تعمير الكون بالصالحات الباقيات

علي عبد الرحمن الحذيفي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/مظاهر قدرة الله وحكمته في خلق الكون 2/نعمة الله بإرسال الرسل لإصلاح الأرض بالطاعات 3/وجوب تعمير الكون بالطاعات وهجر السيئات 4/فضائل ذكر الله تعالى

اقتباس

فالرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأتباعهم المؤمنون جعلوا هذا الكون مكانًا وزمانًا للصالحات والإصلاح، ففازوا بالخيرات والجنات، والأعمال الصالحات تعود كلها إلى نفع النفس، ونفع الخلق...

اعيد نشرها من قبل بتاريخ  22/2/1442

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ربِّ الأرض والسموات، رفيع الدرجات، أمَر بالطاعات لِمَا فيها من الخير والبركات، ونهى عن المحرَّمات؛ لِمَا فيها من الشؤم والشرور والهلَكات، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي لا يحصيها إلَّا هو، ما عَلِمْنا منها وما لم نعلم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، تفرَّد بالأسماء الحسنى وأكمل الصفات، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، خير الخَلْق المؤيَّد بالمعجِزات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، السابقين إلى الخيرات.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله بالتقرب إليه بما يرضيه، وهَجْر ما يُغضِبه ويؤذيه، فما أحسنَ عاقبةَ المتقين، وما أسوأ عاقبة العصاة المفسدين، فكونوا ممَّن سلَك سبل النجاة، ولا تكونوا ممَّن سلَك سبلَ العصاة المفسدين، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)[النِّسَاءِ: 69-70]، وقال تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الْجِنِّ: 23].

 

أيها المسلمون: إن الله خلَق هذا الكونَ، وأودَع فيه كلَّ ما يحتاجه المكلَّفون، من أرزاق ومتاع، ورياش وزينة، ومال ودواب وغير ذلك، وذلَّل هذا الكونَ وسخَّره كلَّه لمصالح الخَلْق، ومنافعهم، وقيام حياتهم إلى أجل مسمًّى عند الله لا يعدوه، قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الْمُلْكِ: 15]، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ)[الْأَحْقَافِ: 3]، وقال سبحانه: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 5-8]، وقال سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الْجَاثِيَةِ: 13]، وقال سبحانه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)[النَّحْلِ: 72]، وقال سبحانه: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا)[إِبْرَاهِيمَ: 34].

 

وإذ قد خلَق الله هذا الكون في كماله وجَماله، وفي وفائه التامِّ بمقوِّمات الحياة كلها، لكل مَنْ على الأرض، وفي كثرة منافعه، وتنوُّعِها، وفي تسخير الأسباب لبقاء الحياة ورُقِيِّها، أخبرنا ربُّنا -عز وجل- بأنَّه لم يخلق هذا الكون عبثًا، ولم يتركه سدًى، ولم يجعله مهملًا، قال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 16-17]، وقال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)[الْمُؤْمِنَونَ: 17]، وقال سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)[ص: 27]، وقال عز وجل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[الْمُؤْمِنَونَ: 115-116]، وقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)[الرَّعْدِ: 2]، وقال سبحانه: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[هُودٍ: 6]، وقال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[سَبَأٍ: 3]، وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)[آلِ عِمْرَانَ: 145]، ولم يكل الله الخلق إلى غيره، بل خلَق هذا الكون الْمُشاهَد بالحق، وهو التوحيد والطاعات كلها، والصلاح والإصلاح للأرض، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21-22]، وقال سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذَّارِيَاتِ: 56-57].

 

وقد أرسَل اللهُ الرسلَ، وآخرُهم سيدُهم محمد -صلى الله عليه وسلم- لإصلاح الأرض بالطاعات، وتطهيرها من الشرك والْمُوبِقات، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النَّحْلِ: 36]، وقال سبحانه: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا)[الْأَعْرَافِ: 56]؛ أي: بعد إصلاح الرسل لها بالكتب المنزَّلة، وقد أمر الله -سبحانه- المرسَلين -عليهم الصلاة والسلام- بالتمتُّع بما أحلَّ الله في الحياة من الطيبات، وأن يداوِموا على الطاعات التي لا تصلح الأرض إلَّا بها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)[الْمُؤْمِنَونَ: 51]، وأتباع الرسل -عليهم الصلاة والسلام- هم المؤمنون المأمورون بالاقتداء بهم، في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 172]، وقال سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[الْأَعْرَافِ: 32]، فالرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وأتباعهم المؤمنون جعلوا هذا الكون مكانًا وزمانًا للصالحات والإصلاح، ففازوا بالخيرات والجنات، والأعمال الصالحات تعود كلها إلى نفع النفس، ونفع الخلق، بالقيام بأركان الإسلام، وبقية الطاعات تابعة لهذه الأركان.

 

أيها المسلمُ: لا تحقرن من الطاعات شيئًا؛ فلا تدري أي عمل تدخل به الجنة، وتنجو به من النار، عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحقرن من المعروف شيئًا، وإن من المعروف أن تلقَى أخاكَ بوجهٍ طلقٍ"(رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجلٌ يمشي بطريق، وجَد غصنَ شوك على الطريق فأخَّره فشَكَر اللهُ له فغَفَر له"(رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة أيضًا، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن امرأة بغيًّا رأت كلبًا في يوم يطيف ببئر، أدلع لسانه من العطش، فنزعت له خفها، وملأته ماء فشرب فغفر له"(رواه البخاري ومسلم).

 

قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 40]، فالمؤمنون اتخذوا هذا الكون زمانًا ومكانًا للطاعات، وأما من لا يؤمن بالله واليوم الآخِر، وكفَر فاتخذ هذا الكون زمانًا ومكانًا للشهوات المحرَّمات، والمتع الزائلة، واقترف السيئات، وأعظم السيئات الشرك بالله، بأن يتخذ العبد مخلوقًا يدعوه ويرجوه، ويتوكل عليه، ويستعين به، ويستغيث به، ويرفع إليه المطالب والحاجات، ويرغب إليه في الرزق والنصر، ويهتف به في كشف الشدائد والكُرُبات، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله -سبحانه-، إلَّا بالتوبة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)[النِّسَاءِ: 116]، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)[الْمَائِدَةِ: 72]، وعن أبي الدرداء مرفوعًا، قال الله -تعالى-: "إِنِّي وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ، أَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرِي، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَايَ، خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ، أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ، وَيَتَبَغَّضُونَ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي"(رواه الطبراني في مسند الشاميين، والحاكم في التاريخ، والبيهقي في الشعب).

 

وتأتي كبائر الذنوب، في عِظَم الإجرام، بعدَ الشركِ، بحسب مفسَدة الذنب، وكل معصية ظلَم بها العبدُ نفسَه بينَه وبينَ الله وتاب منها غفرها اللهُ له، أمَّا المظالمُ بين العباد، فلا يغفرها اللهُ حتى يعطي المظلومَ حقَّه، يوم لا درهمَ ولا دينارَ، وإنَّما هي الحسناتُ، يعطى المظلومُ من حسناتِ مَنْ ظلَمَه، فإِنْ فَنِيَتْ حسناتُه أُخِذَ من سيئات المظلوم، فطُرِحَتْ على مَنْ ظلَم، ثم طُرِحَ في النار، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَمَالِهِ، فَلْيَسْتَحِلَّهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِهِ حِينَ لا دِينَارَ وَلا دِرْهَمَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَجُعِلَتْ عَلَيْهِ"(رواه مسلمٌ والترمذيُّ)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ، مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ"(رواه مسلم).

 

ولو سَلِمَ أحدٌ من استيفاء الحقوق في المظالم، لَسَلِمَ المؤمنون الأبرارُ من استيفاء حقوق المظالم بينَهم، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَخْلُصُ المُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا"(رواه البخاري).

 

أيها المسلمُ: إيَّاكَ والذنوبَ، وإن كانت في عينك صغيرة، فإن لها من الله طالبًا، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا وَلَمْ تُرْسِلْهَا فَتَأْكُلَ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"(رواه البخاري ومسلم)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكم ومحقَّراتِ الذنوب، فإنهنَّ يجتمعنَ على الرجل حتى يُهلِكْنَه"، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ)[الزُّمَرِ: 53-55].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، ونفَعَنا بهَدْيِ سيِّدِ المرسلينَ وقولِه القويمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمين، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، ولي المتقين، الغني عن خَلْقه، لا تنفعه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصية العاصينَ، أحمد ربي وأشكره على نعمه التي لا يُحصيها غيرُه، ما عَلِمْنا منها وما لم نعلم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملكُ الحقُّ المبينُ، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعدُ: فاتقوا الله حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

 

أيها المسلمون: إنَّ مما يكفِّر السيئات، ويزيد في الحسنات، ويزكِّي الأعمال الصالحات، ويَجبُر النقصَ بالقُرُبات، ويطرد الشياطينَ، ذِكْرَ اللهِ -عز وجل-، على كل حال، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[الْأَحْزَابِ: 41-42]، وعن عبد الله بن بُسْر -رضي الله عنه- قال: "أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله، إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيْنَا، فَبَابٌ نَتَمَسَّكُ بِهِ جَامِعٌ؟ قَالَ: "لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ"(رواه أحمد والترمذي).

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه به عَشْرًا"، فصلُّوا وسلِّمُوا على سيِّد الأولينَ والآخرينَ وإمامِ المرسلينَ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهم بَارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

 

اللهم وارضَ عن الصحابة أجمعينَ، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، الذين قَضَوْا بالحقِّ وبه كانوا يعدلون، اللهم وارضَ عن التابعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنا معهم بمنِّكَ وكرمِكَ ورحمتِكَ وجُودِكَ يا أكرمَ الأكرمينَ.

 

اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهم أذِلَّ البدعَ، الله أذِلَّ البدعَ، التي تضاد دينك الذي جاء به نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، اللهم أذِلَّ البدعَ إلى يوم الدين، يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهم اجعلنا من المتمسكين بكتابك، ومن المتمسكين بسنة نبيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ثبتنا على الإيمان، وعلى اليقين والإحسان، اللهم توفنا وأنت راضٍ عنا، يا ذا الجلال والإكرام، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم إنا نسألك الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم إنَّا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهم أَعِذْنا من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، اللهم استعمِلْنا في طاعاتك، وجنِّبْنا معاصيكَ يا ذا الجلال والإكرام، وأعِنَّا على ذكركَ وشكركَ وحُسنِ عبادتِكَ، اللهم أعذنا، اللهم أعذنا، وأعذ ذرياتنا من إبليس وذريته وشياطينه وأوليائه وجنوده وأتباعه يا ربَّ العالمينَ، اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ، (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آلِ عِمْرَانَ: 8]، اللهم هيِّئ للمسلمين من أمرهم رشدا، اللهم تولَّ أمرَ كلِّ مؤمن ومؤمنة، وتولَّ أمرَ كل مسلم ومسلمة يا ربَّ العالمينَ، اللهم اكشف الشدائد عن المسلمين، اللهم اكشف الشدائد والكربات عن المسلمين، اللهم ارفع هذا الوباء، اللهم ارفع هذا الوباء، الذي حلَّ ببلاد المسلمين، وحلَّ بالأرض، اللهم ارفعه يا ذا الجلال الإكرام، اللهم إنَّا نعوذ بك من سوء القضاء، ومن شماتة الأعداء، ومن درك الشقاء، اللهم اكشفه يا ذا الجلال والإكرام، وارفعه إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، اللهم احفظ بلادنا من كل شر ومكروه، اللهم احفظ جنودنا، اللهم احفظ جنودنا، اللهم وَفِّقْ خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لِمَا تحبه وترضاه، اللهم وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، وأَعِنْهُ على كل خير، الله وفقه للعمل الرشيد، والرأي السديد، اللهم وألبسه ثوبَ الصحة والعافية، إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، اللهم وفِّق وليَّ عهدِه لما تحب وترضى، اللهم وفِّقْه لهداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، اللهم وفقه للعمل الرشيد، وفقه للرأي السديد، وأَعِنْهُ على كل خير، وانصر به الدين إنَّكَ على كل شيء قديرٌ.

 

اللهم إنا نسألك يا ذا الجلال والإكرام، نسألك أن تغيثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مبارك إنَّكَ على كل شيء قديرٌ، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

المرفقات
MWMDCAizYgjBr9plVQ7GtU9WoL92ZbQpFg5rQuwN.doc
T7QXL281zVCk1XkryUfgQFjzZ2ZBelOyEp7uTFza.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life