تعظيم الله لشأن العدل في الأرض

عدنان مصطفى خطاطبة

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ معنى العدل 2/ شأن العدل عند الله وقدره 3/ ألوان من العدل في القرآن والسنة 4/ فقه علماء الأمة وسلفها الصالح لقيمة العدل

اقتباس

تذكر أن إقامتك للعدل هو أمر رباني جاء من فوق سبع سموات، أمر الله به عباده، ولم يستثن منهم أحدا، حتى الأنبياء، نعم حتى الأنبياء، من لدن آدم حتى نبينا عليهم الصلاة والسلام جميعا، فأنبياء الله وهم...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله. 

وبعد:

أيها الأخوة المؤمنون: العدل هو المساواة، هو الإنصاف، العدل هو إعطاء كل ذي حَقٍّ حقَّه، قال فيه العلماء: العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه.

وما تبددت سحب الفضيلة، وما غاب ظلها عن المسلمين وغير المسلمين اليوم، إلا لغياب شمس العدالة، عدالة السماء، عدالة شريعة الرحمن سبحانه، فاستظل الناس بنار الديكتاتورية، وافترشوا رماد الديمقراطية، والتحفوا قطران العلمانية، وتَوَسّدوا غبار الطاغية.

أيها المؤمنون: لقد عظّم الله شأن العدل، فجعله -سبحانه وتعالى- مدار الرسالات، وقوام السماوات، قال ربنا -جل شأنه-: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) [الحديد:25]، فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به ينصر هذا الحق، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هادياً ونصيراً.

وقد قال ابن القيم -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: إن القسط هو العدل الذي قامت به السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العدل، و أسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله، ودينه، ورضاه، و أمره.

وقال ربعيُّ بن عامر رضي الله عنه -معبرا عن مدار رسالة الإسلام وقوامها لرستم قائد الفرس لما سأله: ما جاء بكم؟- قال له: إنّ الله ابتعثنا لنخرج مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

أيها المؤمنون: لقد عظّم الله شأن العدل، فجعله صفة من صفاته سبحانه، وفعلا من أفعاله، هو قائم به -سبحانه- في كل شأنه، قال جل جلاله: (شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران:18]، قال السعدي: ( قائمًا بالقسط) أي: لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين عباده، فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه، وفيما خلقه وقدَّره.

وقال الألوسي: "وقوله تعالى: (قَائِمَاً بالقسط) بيانٌ لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته، و القسط العدل، والباء للتعدية، أي مقيماً بالعدل". ا.هـ فهو -سبحانه- متصف بالعدل المطلق، فهو عادل في أحكامه الدنيوية والأخروية، وهو عادل في حكمه الشرعي والقدري.

وقال ابن القيم -في شرح قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك"-: "إنه متضمن لأصلين عظيمين عليهما مدار التوحيد، أحدهما إثبات القدَر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها.

والثاني أنه -سبحانه- عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا يخرج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإن الظلم سببه حاجة الظالم، أو جهله، أو سفهه، فيستحيل صدوره ممن هو بكل شيء عليم، ومن هو غني عن كل شيء وكل شيء فقير إليه، ومَن هو أحكم الحاكمين، فلا تخرج ذرة من مقدوراته عن حكمته وحمده، كما لم يخرج عن قدرته ومشيئته، فحكمته نافذة حيث نفذت مشيئته وقدرته" ا.هـ.

وفي الصحيح من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وقوله -صلى الله عليه وسلم- للذي قال: والله إنَّ هذه قسمة ما عدل فيها! قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فمَن يعدل إذا لم يَعْدِل الله ورسوله؟".

عباد الله: عظَّم الله شأن العدل فأمر به، أمر به أمراً صريحا بأجلى العبارات وأشدها إلزاما، فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ) [النحل:90]، فالآمر هنا هو الله، الله العظيم، ليس أي احد؛ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ)، قال الإمام البخاري: "(بِالعَدْلِ) بإعطاء كل ذي حق حقه، ومعاقبة المسيء بمثل إساءته. وقال الإمام الطبري: إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف".

فتذكر -يا عبد الله- أن تعدل بين الناس هو أمر رباني، أن تلتزم بالعدل هو أمر رباني، أن تقيم العدل هو أمر رباني؛ أمر رباني لا يُخضع إقامة العدل لهواك، ولا لمزاجك، ولا لمصالحك، إن كانت الرياح لصالحك تشدَّقْتَ بالعدل، وإن كانت ضدك غمزت العدل!.

تذكر أن إقامتك للعدل هو أمر رباني جاء من فوق سبع سموات، أمر الله به عباده، ولم يستثن منهم أحدا، حتى الأنبياء، نعم حتى الأنبياء، من لدن آدم حتى نبينا عليهم الصلاة والسلام جميعا، فأنبياء الله وهم مَنْ هم،لم يأذن الله لهم أن يحكموا كما يشاؤون في أممهم، بل أمرهم بإقامة العدل الذي يُرضِي ربنا سبحانه.

نعم -يا عباد الله- خاطَب الله -سبحانه- نبيه وعبده داوود -عليه السلام- قائلا له، آمرا له: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [ص:26]، قال ابن كثير: "هذه وصية من الله -عز وجل- لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله بالوعيد والعذاب الشديد".

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا مروان بن جناح، حدثني إبراهيم أبو زرعة -وكان قد قرأ الكتاب- أن الوليد بن عبد الملك قال له: أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت الكتاب الأول، وقرأت القرآن وفقهت فقلت: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان. قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود؟ إن الله -عز وجل- جمع له النبوة والخلافة، ثم توعده في كتابه فقال: ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ).

ليعلم بذلك كل مسؤول، وكل حاكم، وكل والٍ، وكل مدير، وكل صاحب منصب، إنك لست أكرم على الله من أنبيائه، والله أمرهم أمراً بينا بأن يقيموا العدل بين الناس، وإلا فهو الحساب الشديد؛ ليعلموا وليفقهوا أن هذه الدنيا ليست هملا، وأن المناصب ليست للتمتع وانتفاخ البطن وتضخم الجيوب والأرصدة، إنما هي لإقامة حق الله في الأرض والعدل بين الناس الذين تتولى أمرهم، قَلُّوا أم كثروا.

 

نعم -يا عباد الله- أمر الله الناس بالعدل، ولم يستثن أحدا، فخاطب -سبحانه- نبيه وعبده وصفيه من خلقه سيدنا محمدا -صلى الله عليه وسلم- قائلا له، آمرا له: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [المائدة:42]، قال البغوي: قوله: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط) أي: بالعدل، (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: العادلين.

ولكن -يا أيها المؤمنون- يقرر لنا ربنا -سبحانه- متى نكون عادلين، وكيف نكون عادلين، فيقول ربنا -سبحانه- لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ولأتباعه الصادقين إلى يوم الدين: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) [المائدة:48]، (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ)، لا بما أنزلت فرنسا، أو أمريكا، أو بريطانيا، (بما أنزل الله)، لا بما اخترعته عقول العلمانيين والديمقراطيين ومجالس الشعب، وإنما ينص ربنا نصا صريحا على مراده وعلى أمره، فيقول: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).

ويقول لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ولولاة أمر المسلمين من بعده قولا عدلا، قولا فصلا: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) [سورة النساء:105]، قال السعدي: أخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس، والحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق، وفي العقائد، وفي جميع مسائل الأحكام.

أيها المسلمون: لا يمكن أن ينعم المسلمون بالعدل إلا بأن يكون ميزانه كتاب ربنا العظيم -جل في علاه-،هذا هو ما بيّنه لنا ربنا سبحانه، وقد فعل ذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم-، والتزم بذلك، وأعلنه صريحا فقال ما قاله له ربه -سبحانه-: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15]، قال ابن كثير: أي في الحكم، كما أمرني الله.

عباد الله: ثم خاطبنا الله تعالى بإقامة العدل كما خاطب من قبل أنبياءه، فقال -سبحانه-: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) [النساء:58]، قال ابن كثير: "أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس".

ولا يكون العدل في الحكم إلا إذا حكم المؤمن بين الناس بشرع الله -سبحانه-، وكما أمرنا الله -سبحانه- بإقامة العدل كذلك أمرنا رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا حكمتم فاعدلوا".

وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكارهنا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالعدل أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم".

وقال تعالى -في آية أخرى آمرا عباده بإقامة العدل وتطبيقه بصورة كلية وصادقة، والحذر من معيقاته-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]، قال ابن كثير: يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال.

وقال السعدي: "أي: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بما أُمِرُوا بالإيمان به، قوموا بلازم إيمانكم، بأن تكونوا (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ)، بأن تنشط للقيام بالقسط حركاتكم الظاهرة والباطنة، وأن يكون ذلك القيام لله وحده، لا لغرض من الأغراض الدنيوية، وأن تكونوا قاصدين للقسط، الذي هو العدل، لا الإفراط ولا التفريط، في أقوالكم وأفعالكم، وقوموا بذلك على القريب والبعيد، والصديق والعدو.

(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي: لا يحملنكم بغض (قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا) كما يفعله مَن لا عدل عنده ولا قسط، بل كما تشهدون لوليكم، فاشهدوا عليه، وكما تشهدون على عدوكم فاشهدوا له، ولو كان كافرا أو مبتدعا، فإنه يجب العدل فيه، وقبول ما يأتي به من الحق، لأنه حق لا لأنه قاله، ولا يرد الحق لأجل قوله، فإن هذا ظلم للحق، (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) أي: كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في العمل به، كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم، فإن تم العدل كملت التقوى".

نعم، هذا هو قدر العدل عند الله تعالى أنْ أمر به الأنبياء والمؤمنين، ذلك هو العدل الذي قدمّه ربنا سبحانه في الذكر على الصلاة، فقال تعالى: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف:29].

أيها المؤمنون: لقد بلغ من تعظيم الله للعدل أن بشّر الذين يقيمون العدل في الأرض ولو على أنفسهم، بشّرهم -سبحانه- بمكانتهم القريبة من جلاله -سبحانه-، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا".

وبشَّرهم سبحانه بالنجاة من كروب المحشر، والاستظلال بأعلى ظل يوم المحشر، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله- وذكر منهم- : إمامٌ عادلٌ"، قال ابن حجر: "وأحسن ما فسر به العادل أنه الذي يتبع أمر الله بوضع كل شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط".
 

وبشر -سبحانه- مَن يعدل بمعيّته -سبحانه-، وتأييده له، وأي بشرى أعظم من ذلك؟! وفي المقابل حذر من لا يعدل فيظلم ويجور بأن الله بريء منه، وأن معية الشيطان هي التي تلزمه، ففي الحديث الذي صححه الذهبي قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الْقَاضِى مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ بَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ وَأَلْزَمَهُ الشَّيْطَانُ"

وتوعد الله الذين يميلون عن العدل ويظلمون ويبغون ويجورون بأنهم سيكونون حطبا لجهنم من شدة مقت الله لهم، فقال -جل وعز-: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن:15]، قال السعدي: والقاسطون هم: الجائرون، العادلون عن الصراط المستقيم. وقال ابن كثير في قوله: (فكانوا لجهنم حطبا) أي: وقودًا تسعر بهم.

بل هناك ما هو أعظم من ذلك، فلقد قرن الله بين جريمة قتل الأنبياء وجريمة الاعتداء على العدل والعادلين، فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران:21].

قال السعدي: "هؤلاء الذين أخبر الله عنهم في هذه الآية، أشد الناس جرما، وأي جرم أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دلالة قاطعة على الحق الذي من كفر به فهو في غاية الكفر والعناد، ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب الحقوق على العباد بعد حق الله، الذين أوجب الله طاعتهم والإيمان بهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ونصرهم، وهؤلاء قابلوهم بضد ذلك.

ويقتلون أيضا الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له، فقابلوهم شر مقابلة، فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات، وهو العذاب المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية لا يمكن وصفها، ولا يقدر قدرها المؤلم للأبدان والقلوب والأرواح" ا.هـ.

عباد الله: لقد بلغ من عظيم شأن العدل عند الله تعالى أن أمرنا بإقامة العدل في مجالات الحياة صغيرها وكبيرها، فنم ذلك أنه أمرنا -سبحانه- أن نعدل في القول، فقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام:52]، قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بقوله: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ذا قرابة لكم، ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه".

فإذا قلتَ قولا، أو كتبت مقالا، أو تكلمت في تلفاز أو إذاعة، في حق شخص ما، أو مؤسسة أو قضية أو موضوع أو جهة أو دعوة أو حزب، فتذكر هذه الآية (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)، وبأن قد أمرك بالعدل في ذلك كله، وإلا فهو الجور، وهي النار.

عباد الله : ومن العدل العدل الأسري، ومنه أن تعدل في أسرتك، مع أهل بيتك كلهم دون استثناء؛ ومن صور ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الحسن: "اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أولادكم، اعدلوا بين أولادكم".

وعن أنس -رضي الله عنه- كما في الحديث الصحيح، قال : كان رجل جالساً مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجاءه ابن له فأخذه فقبله ثم أجلسه في حجره، و جاءت ابنة له، فأخذها إلى جنبه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ألا عدَلْتَ بينهما؟" يعني ابنه و بنته في تقبيلهما.

وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يُشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا؟" قال: لا. قال: "فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" قال: فرجع فرد عطيته.

قال ابن القيم: وهذا أمر تهديد لا إباحة، فإن تلك العطية كانت جوراً بنص الحديث، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يأذن لأحد أن يشهد على صحة الجور، ومن ذا الذي كان يشهد على تلك العطية، وقد أبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشهد عليها؟ وأخبر أنها لا تصلح، وأنها جور، وأنها خلاف العدل.

ولذا طبّق السلف هذا الأمر، فيقول إبراهيم التّيمي رحمه الله: إنّي لو قبّلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ لازمًا عليّ أن أقبّل الصغيرَ مثله خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى. وفي الحديث الصحيح عَن أَبِي هُرَيْرَةَ عَن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ" وفي رواية: "جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشقه مائل".

ومن العدل كذلك عدل ولاة الأمر، والمسؤولين، وأصحاب الحكم والمنصب والقضاء، فكلهم مأمورون بأمر الله بإقامة العدل كما تقدم بيانه، وكما في الحديث الصحيح، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل أو يوثقه الجور".

ولقد طبق ولاة أمر المسلمين من سلفنا الصالح الحكم بالعدل على خير وجه وأكمله، أخرج البيهقي عن الشَّعْبي قال: كان بين عمر وبين أُبيّ بن كعب -رضي الله عنهما- خصومة، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً، فجعلا بينهما زيد بن ثابت -رضي الله عنه-، فأتياه، فقال عمر: أتيناك لتحكم بيننا، وفي بيته يُؤتى الحَكَمُ؛ فلما دخلا عليه وسَّع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين! فقال له عمر: هذا أول جَوْر جُرْت في حكمك، ولكن أجلس مع خصمي، فجلسا بين يديه، فادّعى أُبيّ وأنكر عمر، فقال زيد لأُبيّ: أعفِ أمير المؤمنين من اليمين، وما كنت لأسألها لأحد غيره. فحلف عمر، ثم أقسم: لا يدرك زيدٌ القضاءَ حتى يكون عمرُ ورجلٌ من عرْض المسلمين عنده سواء.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: أيها المسلمون: لقد فقه علماء الأمة وسلفها الصالح ودعاتها المخلصون وحكامها الصادقون قيمة العدل في شرع الله، وأهميته في حياة المسلم، وضرورته لصلاح المجتمعات، فدعوا إليه، وحذروا من خلافه، فاستمع معي إلى طائفة من أقوالهم في ذلك:

قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: إنما أهلك مَن كان قبلكم أنهم منعوا الحق حتى اشتري، وبسطوا الجور حتى افْتُديَ. وقال عمر بن عبد العزيز: إذا دعتك قُدرتك على ظلم الناس، فاذكر قدرة الله تعالى عليك، ونفاد ما تأتي إليهم، وبقاء ما يأتون إليك.

وقال ابن تيمية: إن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة. وقال -أيضا-: وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل : إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.

ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بالعدل. وها هو عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أحد عماله حينما استأذنه في تحصين مدينة قائلا: حَصِّنْها بالعدل، ونَقِّ طريقَها من الظلم. ويقول قيس بن عباد: لعمل إمام عادل يوما خير من عمل أحدكم ستين سنة.

فتذكر-يا عبد الله- أن إقامة العدل أمر رباني، وتذكر إن دعتك نفسك لتجاوز العدل والالتواء بعيدا عنه تحت أي حجة تسوغها لك نفسك الأمَّارة أو مصالحك أو شيطانك، تذكر أن تقرأ قوله تعالى: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135]، وتذكر قول ربك -سبحانه- في الجائرين: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن:15].

فيا رب يا من صفتك العدل، ويا من أمرت بالعدل، ويا من تحب العدل، اجعلنا ممن يعدلون في حق أنفسهم، وفي حق أهليهم، وفي حق رعيتهم، وفي من يحكمون، وفي حق كل من يتعاملون معهم؛ إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئا، يا رب العالمين.

 

 

 

 

المرفقات
لماذا بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life