عناصر الخطبة
1/ معاناة أهل الدنيا جميعا من الكدح والتعب 2/ الثمار الدنيوية والأخروية الطيبة للتعب في الله 3/ الشقاوة الدنيوية والأخروية للكادحين المعرضين عن ربهماهداف الخطبة
اقتباس
ألا ما أعظم الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء التعساء! ما أعظم الفرق بين من يكدحون ويتعبون في الدنيا ليستريحوا في الآخرة، لأنهم يدركون أن الدنيا كَبَد، ولا راحة للمؤمن إلا عند أول قدم يضعها في الجنة؛ وبين قوم يكدحون وينصبون في الدنيا ليلاقوا كدحاً وتعباً أشد في الآخرة! (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:127].
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي يعطي من سأله، ولا يخيب من أمّله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كرمه ربه ونصره، وآزره حين أرسله، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربه واقتفي عمله وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون.
حقيقة لا يماري فيها أحد، قررها الواحد الأحد، وعنوانها: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد) [البلد:4].
إنها حقيقة مهمّة لا بد أن ندركها، فالحياة الدنيا لا بد فيها من التعب والجهد، يستوي في ذلك المؤمن والكافر، والكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وسائر طبقات الناس، فكل منهم له نصيب من التعب والكَبَد.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد): في مكابدة ومشاقة وجهد وكد، وكفاح وكدح: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ) [الانشقاق:6].
فمنذ اللحظة الأولى للإنسان يبدأ الجهد الأشق، والكَبَد الأمرّ، وكل خطوة بعد ذلك كَبَد، وكل حركة بعد ذلك كَبَد، وعند بروز الإنسان كَبَد، وعند انتصاب القامة كَبَد، وعند الخطو الثابت كَبَد، وعند التعلم كَبَد، وعند التفكّر كَبَد، وفي كل تجربة جديدة كَبَد؛ كتجربة الحبو والمشي.
ثم تفترق الطرق، وتتنوع المشاق؛ فهذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، وهذا يكدح بروحه، وهذا يكدح للقمة العيش، وخرقة الكساء، وهذا يكدح ليجعل الألف ألوفاً، وهذا يكدح لملك أو جاه، وهذا يكدح في سبيل الله، وهذا يكدح لشهوة ونزوة، وهذا يكدح لعقيدة ودعوة، وهذا يكدح إلى النار، وذاك يكدح إلى الجنة.
والكل يحمل حمله، ويصعد الطريق كادحاً إلى ربه فيلقاه، وهناك يكون الكَبَد الأكبر للأشقياء، وتكون الراحة الكبرى للسعداء؛ "كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسه، فمعتقها أو موبقها".
كل الناس يشتغلون ويتعبون، ولكن النتائج والمآلات تختلف، فغادٍ في طاعة الله، تعب في عبادة الله، صرف جهده وهمه في سبيل مرضاة الله، فهذا قد اعتق نفسه. وآخر غادٍ في معصية الله، موبق نفسه بمعصية الله، مهلكها بانتهاك الحرمات والمحرمات، فهذا قد أهلك نفسه وأوبقها.
حقيقة لا تغفل عنها: إذا كنت تتعب في طاعة الله فلا تظنن غيرك في المعصية مرتاحاً، لا يبذل جهداً ولا كداً، فكل ما تراه من تعب السعداء في طاعة ربهم فاعلم أن الأشقياء يتعبون أضعاف أضعافه في المعصية: (إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) [النساء:104].
إن الكَبَد طبيعة هذه الحياة الدنيا، تختلف أشكاله وأسبابه، ولكنه هو الكَبَد في النهاية، فأخسر الخاسرين هو من يعاني كَبَد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكَبَد الأشق الأمر في الأخرى، وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كَبَد الحياة، وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال رحمة الله.
كل من في هذه الحياة يغدو ويتعب، وكل يسعى ويشقى، وكل يعمل على شاكلته: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل:4].
والجزاء مختلف، فليس الخير كالشر، وليس الهدى كالضلال، وليس الصلاح كالفساد، وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى، وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى، وإن لكلٍ طريقاً، ولكل مصيراً، ولكل جزاء وفاقاً.
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، مختلف في حقيقته، مختلف في بواعثه، مختلف في اتجاهه، مختلف في نتائجه، والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم، وتختلف مشاربهم، وتختلف تصوراتهم، وتختلف اهتماماتهم، هذه حقيقة.
والحقيقة الأخرى بأنه: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) [الحشر:20]، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ) [السجدة:18].
وأن "من جعل الآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها".
كلٌّ في هذه الحياة يتعب وينصب ويهتم ويغتم، وإنما الهموم على قدر الهمم، فئة في بيت الله تركع مع الراكعين وتذكر الله مع الذاكرين، وأخرى في الشوارع جلوساً في الزوايا، أو دوراناً في الأحياء، فكلا الفئتين تتعب؛ ولكن شتان ما بينهما!.
شباب في حلقات القرآن عاكفون على حفظه وتلاوته، حابسون أنفسهم في بيت الله، وآخرون وفي نفس الوقت يمضون أوقاتهم في دوران وجولان، وتفحيط وتفريط، فأي الفريقين أهدى إن كنتم تعلمون؟ (أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [الملك:22].
فئة تستثمر جوّالاتها فهي ناصبة في توجيه رسائل هادفة، ونصائح مؤثرة، وبث مقاطع نافعة، وفئة تقلب الصور الساقطة، وترسل الرسائل الهابطة، فتبوء بإثمها وإثم من تأثر بها وضل بسببها: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [هود:24]؟!.
لسان شغل بذكر الله وتلاوة كتابه والدعوة إليه، وآخر يفري في أعراض المسلمين، وكلاهما متعب. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) [الرعد:16].
قوم يشدون الرحال ويبذلون الأموال ويجهدون الحال دعوةً إلى الله، ونصحاً للعباد، ومحاربة للفساد، وإخراجاً للتائهين من الظلمات إلى النور؛ وأخرى تبذل جهدها وتنفق أموالها لتصد عن سبيل الله وتنشر الفساد، وتشيع الفاحشة، وتبث الخنا، وكلا الفريقين يتعب، لكن: (هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ).
ما أعظم الفرق بين واقف يصلي، وواقف يتحدث في الشارع! ما أعظم الفرق بين من يسهر ويتجافى جنبه عن المضاجع يدعو ربه خوفاً وطمعاً، وبين من يسهر ويمضي ليله في إيذاء العباد وورود موارد الفساد! ما أعظم الفرق بين شباب يجاهدون في سبيل الله ويرابطون في الثغور دفاعاً عن الأمة وحرماتها، وشباب تتعلق آمالهم بغانية وزانية ومرقص وحانة! ما أعظم الفرق بين من يجلس في المسجد انتظاراً للصلاة، و"ذلكم الرباط"، وبين جالس في بيته عاكف على شاشات الفساد وأفلام السفالة والهبوط!.
ألا ما أعظم الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء التعساء! ما أعظم الفرق بين من يكدحون ويتعبون في الدنيا ليستريحوا في الآخرة، لأنهم يدركون أن الدنيا كَبَد، ولا راحة للمؤمن إلا عند أول قدم يضعها في الجنة؛ وبين قوم يكدحون وينصبون في الدنيا ليلاقوا كدحاً وتعباً أشد في الآخرة! (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) [طه:127].
فئة عملت ونصبت فلم تحمد العمل، ولم ترض العاقبة، ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضاً وتعباً، فهي عاملة ناصبة؛ عملت لغير الله، ونصبت في غير سبيله، عملت لنفسها ولأولادها وتعبت لدنياها وأطماعها، ثم وجدت عاقبة العمل والكد، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب، وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل، ومع هذا الذل العذاب والألم: (تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً) [الغاشية:4].
وعلى الجانب الآخر: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ) [الغاشية:8-9]، حين ترى رضا الله عنها، وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته، ثم يراها ممثلة في رضا الله الكريم، وفي النعيم (فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً) [الغاشية:10-11].
إن السعداء يتعبون والأشقياء كذلك، ولكن تعب السعداء تعب في طاعة الله ومرضاته، فهم يحصلون على أجر من الله ومغفرة ورضوان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت ربي-عز وجل- في المنام في أحسن صورة، فقال لي: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟! قلت: الله -تعالى- أعلم! قال: فوضع الرب -تبارك وتعالى- يده بين كتفي حتى وجدت بردها في صدري، ثم قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟! فعلمتُ ما بين السماء والأرض، فقلت: يختصمون في الكفارات، والدرجات، والدعوات، فقال: وما الكفارات؟ فقال: نقل الأقدام إلى الجمعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكروهات...". فهذه أمور لها مشقة على النفس وتعب، ولكن جعل الله -عز وجل- فيها كفارة للذنوب.
تعب السعداء إما تكفير معصية أو رفع درجة، كما في الحديث: "من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة"، (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120]، "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه".
أما تعب الأشقياء فتكثير لذنوبهم، ومزيد إثم لهم: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) [التوبة:55]، (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [آل عمران:178].
تعب السعداء مُجازَون عليه وإن كان مجرد همّ: "مَنْ همّ بحسنةٍ فلم يعملها كُتبت له حسنة، ومن همّ بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف...".
تعب السعداء مثابون عليه وإن لم يعملوه لعذر: "إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً".
تعب السعداء تصحبه لذة وسرور في القلب يجده المؤمن في الدنيا قبل الآخرة مما يؤدي إلى زوال هذا التعب وتحوله إلى نعيم وراحة ولذة وسرور، كما قال أحد السلف: "جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت به عشرين سنة أخرى".
تعب السعداء يعقبه اطمئنان النفس، وراحة القلب: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:123]، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
تعب السعداء أدرك ثماره في الدنيا قائل السلف: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
إنه تعب يثمر سعادة وانشراحاً؛ لأنه تعب في طاعة الخالق -سبحانه-، أما تعب الأشقياء فتعب يعقبه الشقاء والكَبَد والتعب؛ لأنه في معصية الله.
الشقي يشعر أن تعبه في معصية الله، فإذا انتهى من لذته وذهب شعوره بها بقيت الحسرة في قلبه، وأورثه التعب هماً وحزناً.
إن أهنا عيشة قضّيتها *** ذهبت لذاتها والإثم حل
تعب الأشقياء تعب يعقبه الضيق والضنك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124]، شعور بتأنيب الضمير، شعور بالقلق من آثار الذنب، شعور بالخوف من مصيبة وعقاب على النفس والمال والأهل والولد، شعور بالذل والانهزامية؛ ويأبى الله إلا أن يذل من عصاه! تخوّف من الأمراض والفضائح، و(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج:12].
تفنى اللذاذات ممن ذاق صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تعب السعداء مؤقت ينتهي بفراق هذه الحياة حين يجد الإنسان عند الموت من التثبيت والبشرى بحياة النعيم الدائم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [فصلت:30]، ثم الجزاء الأعظم حيث "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، وهناك تنسى المتاعب، وتتلاشى المصاعب، وينقطع النصب والهم والحزن.
أما الأشقياء فهم على شقاوتهم وتعبهم في الدنيا، يجدون عند الموت من النذر والعلامات على شقاوتهم ما يجعلهم يموتون شرَّ ميتة، ثم يجدون في قبورهم وفي الآخرة من التعب والعناء أضعاف ما لاقوه في الدنيا.
وفي الحديث: "يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت شراً قط، ولا مرّ بي شدة قط. ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً من أهل النار فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت خيراً قط، ولا مر بي نعيم قط".
إن السعداء يدركون أن الحياة الدنيا مهما تطل فهي قصيرة، وأن عناء السعداء وتعبهم مهما اشتد فهو محتمل في سبيل الله ما دامت نهايته الموت، وعاقبته الفوز والنعيم المقيم، ومن هنا فالسعداء يستقلون كل تعب لقوه في الدنيا في ذات الله حينما يجدون ثوابه وجزاءه: "لو أن رجلاً يجر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرماً في سبيل الله لحقره يوم القيامة".
تعب السعداء يصحبه من توفيق الله -عز وجل- وتيسيره ما ينسي الشقاء والعناء؛ فالسعداء تكفّل الله -عز وجل- بدفع كربتهم، وإزالة غربتهم.
كم لاقى رسول الله من التعب والعناء في سبيل دعوته، فقيض الله له من ينصره ويؤازره! وكم لاقى دعاة الإسلام من العنت والنصب وكيد الخصوم فنصرهم الله وأيدهم بنصره! وإننا نجد في واقعنا أن كل تعب يبذله الإنسان في سبيل الله فإنه يلقى جزاءه عاجلاً غير آجل، ويقيض الله للعامل من يعينه وينصره ويذهب عنه آثار الهمّ والتعب.
تعب السعداء يصحبه في هذه الدنيا لطف من الله -عز وجل- بأن يقيض لك من المؤمنين أو غيرهم من يكون لك عوناً على ما تلقاه من جهد وتعب، أما تعب الأشقياء فعناء مسلوب من التوفيق والنصر الإلهي، فإنّ الله -عز وجل- يسلط بعضهم على بعض، ويسلط عليهم من المؤمنين من يكون سبباً في شقائهم وعذابهم...
أما الفرق الأكبر فهو ما يلقاه السعداء في قبورهم من النعيم، ثم يلقونه في الآخرة من السعادة والسرور وألوان اللذة، مما لا يخطر على بال، وأعظم ذلك النظر إلى وجه الله-عز وجل-...
أما الأشقياء الذين سخروا جهدهم وتعبهم في معصية ربهم، فإن عناءهم لا ينقضي، وحسرتهم لا تنقطع، فهم محرومون من النعيم، ويقاسون من ألوان العذاب ما يقاسون، حتى إنهم يطلبون أقل المطالب: (وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ) [غافر:49]...
هذا هو الفرق الأعظم: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود:106]، حينئذ تهون عند السعداء كل التضحيات، وتهون كل متاعب الدنيا مهما عظمت، ما دامت نهايتها سعادة لا تنقضي، ونعيماً لا يزول.
هذا هو الفرق بين السعداء الذين تعبوا في مرضاة ربهم وطاعته، فهم سعيدون في الدنيا بطاعة الله، وبلذة المناجاة، وبالأنس بقرب الله، سعيدون بما يلقون من الأذى في سبيل الله، وبما يجدون من التعب في طاعة الله، سعيدون بكل معاني السعادة، سعيدون عند الموت بالبشرى، سعيدون في قبورهم بما يلقون من النعيم، سعيدون عند البعث، سعداء بعد الحساب، وهذا هو جزاء المؤمنين الذين قرروا أن يقضوا حياتهم على وفق ما يرضي الله -عز وجل- وإن تعبوا ونصبوا وحرموا أنفسهم من اللذات.
أما الأشقياء فقد شقوا في الدنيا بالتعب في معصية الله، أشقياء في أجسامهم، في قلوبهم، أشقياء عند موتهم، في قبورهم، عند البعث، عند الحساب، وبعد الحساب: (جَزَاءً وِفَاقاً) [النبأ:26]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) [فصلت:46].
هذا هو الفرق بين تعب السعداء وتعب الأشقياء، فإنّ الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير، فليس مثله طمأنينة بال وارتياحاً للبذل واسترواحاً بالتضحية، فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين أو للانطلاق من هذه الأثقال ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض، والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل شهوة ونزوة: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) [فاطر:19-22]، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) [آل عمران:195].
نسأل الله -تعالى- أن يسخرنا لطاعته، وأن يستعملنا في مرضاته. وأقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة السلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: وثمة فرق حاسم بين تعب السعداء وتعب الأشقياء نلحظه من خلال قراءة التاريخ ومشاهدة الواقع: تعب السعداء تحفه عناية الله وتوفيقه وبركاته، فالسعداء في معية الله، ومن كان الله معه كان التوفيق والتسديد يلاحقه.
انظر إلى أعمال الصالحين وميادين الخير ومجالات البر والإصلاح، قليل مقدارها، عظيمة آثارها، يدخل الداعية إلى مدينة أو قرية فما يفارقها حتى يُخرجَ جماً من أهلها من الظلمات إلى النور رغم قلة إمكاناته وضعف قدراته.
انظر إلى الحلقات القرآنية والدور النسائية، كم نفع الله بها؟! وكم خرّجت من حفظة وحافظات وصالحين وصالحات؟! رغم قصر عمرها، وقلّة مواردها، ورغم الحملة الجائرة عليها لتشويه سمعتها وتحجيم دورها.
انظر إلى جمعيات البر وهيئات الإغاثة ومستودعات البر؛ كم استفاد منها من بائس! وكم تعفف بها من فقير! وكم فرج بها من مكروب!.
انظر إلى جهود الدعاة في أدغال أفريقيا يسلم على أيديهم الآلاف بجهد قليل، ومال يسير، وزمن قصير؟!.
انظر إلى جهود المصلحين، كم استقام على أيديهم من منحرف! وكم صلح بجهودهم من فساد! رغم ضراوة الخصوم، وشدة مكر الأعداء، واشتداد الغرائز، وهيجان الشهوات.
إنه تعب السعداء، تظهر آثاره وتتجلى ثماره في الوجود، فيسعد به العاملون، ويتحول العناء إلى هناء، ويصبح التعب لذة وحبوراً.
أما الأشقياء فيكدحون ويتعبون، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].
لقد كانت غايتهم من إنفاق أموالهم الصد عن سبيل الله، فسيخسرون أموالهم، ثم تصير نفقتهم ندامة عليهم، وكما قال ابن جرير بأن أموالهم تذهب ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله مُعْلٍ كلمته وجاعل كلمة الكفر هي السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ثم إلى جهنم يحشرون، فأعظم بها من حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحي فخرُب ماله، وذهب باطلاً في غير نفع، ورجع مغلوباً مقهوراً محروماً مسلوباً، وأما الهالك فقتل وسلب، وعجل به إلى نار الله يخلد فيها.
تأمل حال الذين يحاربون الدعوة ويضعون العقبات لمواجهة الدعاة، ويقفون حجر عثرة أمام معالم الخير ومواطن الإصلاح، ستجدهم من أتعس الناس وأكثرهم شقاوة.
ترى أحدهم يلهث ويلهث حتى لا تظهر للدعوة كلمة أو ترتفع لها راية، يسهر ليله ويشقي نهاره وينفق ماله في الكيد والمكر لعله ينجح في وأد كلمة خير أو يفلح في نشر رذيلة تبعد الناس عن حياض الفضيلة.
إن من الناس من يستغل كل إمكاناته العقلية وقدراته المالية في تزيين الباطل وتلميعه بشتى ألوان الزينة والإغراء، يريد إضلال الناس وتجهيلهم وإبعادهم عن الهدى، ومن ثَمّ فإن وجهه يتمعّر غضباً حينما يرى كلمة الحق قد أينعت وآتت أكلها، فلا يهدأ له بال أو يطمئن له حال حتى يفسد تلك الثمار بكل تشنج واضطراب.
مساكين هؤلاء القوم فإن الحسرة تحيط بهم من كل مكان! مساكين هؤلاء القوم يظنون أنهم بكلمة عوراء، أو عصا غليظة، أو جحور مظلمة، سوف يقضون على شجرة التوحيد، ويقطعون أغصان الفضيلة، وما دروا أن الله متم نوره ومظهر دينه، وناصر أولياءه.
مساكين هؤلاء القوم الذين اغتروا بجبروتهم، وانتفشوا بغرورهم، وما دروا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأن الزبد يذهب جفاء وأن الباطل كان زهوقا.
ألا فليعلم دعاة التغريب وأرباب الشهوات وحملة راية الفساد أن تعبهم ستعقبه الحسرة، وأن سعيهم في تباب.
وبعد أيها المسلمون: وبعد أن أدركنا فصل ما بين السعداء في تعبهم والأشقياء في نصبهم، من بعد هذا: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ).
أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً تحمل عبئك، وتجهد جهدك، وتشق طريقك لتصل في النهاية إلى ربك بعد الكد والكدح والجهاد.
أيها الإنسان: إنك كادح حتى في متاعك، إن لم يكن جهد بدن وكد عمل فهو جهد تفكير وكد مشاعر، الواجد والمحروم سواء.
أيها الإنسان: إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً، إنما الراحة هناك لمن يقوم لها بالطاعة والاستسلام، التعب واحد في الأرض، والكدح واحد، وإن اختلف لونه وطعمه، أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك، فواحدٌ إلى عناء دونه عناء الأرض، وواحد إلى نعيم يمسح عنه آلام الأرض فكأنه لم يكدح ولم يكدّ.
يا أيها الإنسان: ألا فاختر لنفسك ما يليق بعقلك وإنسانيتك، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه.
يا أيها الإنسان: اجعل كدك وكدحك وتعبك فيما يرضي ربك لكي تحاسب حساباً يسيراً، وتنقلب إلى أهلك مسروراً، واحذر أن تكون من الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى ناراً حامية، والتي تدعوا ثبوراً، لأنها عملت لغير الله، ونصبت في غير سبيل الله، ثم وجدت عاقبة العمل والتعب، وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد، ووجدته في الآخرة سواداً يؤدي إلى العذاب.
اللهم اجعل سعينا في مرضاتك، وكدحنا موصلاً إلى جناتك.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
التعليقات