهُ -جلَّ وعلا- لِيَرزُقَهُ وَلَداً صالِحاً رغمَ تقدمه في العمر، وأنهُ صَارَ شَيْخاً كَبِيراً، فَقَالَ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)[الصافات:100]، فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ ووَهَبَهُ إِسْماعِيلَ وإِسْحَاقَ.
وهَذا يَعقُوبُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- يُبتلى بفَقَدِ ولديه، فيأمر بقية أبنائه بقوله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:78].
وهذا موسى -عليه الصلاة والسلام- يحاصِرهُ فرعونُ وجنودهُ، حتى صاحَ به بنو إسرائيل: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، فقال الواثِقِ بِرَبِّهِ، والذِي لَمْ يَتَسرَّبِ اليَأسُ إِلَى قَلْبِهِ: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشعراء:61-62].
والمتأمّلُ في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، يجدُ التفاؤلَ وحُسنَ الظنِّ بالله -تعالى- جلياً واضحاً كلَّ الوضوحِ، حتى ليكادُ أن يكونَ مَنهجاً ثابتاً لهُ -عليه الصلاة والسلام-، فمع كلِّ خوفٍ وشدةٍ يبثُ -صلى الله عليه وسلم- الأملَ ويرفعُ المعنويات، وكلَّما خيمَ على النفوس اليأسُ والقنوطُ، ازدادَ -صلى الله عليه وسلم- استبشاراً وتفاؤلاً.
قال خبابُ بن الأرتِّ -رضي الله عنه-: أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّدٌ بُردَه، وهو في ظلِّ الكعبةِ، وقد لقينا من المشركينَ شِدّةً، فقلت: يا رسول اللهِ، ألا تدعو اللهَ لنا؟! فقعدَ وهو مُحمرٌّ وجهُهُ فقال: "لقد كان من قبلكم ليمشَطُ بمِشاط الحديدِ ما دونَ عِظامهِ من لحمٍ أو عصبٍ ما يصرفُهُ ذلك عن دينه، ويُوضعُ المنشارُ على مِفرق رأسهِ فيُشَقُّ باثنين ما يصرفهُ ذلك عن دينه، وليُتمنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموت ما يخافُ إلا اللهَ والذئبَ على غنمه"(رواه البخاري).
وفي أحداث الهجرةِ المباركةِ صورٌ عجيبةٌ من التفاؤلِ والأملِ، فحِينَ يصلُ المطاردونَ للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى فم الغارِ الذي يختبئُ فيه، ويقولُ أبو بكرٍ: يا رسول اللهِ لو نظرَ أحدُهم إلى موضِع قدمهِ لرآنا، فيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم- بِلُغَةِ الواثِقِ بِرَبِّهِ، الذِي لَمْ يَتَسرَّبِ اليَأسُ إِلَى قَلْبِهِ: "يا أبا بكر, ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما، لا تحزن إنَّ الله معنا".
وفي غزوة الأحزابِ العصيبةِ، يومَ اجتمعَ ضدَّ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم- وصحابتهِ الكرامِ أكثرَ من عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، وأشتغلَ طابورُ المنافقينَ بالتخذيل وتحطيمِ المعنوياتِ، ومع نقصِ المؤنةِ وقلةِ الطعامِ أصابهم جوعٌ شديدٌ، حتى ربطوا الحجارةَ على بطونهم، ووافقَ ذلك بردٌ شديدٌ وريحٌ باردةٌ جداً، وهم في العراء يحفرونَ خندقاً طويلاً، فاجتمعَ عليهم خوفٌ شديد، وبردٌ شدِيد، وجوعٌ شديد، وإرهاقٌ من الحفر شدِيدٌ شدِيد، ووصلَ بهم الحالُ كما وصفَهم اللهُ -تعالى- في سورة الأحزاب: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا)[الأحزاب:10-11].
وكان آخرَ وأشدَّ ما أصابهم، غدرُ جِيرانِ السوءِ، يهودُ بني قُريظةَ، فقد نقضوا عهدهم مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- واصطفوا مع الأحزاب، وقد كانوا ظهراً للمسلمين، وكانوا يجاورون الحِصنَ الذي يحتمي فيه نِساءُ وأطفالُ المسلمين، فلما أُخبرَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بذلك قال: "اللهُ أكبرُ أبشروا يا معشرَ المسلمين، والذي نفسي بيده، ليَفرُجَنَّ عنكم ما تَرونَ من الشِدَّةِ، وإني لأرجو أن أطوفَ بالبيت العتيقِ آمنًا، وأن يَدفعَ اللهُ إليّ مفاتيحَ الكعبةِ، وليُهلِكنَّ اللهُ كِسرى وقيصر، ولتُنفقَنَّ كنوزهُما في سبِيل الله"(رواه البخاري ومسلم).
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا تأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فجاء فأخذ المِعْوَلَ فقال: بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: "اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ".
فيا له من تفاؤلٍ جميلٍ!، وحُسنِ ظنٍّ بالله قويِّ، ولها من ثقةٍ تامَّةٍ بالله، ويقينٍ كاملٍ به -جلَّ وعلا-، وبقربِ الفرجِ وتحقُقِ النَّصر، مهما استحكم البلاء، وتكالب الأعداء، فتفاءلوا يا عباد الله: و(لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزمر:53]، (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف:78]، (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)[البقرة:168]، (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:139].
تفاءل يا مسلم: فمن تقربَ إلى اللهِ شبراً تقربَ منهُ ذِراعاً، ومن تقربَ إليهِ ذراعاً تقربَ منهُ باعاً، ومن أتاهُ يمشي أتاهُ هرولة.
تفاءل أيها المسلم: فالحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة، وفي صحيح مسلم: "إنَّ اللهَ ليُربِّي لأحدِكم التَّمرةَ واللُّقمةَ كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه حتَّى تكونَ مثلَ أُحُدٍ"، و(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10].
تفاءل يا مسلم: فإنَّ اللهَ مع المؤمِنين، و(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة:153]، و(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل:128].
تفاءلْ يا مُسلم: فبعدَ كلِّ شتاءٍ قارسٍ، ربيعٌ مُزهرٌ، وبعدّ كلِّ رعدٍ قاصِفٍ، غَيثٌ مُغدِق، وبعدَ كلِّ مخاضٍ مُؤلمٍ، مولودٌ مُبهجٌ، و(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق:7].
تفاءل أيها المسلم: فلا حياةَ مع اليأسِ، ولا يأسَ مع الحياةِ ، وعلى قدرِ نيةِ العبدِ وهمتهٍ، يكونُ توفيقُ اللهِ لهُ وإعانتهُ، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].
تفاءل يا مُسلم: فمنْ عرفَ حُسنَ تدبيرِ اللهِ لعبده، هانتْ عليهِ المصائبُ، وسهلتْ عليهِ المصاعبُ، ومنْ قنع باليسير, هانَ عليهِ العسير، ومن عرف ما يطلب، سهُل عليه ما يبذل، (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[البقرة:284].
تفاءل أيها المسلم: فالفشلُ يفتحُ بابَ الأمل، والعُسرُ يُبشِّرُ باليسر، والذنوبُ سببٌ لتوبة من يتوب، وفي الحديث الصحيح: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقًا يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم".
تفاءل يا مُسلم: فمعيار السماء هو الأتقى وليس الأشهر ولا اﻷقوى، ولا تغرنك المظاهر، فكم من مجهولٍ في الأرض معروفٍ في السماء، وكم من مشهورٍ في الأرض مجهولٍ في السماء، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
تفاءل أيها المسلم: فكلُّ بلاءٍ دُونَ النارِ عافيةٌ، وكلُّ ضيقٍ دونَ القبرِ سِعةٌ، وكلُّ ذَنبٍ دونَ الشركِ مغفور، وحتى لو لم نرَ جمالَ المصائبِ، فكُلُّ ما يأتي مِنْ اللهِ جميلٌ.
تفاءل يا مُسلم: فالروضُ سيُورِق، والفجرُ سيُشرِق، والحقُّ سيعلو والباطِلُ سيزهَق، وإن بعد الجوعِ شبعاً، وبعْدَ الظَّمأ ريَّاً، وبعْدَ المرض عافية، وإن مع الدمعةِ بسمة، ومع القسوةِ رحمة، ومع الفاقةِ نِعمَة، وإنَّ مع العُسْرِ يُسْراً، ولعلَّ الله يُحْدِثُ بعد ذلك أمراً.
تفاءل أيها المسلم: فمن ساعةٍ لساعةٍ فَرَجٌ، وما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها، يُغيرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ:
أُعلِّلُ النفسَ بالآمالِ أرقُبها *** ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ
تفاءل يا مُسلم: فمن المُحالِ دوامُ الحالِ، والأيامُ دُولٌ، والدهرُ قُلّبٌ، والليالي حُبَالى، والغيبُ مستورٌ، والحكيمُ جلَّ جلاله, كلَّ يوم هو في شأنٍ، (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ)[المائدة:52].
تفاءل أيها المسلم: وكُنْ جميلاً تَرَ الوجودَ جميلاً: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[الأحزاب:3]، والذي نفسهُ بغير جمالٍ، لا يرى في الوجودِ شيئاً جميلاً، إِنَّ الجميلَ وإِن طالَ الزمانُ بهِ، فليس يحصدُه إِلا الذي زَرعا.
تفاءل أيها المسلم: فكلُّ من سارَ على الدرب وصل، وكلُّ من جدَّ وجد، وكلُّ من زرعَ حصد، وبقدر ما تتعنى، تنالُ ما تتمنى، (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)[الأعراف:56].
تفاءل يا مُسلم: فَالذِي يدفعُ التَّاجِرَ فِي تِجارَتِهِ أَمَلُهُ فِي الأَربَاحِ، والذِي يَحثُ الطَّالِبَ لِلْجِدِّ فِي دِراسَتِهِ أَمَلُهُ فِي النَّجاحِ، والذِي يُحَبِّبُ إِلى المَرِيضِ الدَّواءَ المُرَّ أَمَلُهُ فِي الشِّفاءِ، والذِي يَدْعُو المُؤمِنَ أَنْ يُخالِفَ هَواهُ، ويُطِيعَ مَولاَهُ، أَمَلُهُ فِي الفَوزِ بِجَنَّتِهِ ورِضاهُ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء:27].
تفاءل أيها المسلم: وأمِّل الشفاءَ ولو اشتدَّ المرض، واستبّشِر بصلاح الأحوالِ ولو تفاقَم سُوؤها، وترقب النَّصرَ وإنْ أوشَكت الهزيمةُ، وتوقع فَرجاً قريباً وإنْ استَحكَمت حلقاتُ المصَائِبِ، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[لقمان:17].
تفاءل يا مُسلم: فالشدائِدُ أقوى ما تكونُ اشتِداداً واسودِاداً، أقربَ ما تكونُ انفِراجاً وانبِلاجاً، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً)[الطلاق:2]، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً)[الطلاق:4].
تفاءل أيها المسلم: فأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفَرَجِ، ومن يتصبَّرْ يُصبِّرهْ اللهُ، ولن تموتَ نفسٌ حتى تستكمل رزْقها وأجلَها، فأجملوا في الطلب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التغابن:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه، أما بعد: فاتقوا لله عباد الله وكونوا مع الصادقين...
معاشر المؤمنين الكرام: كم نحنُ والله, بحاجةٍ إلى الأملِ والتفاؤلِ، فأشنعُ الناسِ حالاً، من يعيشُ بلا أملٍ، يسقطُ فلا ينهض، تضِيقُ عليه الدنيا بما رحُبت، تسوَّدُ الحياةُ في عينيه، تُغلقُ الدروبُ في وجه، يتحطمُ وينهار، يتخبطُ في بيداء اليأسِ، يقولُ هَلكَ الناسُ، ومن قالَ هلكَ الناسُ فهو أهلَكُهم.
الأَمَلُ والتَّفاؤلُ يا عباد الله: منبعهما الإِيمَانُ العَمِيقُ بِاللهِ -جَلاَّ وعَلاَ-، والمَعْرِفَةُ بِسُنَنِهِ ونَوامِيسِهِ، وحُسنُ الظنِّ به -جل وعلا-، فَهُوَ -سُبْحانَهُ- مالك الملك، مَقالِيدُ الأُمُورَ كُلِّها بيدِهِ، يُصَرِّفُها كَيفَ يَشاءُ.
والمؤمِنُ القوي الإيمان يعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ أنَّ كُلَّ ما يُصِيبُه فهو لهُ ولصالحة وليسَ عليهِ، قَال -جلَّ وعلا-: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة:51].
والمؤمِنُ يَعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ أنَّ ما أصَابهُ لم يكُنْ ليُخطِئهُ، وما أَخطَئهُ لم يكُنْ ليُصِيبَهُ، كَما قَالَ المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُؤمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، وحَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، ومَا أَخْطأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ".
والمؤمِنُ يعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ أنَّ الرِّزقَ مَقسُومٌ، وأن الأجَلَ مَحتومٌ، كما جاء في الحديث الصحيح: "إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفثَ في رُوعِي، أنَّ نفسًا لَن تموتَ حتَّى تستكمِلَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتَّقوا اللهَ، وأجمِلُوا في الطَّلَبِ".
والمؤمِنُ يَعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ, أن أمره كُلَّهُ لهُ خيرٌ، كما جاء في الحديث الصحيح: "عَجَباً لأَمْرِ المُؤمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلُّهُ خَيْرٌ، ولَيسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلمُؤمِنِ، إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ".
والمؤمِنُ يَعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ، أنَّ العطاءَ من الخلقِ حِرمانٌ، وأنَّ المنعَ من اللهِ إحسانٌ، قال -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].
والمؤمِنُ يَعلمُ بتفاؤلهِ وحُسنِ ظنهِ بربهِ، أنه ما مَنعهُ إلَّا ليُعطِيه، ولا ابتلاهُ إلا ليُعافِيه، ولا امتحَنهُ إلا ليَصطفِيه.
الحَياةُ -يا عباد الله- قَصِيرَةٌ, فَلاَ تُقَصِّروها بِالهُمومِ والأَحْزانِ، ولاَ تَحْمِلوا الأَرضَ فَوقَ رُؤوسِكُم، وقَدْ جَعَلَها اللهُ تَحْتَ أَقْدامِكُم، ولاَ تَخْشَوا الظَّلاَمَ ونورُ اللهِ بين أيديكم، ولاَ تُكدروا عَيشَ يَوْمِكم بِالتَّفْكِيرِ فيما سيحدثُ غدا، واعلَمُوا أَنَّ بَسْمَةَ الحَياةِ ولَذَّتَها مِنْ نَصِيبِ أَربابِ الأَمَلِ وأَهل التَّفاؤلِ، جاء في الحديث الصحيح: "بشّر هذه الأمةَ بالسناء والنصرِ والتمكين"، وفي الحديث الآخرِ: "ليبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلَغَ الليلُ والنهار، ولا يَترك اللهُ بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخلهُ اللهُ هذا الدِّين بعِزِّ عَزيز أو بذُلِّ ذليل، عزًّا يُعزُّ الله به الإسلام، وذلاًّ يُذلُّ الله به الكفْر".
فَاتَّقوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وكونوا من المتفائلين، فوالله وبالله وتالله إنَّ المستقبل لهذا الدين، وإنَّ العاقبةَ للمتقين، ولا عدوانَ إلا على الظالمين، فتفاءلوا وأَحْسِنوا الظَّنَّ بٍاللهِ واستبشروا، ولاَ تَجْعلُوا لِليأْسِ طَرِيقاً إِلَيكُم فَتَهلَكُوا وتَفْشَلوا، وتَذكَّروا قَولَ الحق -جلَّ وعلا- فِي الحَدِيثِ القُدُسيِّ: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ بي خَيْراً فَلَهُ، وإِنْ ظَنَّ بي شَرّاً فَلَهُ".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور:55]، (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[الروم:6].
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلوا وسلموا....
التعليقات