عناصر الخطبة
1/ لذة العبادة وشرفها 2/ وقفات وتأملات مع صفات المؤمنين التسع المذكورة في قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ..) إلخ..اقتباس
هذه الآية الكريمة التي جاءت في معرض المدح لأهل هذه الصفات الشريفة، وخاصة أنها جاءت عقيب آيةٍ عظيمةٍ أخبر الله فيها عن العقدِ المعظَّم الذي جعله سبحانه بينه وبين كرامِ عباده. فجاءت عقيبها هذه الآية المادحة لأهل هذه الصفات التي وصفوا فيها بصفات تسع، هي من أعظم الصفات، بل هي أشرف الصفات وأكرمها في بني آدم. هذه الصفات...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون: تتوالى الأوقات وتتابع الشهور والأعوام، وتنصرم الأعمار وتتبدل الأحوال، ولا يزال الدهر على هذا المنوال بتدبيرِ وأمرِ الكبير المتعال، والغنيمةُ الكبرى والمنحةُ العظمى إنما هي في عبادة الله -جل وعلا-، والازدياد من طاعته، والقرب منه -جل وعلا-؛ فليس ثمة في هذه الدنيا شيءٌ ألذُّ ولا أكرمُ ولا أشرف من عبادة الله -سبحانه-؛ فلن يجد المتلذذون ولا المستمتعون ولا المتنعِّمون في هذه الحياة الدنيا لذةً كلَذَّةِ طاعة الله -جل وعلا-، والتقرُّبِ منه سبحانه.
ذلك أنَّ هذا أمرٌ جعل الله -تعالى- القلوبَ والنفوسَ مجبولةً عليه؛ فكما أنَّ الإنسان لا يستغني عن الطعام والشراب والهواء فكذلك هذه الروحُ الإنسانية هذه النفسُ الآدمية لن تجد طمأنينةً في أيِّ ملاذ الدنيا إلا إذا استقرَّ القلب واطمأن بعبادة الرب -تعالى وتقدس-، وقد أبدى ربنا -جل وعلا- في كتابه العزيز في تقرير هذه الحقيقة، وحث الناس عليها، ذلك أنَّ الله -جل وعلا- إنما خلق الخلق لعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
ومن جملة الآيات الكريمات التي جاءت لحثِّ المكلَّفين على التقرُّب إلى الله -سبحانه- بما يحبُّه من الطاعات والانكفاف عن السيئات قول ربنا -سبحانه- مادحًا لأهل هذه الصفات الكريمة: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:112].
هذه الآية الكريمة التي جاءت في معرض المدح لأهل هذه الصفات الشريفة؛ وخاصة أنها جاءت عقيب آيةٍ عظيمةٍ أخبر الله فيها عن العقدِ المعظَّم الذي جعله سبحانه بينه وبين كرامِ عباده، وذلك قوله -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111]؛ فجاءت عقِبها هذه الآية المادحة لأهل هذه الصفات التي وصفوا فيها بصفات تسع هي من أعظم الصفات؛ بل هي أشرف الصفات وأكرمها في بني آدم.
هذه الصفات التسع جاء منها الستة الأُوَل متعلقة بمعاملة الخالق -جل وعلا-، وجاء الوصف السابع والثامن متعلقًا بمعاملة الخلق، والوصف التاسع متعلِّقٌ بمعاملة الخالق -جل وعلا-، ومعاملة خلقه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112]؛ فكن -يا عبد الله- من أهل هذه الصفات، تسعد وتفلح في الدنيا والآخرة.
وحريٌّ بك أن تتأمل في معاني هذه الصفات، وما الذي تعنيه وتشمله؛ حتى تلتحق بأهلها وتتصف بها؛ لتفوز الفوز العظيم، وتنال البشارة الكبرى من رب العالمين.
فأول هذه الصفات قوله سبحانه: (التَّائِبُونَ) والمعنى: التائبون هم أهل الفلاح، وأهل الصفات التي بعدها هم أهل الفلاح، الذين يستحقون البشرى من رب العالمين، والتائبون هم الراجعون مما كرِهه الله وسخطه إلى ما يحبه -جل وعلا- ويرضاه.
ومن أعظم التوبة أن يكون الإنسان منكفًّا عن الشرك والنفاق، مستقيمًا على الإيمان والإخلاص؛ فالتائبون وصف يعمُّ الرجوعَ من كل شر إلى كل خير؛ سواءً كان كفرًا أو معصيةً أو بدعةً، أو غير ذلك؛ فهو يشمل الرجوع من كل حال إلى ما هو أحسن منها، وإن لم تكن الأولى شرًّا؛ بل كانت خيرًا، لكن المؤمن يترقَّى من خير إلى خير أكثر منه، هكذا يكون أهل الإيمان؛ لا يزالون يزدادون في طاعاتهم، فيزداد إيمانهم عند ربهم -جل وعلا-، وهذا ما يُفسَّر به توبة النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- واستغفاره في اليوم سبعين مرة؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-؛ فليس هذا لأنه -عليه الصلاة والسلام- اقترف الذنوب والخطايا، ولكنه يترقَّى من كل حسن إلى ما هو أحسن منه: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
والتوبة محبوبة عند الله -جل وعلا- وأهلها محبوبون، ولذلك عُظِّم شأنُهم، ورغِّبُوا في الإقبال على ربهم؛ ألا ترون كيف أن الله -سبحانه- دعا أولئك المجرمين الأفَّاكين الذين زعموا له الصاحبة والولد، هذا القول التي تكاد تتفطر منه السماء وتنهد الجبال: (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا)، ومع ذلك يقول رب العزة -سبحانه-: (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:74]، (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر:49]، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) [الزمر:53].
وينبغي أن يعلم أنَّ التوبة إنما تكون نصوحًا إذا حُقِّق فيها أمور ثلاثة:
الأول: احتراق القلب على الحال التي صدر منه ذلك الذنب والعصيان، فهو نادمٌ أن يقترف هذا الذنب وهذه الخطيئة في حق ربه -جل وعلا- الكريم الذي فضَّله، وأنعم عليه وأكرمه؛ كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار:6].
ما الذي جرَّأك على ربك الكريم التي ترادفت عليك نعمه وعَظُم عليك إحسانه؟! وإنما يقترف الإنسان ويقتحم الذنب والخطيئة حال نسيانه عظمة ربه وعظمة نِعَمه عليه، وهذا يوجب عليه أن يندم؛ إذ كيف أعصي ربي بنعمة أنعم بها عليَّ، ولولا ما أنا فيه من نعمة ما عصيت ربي؟!
وأمرٌ ثانٍ حتى تكون التوبة نصوحًا، وهو: أن يعزم على أن يترك هذا الذنب والخطيئة في مستقبل أيامه؛ فهو لا يتوب توبةً مؤقتةً، وإنما يتوب توبة صادقًا فيها، عازمًا على ألا يرجع إلى ما تلطَّخ به من هذا الرجس من الذنوب والعصيان.
وأمرٌ ثالث، وهو: أن يكون إقباله على ربه وتوبته إليه بدافع الإخلاص، وبدافع حُبِّ الله، ليس لأنه يخشى من قول أحد، ولا لأنه يخاف حدوث خطر عليه أو ضرر بنفسه، وإنما هو مقبلٌ على ربه؛ إخلاصًا وتوحيدًا له سبحانه.
ويضاف لهذه الأمور الثلاثة -إذا كان هذا الذنب والخطيئة في حقِّ أحد من الخلق- أن يُرجِع إليه حقَّه أو يَستسمحه منه؛ وذلك لأن حقوق الخلق مبنيةٌ على المشاحة؛ فالمخلوق لا بد أن يقتص ممن ظلَمه وأخطأ في حقه -إنْ في الدنيا أو في الآخرة-، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "من كان لأخيه عليه مظلمة فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم".
وأما حقوق الخالق -جل وعلا- فإنها مبنيةٌ على المسامحة؛ فإن ربنا غفور رحيم جواد كريم، ثم جاء الوصف الثاني، وهو قوله -جل وعلا-: (الْعَابِدُونَ)؛ الذين ذلوا لله خشية له سبحانه، وتواضعًا له -جل وعلا-، فجدوا في طاعته؛ فلا يزالون يترقون في الطاعات والعبادات، ويستكثرون منها، حتى يكون لهم هذا الوصف، وهو عبادتهم لله -جل وعلا- وإقامتهم على ذلك؛ كما قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله-: "عبدوا الله على كل أحايينهم؛ في السراء والضراء".
فتأمل في نفسك -يا عبد الله- هل أنت في يومك هذا أحسن من أمسك في طاعتك لله؟ هل عامك هذا أفضل مما مضى في طاعتك لله؟ تأمل في حالك وفتِّش في أمورك، إن كنت مُزدادًا من الطاعات فهذه علامة الخير؛ فاستمرَّ على ذلك، وأما إن كنت مقصرًا فذلك علامة الخِذلان؛ فتدارك نفسك قبل أن يحل الأجلُ.
ثم ذكر الله -تعالى- وصفًا ثالثًا: (الْحَامِدُونَ)؛ وهم الذين حمدوا الله -جل وعلا- على كل ما كان منه سبحانه، وما دبره لهم سوءًا كان خيرًا، أو غير ذلك، فإن كان مما تحبه نفوسهم، فهم معظمون بحمد لله، قائمون بشكره سبحانه على نعمه الدينية والدنيوية، ويظهرون هذا الحمد؛ فإنَّ الله -جل وعلا- يحب إذا أنعم على عبد نعمة أن يُرى أثر نعمته -جل وعلا- على عبده، ولذلك قال سبحانه: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى: 11].
وهذا الشكر -كما قال العلماء- قائمٌ على أركان ثلاثة:
أن يستقر في القلب أنَّ هذا الإنعام إنما هو من الله المنَّان، وأن يصرِّف هذه النعمة فيما يحبه الله -جل وعلا-، فيقوم بجوارحه بما تقتضيه هذه النعمة، يصرفها في طاعة الله -جل وعلا-، وأن يلهج لسانه بحمد الله وشكره على ما أنعم به وتفضَّل، وقد قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها".
ومنزلة في الشكر أعظم، وهي أن الإنسان حتى ولو كان له ما يكون في الدنيا -مما تكره نفسه- فإنه يحسن ظنه بربه، وأن الله سيجعل العقبى الحميدة، حتى وإن كرهت نفسه ما حصل، وذلك إنما يكون إليه عباد الله الأخيار الذين قاموا بشكره سبحانه، ولذلك أثنى -جل وعلا- على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بقيامهم بهذا الواجب العظيم: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) [الإسراء:3]، وهكذا سيِّدُهم ومقدمهم نبينا محمد -عليه الصلاة والسلام-، كان يحب ذلك ويعظِّمه، حتى قيل له مرة -وهو يكثر عبادته لربه وقيامه وتضرُّعه بين يديه، وقد تشققت قدماه من كثرة قيامه- قيل له: يا رسول الله، تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا".
فيا عبد الله: الزَم شكر الله، واجعل لسانك لاهجًا بذكره وحمده وشكره، تجد عقبى ذلك حميدة في الدنيا والآخرة؛ فإن الله شكور يشكر لمن شكر، ويضاعف لمن استغفر، وأقبل عليه -جل وعلا-، ثم قال سبحانه: (السَّائِحُونَ)، والمعنى في ذلك أنهم الذين أكثروا من الصيام؛ فإنَّ السياحة المرادة في هذه الآية الصوم -كما فسره الأئمة رحمهم الله-؛ وذلك أن هذه العبادة تدل على إخلاصٍ وإقبالٍ على الرب -جل وعلا-، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "من صام يومًا في سبيل الله، باعد الله بصومه ذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا".
ثم قال ربنا -سبحانه- مادحًا هؤلاء العباد: (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ)، والمعنى بذلك هم المصَلُّون؛ ذلك أن الصلاة محبوبةٌ عند الله -جل وعلا-، ولذا قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنك لن تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، ووضع بها عنك سيئة"، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما سأله أحد الصحابة، قال: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: "أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود"، قال العلماء: إنما خُصَّ الركوع والسجود بالذكر للإشارة إلى الصلاة؛ لأن فيهما غاية التواضع والعبودية لله -جل وعلا-؛ تنبيهًا على أنَّ المقصود من الصلاة هو نهاية الخضوع والتعظيم لله -جل وعلا-، وإنما يكون هذا لمن خشع قلبه في الصلاة، وتدبر وعظَّم وقوفه بين يدي مولاه.
ثم قال سبحانه واصفًا هؤلاء الأخيار: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ)؛ والمعنى أنهم يأمرون الناس بالحق واتِّباع الرشد والهدى، وينهون عن المنكر؛ وذلك بنهيهم الناس عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه، فعندهم في قلوبهم من الغيرة على جنب الله، ما يجعلهم ينبهون الآخرين على أن الواجب عليهم الاستقامة على طاعة الله، والانكفاف عن معصيته.
وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-، وهو واجب بين المسلمين، وهو من أخص صفات المجتمع المسلم، وإذا وصل الحال بالناس إلى أنهم لا يتواصون بالمعروف، ولا يأمر بعضهم بعضًا به، ولا يتناهون عن المنكر فهذا من علامة الخِذلان، وسبب لقلة البركات ونزول النقم، ولذلك إنما تقوم الساعة في نهاية الدنيا على قوم لا يعرفون المعروف ولا ينكرون المنكر، حتى لا يقال في الأرض: الله.. الله، وحتى إنهم ليتسافدون في الطرقات تسافُد الحمر؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: "لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرًا، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، فتدعونه فلا يستجاب لكم".
ثم قال ربنا -جل وعلا- واصفًا ومادحًا هؤلاء العباد الأخيار: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ)؛ والمعنى أنهم يؤدون فرائض الله، ينتهون عما نهى -جل وعلا-؛ فلا يضيعون شيئًا ألزم الله به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم الله عن ارتكابه، حافظون لحدود الله؛ سواء رآهم الناس، أم غابوا عنهم، فهم يراقبون الله ويعاملون الخالق، لا يلتفتون ولا يأبهون بالخلق، فلا يظلمون أحدًا ولا يتجبرون على أحد، ولا يبخسون حق أحد، هذا في معاملتهم للخلق، وفي معاملتهم لخالقهم؛ فإنهم حملوا الأمانة العظمى، وقاموا بشكر ربهم، وحافظوا على حدوده وفرائضه، عظَّموا شعائره: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].
فكانوا على هذه الصفات، فاستحقوا أن يكون لهم هذا المدح، ليس من الخلق، وإنما من الخالق -جل وعلا-، وحسبُك أنَّ الله -جل وعلا- يمدح أحدًا من عباده؛ فلا تَسَلْ بعد ذلك عن الخير الذي يلقاه والعاقبة الحميدة التي يؤول إليها، ولذا قال الله تعالى في تمام الآية: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
فليطف خيالك كيفما شئت، ولتتصور أيما شئت بهذه البشارة الربانية التي لا حصر لها، ولا حد لخيراتها وبركاتها في الدنيا والآخرة، فإن الآمر بالتبشير في هذه الآية هو الرب -جل وعلا- الذي بيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء مما لا يخطر على البال؛ كما قال سبحانه في شأن الجنة: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف:71]، وقال -جل وعلا-: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:17].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك ربنا ما طابت الدنيا إلا بذكرك، ولا الآخرة إلا بعفوك، ولا الجنة إلا بوجهك الكريم؛ فيا ربنا لا تحرمنا خير ما عندك بسوء ما عندنا.
تأملوا -أيها الإخوة المؤمنون- في هذا المدح الرباني: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:112].
هذه الآية العظيمة ينبغي أن تكون -يا عبد الله- من المنافسين إليها، المتصفين بالصفات الواردة فيها؛ قال العلماء: إن هذه الآية دلت على أوصاف الكَمَلة من المؤمنين، ذكرها الله -جل وعلا-؛ ليستبق إليها أهل التوحيد، وليكونوا في أعلى رتبة وأعلى منزلة.
فيا عبد الله: تأمل في هذا الخير العظيم؛ فإنه مهما نال الإنسان من الدنيا من مُتعها فلن يقارن أبدًا بالقرب من ربه -جل وعلا-، ونيل مدحته سبحانه.
وليتأمل العبد أنه كلما مضى يوم قرَّبه من أجله فإن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا؛ فالسعيد مَن وُعِظ بغيره واستعد للقاء ربه، ذلك أن النقلة عن هذه الحياة الدنيا المؤقتة إلى دار دائمة أبد الآباد؛ فيا بشرى من كانت نقلته إلى جنة عرضها السموات والأرض، ويا لحسرة من كانت نقلته إلى نار يبقى فيها أبد الآباد: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) [الزخرف:77].
وأما أهل الجنة فإنهم فيها خالدون في نعم عظيمة، لا يبلى معها شبابهم، ولا ينالهم هرم ولا مرض، ولا ينالهم ضر، وحسبُهم بشارة ربهم لَمَّا ناداهم وهم في نعيمهم: "يا أهل الجنة، فقالوا: لبيك ربنا وسعديك، قال -جل وعلا-: هل رضيتم؟ قالوا: وما لنا يا ربنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما أعطيتنا، فيقول: ألا أُعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟! قال: أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".
فما أعظمها من نعمة! بلَّغنا الله ذلك المقام ووفَّقنا إلى هذا النوال!
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وألِّف بين قلوبهم يا رب العالمين.
اللهم احفَظ لنا في بلادنا أمننا وطمأنينتنا وقيادتنا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولاة أمورنا لِما فيه الخير والهدى.
اللهم اجعَلهم رحمة على رعيتهم.
اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنهم بطانة السوء يا رب العالمين.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكْفِهم شرارهم.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءًا فاشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.
اللهم إنا ندرأ بك في نحور أعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم يا رب العالمين.
اللهم عجِّل بالفرج لإخواننا المبتلين في كل مكان.
اللهم احقن دماءهم، اللهم أمِّن خوفهم، اللهم أصلح أحوالهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغارًا.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:181-182].
التعليقات