د. سمير مثنى علي الأبارة
الخلاف في اللغة:
هو مصدر خالف، كما أن الاختلاف مصدر اختلف، والخلاف هو: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافاً، وتخالف الأمران واختلفا، لم يتفقا، وكل ما لم يتساوَ فقد تخالف واختلف، قال سبحانه: ﴿ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ ﴾ [الأنعام: 141] [1] [2] أي حال كونه مختلفاً أكله في الطعم والجودة والرداءة[3].
إذاً: الخلاف والاختلاف في اللغة: ضد الاتفاق، وهو أعم من الضد، قال الراغب الأصفهاني: "الخلاف: أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين"[4].
فمثلاً: السواد والبياض ضدان ومختلفان، أما الحمرة والخضرة فمختلفان وليسا ضدين، والخلاف أعم من الضدية؛ لأنه يحمل معنى الضدية، ومعنى المغايرة مع عدم الضدية[5].
إذاً: فمعنى الخلاف والاختلاف هو المضادة والمعارضة وعدم المماثلة، وهذا المعنى هو الذي جاء في نصوص القرآن الكريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ الاختلاف في القرآن يراد به التضاد والتعارض، لا يراد به مجرد عدم التماثل، كما هو اصطلاح كثير من النظار، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82][6] أي: لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ﴿ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ أي: اضطرابا وتضادا كثيرا. أي: وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله[7]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253] [8] [9] ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف[10].
الخلاف في الاصطلاح:
الاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو قوله، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع، استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [مريم: 37] [11] فاختلف المختلفون في عيسى، فصاروا أحزابا متفرّقين من بين قومه[12]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118][13] [14] اختلف أهل التأويل في "الاختلاف" الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به. فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان، فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء: ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان[15].
وعليه فيكون الخلاف والاختلاف في الاصطلاح هو: "أن يذهب كل واحد إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر"[16]. أو هو: "منازعة تجري بين المتعارضين؛ لتحقيق حق أو لإبطال باطل"[17].
والمسائل الخلافية في الأحكام الشرعية هي: "المسائل الفقهية التي لم يتفق عليها من يعتد بخلافه من العلماء"[18].
فيمكن القول بأن الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة، في القول، أو الرأي، أو الحالة، أو الموقف.
وقد فرق بعض العلماء بين الخلاف وبين الاختلاف في الاصطلاح، من أربعة وجوه ذكرها أبو البقاء الكفوي في كلياته، وهي أن[19]:
1- (الاختلاف): ما اتحد فيه القصد، واختلف في الوصول إليه، و(الخلاف): يختلف فيه القصد مع الطريق الموصل إليه.
2- (الاختلاف): ما يستند إلى دليل، بينما (الخلاف): لا يستند إلى دليل[20].
3- (الاختلاف): من آثار الرحمة، بينما (الخلاف): من آثار البدعة.
4- (الاختلاف): لو حكم به القاضي لا يجوز فسخه من غيره، بينما (الخلاف): يجوز فسخه. وخلاصة قوله: إنه إذا جرى الخلاف فيما يسوغ سمي اختلافاً، وإن جرى فيما لا يسوغ سمي خلافاً.
والتفرقة بين الخلاف والاختلاف بهذا الاصطلاح الذي ذكره أبو البقاء الكفوي وغيره، لا تستند إلى دليل لغوي، ولا إلى اصطلاح فقهي.
فالخلاف والاختلاف في اللغة ضد الاتفاق، فهما بمعنى واحد، ومادتهما واحدة.
قال المناوي[21] - رحمه الله -: "الاختلاف افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور"[22].
أما في الاصطلاح الفقهي والعلمي فالذي يستقرئ استخدام علماء وفقهاء المسلمين لهذين اللفظين، يجد أن عامتهم لا يفرقون بينهما عند الاستخدام، وإن كانوا يفرقون بين المسائل التي يسوغ فيها الخلاف مما لا يسوغ فيها، مع اختلاف تعبيراتهم عن هذه التفرقة.
لكن قد يوجد فرق دقيق بين اللفظين من جهة الاستعمال؛ فكل منهما يستعمل باعتبار معين في حال المختلفين، وإن كان معناهما العام واحد، يبين ذلك محمد الروكي بقوله: "والملحوظ في استعمال الفقهاء أنهم لا يفرقون بين الخلاف والاختلاف؛ لأن معناهما العام واحد، وإنما وضعت كل واحدة من الكلمتين للدلالة على هذا المعنى العام من جهة اعتبار معين، وبيان ذلك: أننا إذا استعملنا كلمة (خالف) كان ذلك دالاً على أن طرفاً من الفقهاء -شخص أو أكثر- جاء باجتهاد مغاير لاجتهاد الآخرين، بغض النظر عن هؤلاء الآخرين، هل اجتهادهم واحد أو متباين...لكن إذا نظرنا إلى طرفين من أطراف الخلاف، أو إلى أطرافه كافة؛ فإننا نسمي ما ينشأ عنهم من آراء متغايرة اختلافاً...ويؤكد هذا التفريق اللفظي الدقيق استعمال القرآن الكريم لمادة الخلاف والاختلاف، فقد قال الله تعالى- على لسان شعيب - عليه الصلاة والسلام -: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ ﴾ [هود: 88] [23] أي: لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم[24]، فلما كان السياق هنا مرتبطاً بطرف واحد من أطراف الخلاف، عبر بكلمة (أخالف).
لكن حينما يكون السياق مرتبطاً بكافة أطراف الخلاف، يعبر حينئذ بكلمة (اختلف) كقوله -تعالى-: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ﴾ [مريم: 37] [25] [26]. إذاً: فالتعبير بكلمة (الخلاف) مرتبط باعتبار معين، والتعبير بكلمة (الاختلاف) مرتبط باعتبار آخر معين، والاعتباران معاً يكونان صورة واحدة، هي المعنى العام للخلاف والاختلاف، ولهذا لا تجد فرقاً بينهما في استعمال الفقهاء"[27].
[1] سورة الأنعام:141.
[2] انظر: لسان العرب: ابن منظور، (4/ 181-192).
[3] فتح القدير محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت (ج2 - ص192).
[4] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ط2، دار القلم، دمشق، سنة 1412هـ/ 1992م: (ص294).
[5] أدب الاختلاف في مسائل العلم والدين، عوامه، محمد، دار البشائر، بيروت، ط2، 1418هـ/ 1998م: (ص8).
[6] سورة النساء:82.
[7] تفسير بن كثير (ج 2 - ص 364).
[8] سورة البقرة:253.
[9] الفتاوى: ابن تيمية، (13/ 19-20).
[10] تفسير الطبري (ج5 - ص 381).
[11] سورة مريم:37.
[12] تفسير الطبري (ج 18- ص 197).
[13] سورة هود:118.
[14] مفردات القرآن: الراغب الأصفهاني، (ص294).
[15] تفسير الطبري (ج 15 - ص 531).
[16] انظر: المصباح المنير في غريب شرح الوجيز. الفيومي، أحمد بن محمد، المكتبة العلمية، بيروت: (ص179).
[17] التعريفات، الجرجاني، علي بن محمد، ط الأولى 1416هـ/ 1996م: (ص135).
[18] معجم لغة الفقهاء: (ص 198).
[19] الكليات، الكفوي، أبو البقاء أيوب بن موسى، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419هـ/ 1998م: (ص61).
[20] انظر: حاشية ابن عابدين على الدر المختار: (4/ 331).
[21] المناوي: هو محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين ابن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري، زين الدين. المشهور بالمناوي. ولد سنة: 952هـ وتوفي سنة: 1031 هـ. عاش في القاهرة، وتوفي بها.من كبار العلماء بالدين والفنون. انزوى للبحث والتصنيف، وكان قليل الطعام كثير السهر، فمرض وضعفت أطرافه، فجعل ولده تاج الدين محمد يستملي منه تآليفه.له تآليف كثيرة، منها: شرح على تائية ابن الفارض، شرح المشاهد لابن عربي، حاشية على شرح المنهاج للجلال المحلي، شرح على الازهرية، والجواهر المضيئة في الاحكام السلطانية (الأعلام للزركشي ج 6- ص 204).
[22] فيض القدير، المناوي، عبد الرؤوف، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، ط1، 1356هـ: (1/ 209).
[23] سورة هود:88.
[24] تفسير بن كثير (ج 4 - ص 344).
[25] سورة مريم:37.
[26] سبق تفسيرها.
[27] نظرية التقعيد الفقهي وأثرها في اختلاف الفقهاء، محمد الروكي، ط.منشورات كلية الآداب، جامعة محمد الخامس، الرباط: الأولى 1414هـ: (1/ 179-180).
التعليقات