عناصر الخطبة
1/ العرب قبل الإسلام 2/ ضياع البشرية قبل الرسالة المحمدية 3/ إكرام الله - تعالى -الأمةَ العربية بالبعثة المحمدية 4/ إعداد النبي لأصحابه لحمل الرسالة 5/ قيام النبي والصحابة والرعيل الأول بهذا الدين 6/ العالم في جحيم الحضارة الغربية المادية 7/ ضرورة اجتماع المسلمين واتحادهم
اهداف الخطبة

اقتباس

وبالجملةِ فلم تكن على ظهرِ الأرض أمّةٌ صالحة المزاج، ولا مجتمع قائِمٌ على أساسِ الأخلاق والفضيلة، ولا دولة مؤسَّسة على العدلِ والرحمة، ولا دينٌ صحيح مَأثور عن الأنبياءِ - إلا بقايا من نورٍ خافت ضعيفٍ منزويًا في ديرٍ أو كنيسةٍ، لا يخترق الظلامَ ولا ينير السبيل. عالمٌ مفكَّك، وقبائل متناحرَة، وشعوبٌ مستعبَدَة، ومواهبُ ضائِعَة، وبِلاد تتسكَّع في الجهل والضلالات، تائهةً في بحارٍ من الظلم والظلُمات ..

 

 

 

 

 

أمَّا بعد: فاتَّقوا الله – تعالى -أيّها المؤمنون- لعلَّكم تفلِحُون : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].

فخُذوا أُهبَتَكم قبل الممَاتِ، وتزوَّدوا مِنَ الباقياتِ الصَّالحات قبلَ الفَواتِ.

عبادَ الله: العربُ أمّةٌ من الأمَم وشَعب من الشعوب، والتي خَلَقَها الله - تعالى -وفاوَتَ بينها لحكمةٍ باهِرة قضاها الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].

شُعُوبُ الأرض هَيئاتٌ وألوان وألسُنٌ ولُغات وثَقافَة وحَضارات، تلتقي تارةً فتَتلاقَح، وتَصطَرِع تاراتٍ فتتناطَح، ولقد كان العربُ قبلَ الإسلام أمّةً تائهةً في عقيدتها مفكَّكةً في أواصرِها متناحِرَةً متقاتِلَة، لا يجمعهم سلطانٌ ولا دولة، ولم تكن لهم رِسالة بين الأمَمِ، تدوم الحربُ أربعين عامًا لأجل ناقةِ البَسوس، ويُقتَل الأُلوف منَ الناسِ في حربٍ ضَروس لأجل فرَسٍ تسمَّى داحِسًا، وكانت الحياةُ شبكةً محبوكةً من تِراتٍ وثارَات، فشَت حبائلُها في القبائل، وحملت المعيشةُ القاسِيَة والطمَع والجشَع والأحقادُ والاستهانة بالدِّماء حمَلتِ الناسَ على الفتك والسَّلب، وأصبحت أرضُ الجزيرةِ كِفَّة حَابِل، لا يدرِي الإنسانُ متى يُغتال وأين يُنهَب.

يَئدون البناتِ ويقترِفون المحرَّمات، يشرَبون الخمرَ ويأكلون الرِّبا، ولم تكن الأممُ الأخرى أسعَدَ حظًّا ولا أحسَن حالاً بالرغمِ من تفوُّقها في حرثِ الدنيا وعِمارتها وانتظامِ مُلكها وسُلطانها، إلا أنَّ الظلمَ والفسادَ غَاشٍ عليها، فمَا بَين الشرقِ والغرب شَقِيَت أممٌ في حضاراتِها، وظلَمَ الإنسانُ فيها أخاه الإنسان واستعبَدَه وسلَبَ حرّيتَه وجعله عبدًا للأسياد، تارةً باسم الدين، وتارة باسم الآلهةِ، وتارة بقوّة الحديد والنار، مع حروب جائرةٍ بين جيوشٍ هائلة منظّمة، تطحَن الأرواحَ وتبيد الآلافَ وتهلك الحرثَ والنّسل؛ لأنَّ الإنسانَ تَاهَ عن شِرعةِ السماءِ، ففي اللَّحظةِ التي سبَقَت بعثةَ محمّدٍ كانَتِ الأممُ قد تدلَّت إلى قاعٍ لا تستقيمُ معه حياةٌ.

وبالجملةِ فلم تكن على ظهرِ الأرض أمّةٌ صالحة المزاج، ولا مجتمع قائِمٌ على أساسِ الأخلاق والفضيلة، ولا دولة مؤسَّسة على العدلِ والرحمة، ولا دينٌ صحيح مَأثور عن الأنبياءِ - إلا بقايا من نورٍ خافت ضعيفٍ منزويًا في ديرٍ أو كنيسةٍ، لا يخترق الظلامَ ولا ينير السبيل. عالمٌ مفكَّك، وقبائل متناحرَة، وشعوبٌ مستعبَدَة، ومواهبُ ضائِعَة، وبِلاد تتسكَّع في الجهل والضلالات، تائهةً في بحارٍ من الظلم والظلُمات.

أيّها المسلِمون: وحين أذِنَ الله - تعالى -بِبُزُوغ نورِ الفجر وانبِلاجِ الصبَاح وأن يملأَ الأرضَ عدلا ونورًا ابتَعَثَ من خيرةِ خَلقِه من يقوم بهذه المهمّة وينقِذ البشريّةَ ويهدي الإنسانيّة، وكما قال -سبحانه-: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) [القصص: 5، 6].

فقد أكرَمَ الله - تعالى -هذه الأمّةَ العربيّة ورفع شأنها وأعلى شأوَها، بل كانت المِنّة على سائر البشريّة بِبِعثة سيّد البرية محمّد بن عبد الله رسولِ الله وخاتمِ أنبيائه، وأنزل عليه القرآنَ، وجعل رسالته الإسلامَ، وجعلها رسالة أتباعِه، وشرَّف العربَ بحملِ هذه الرسالة، ولم يكن للعرب رسالةٌ قبلها.

ولقد عَلِم الله -تعالى- أنَّ الأمَمَ المتحضِّرة في ذلكَ الزمانِ كفارس والرّومان لا تستطيع -بسبَبِ حياتها المصطَنَعة المترَفَة- أن تعرِّض نفسَها للخَطَر، ولا أن تتحمَّلَ المتاعبَ والمصاعِب في سبيلِ الدَّعوة والجهادِ وخِدمة الإنسانيّة البائسَة، ولن تُضحِّيَ بحظوظِها وشَهَواتها ولذَّاتها وزَخَارفها لأجلِ هذا الدين، فضلاً عن التضحيةِ بالنَّفس والأهل والأوطان والأرواحِ والمهَج، فاختار الله - تعالى -لرسالةِ الإسلام وصُحبة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أمّةً تضطلِع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوَى على التَّضحية والإيثَارِ، تِلكَ هيَ الأمّة العربيّة القويّة السليمة التي لم تَبتَلعها المدنية ولم ينخَرها البذَخُ والترف، أولئك أصحابُ محمّد، أبرُّ الناس قلوبًا وأعمقهم علمًا وأقلُّهم تكلُّفًا.

لقد ربَّى النبيّ نفوسَهم بالإيمان، وغذّى أرواحهم بالقرآن، وأخضَعَهم للهِ ربِّ العالمين بالصلاةِ والطّهارة والإسلامِ والاستسلام، وكانت مجالس النبيِّ تزيدهم رُسوخًا في الدين وعُزوفًا عن الشهواتِ وتفانيًا في مرضاتِ ربِّ الأرض والسموات، حِرصًا على العلم وفقهًا في الدين ومحاسبة للنفس وطاعةً للرسول في المنشَط والمكرَه، ينفرون في سبيل الله خِفافًا وثقالاً، ويبذلون له مُهجًا وأموالاً، فهانت عليهم الدنيا، وجاهَدَهم الرسول جهادَه الأوّل، فلمّا زكَت نفوسهم لم يحتَاجُوا إلى جهادٍ جديد لكلِّ أمرٍ ونهي، ودخلوا في السِّلم كافَة بقلوبهم وعقولهم وجوارحِهم وأرواحِهم، فلا يُشاقّون الرسولَ من بعدما تبيَّنَ لهم الهدى، ولا يجِدون في أنفسِهم حرجًا مما قضَى، ولا يكونُ لهم الخِيَرَةُ إذا أمر أو نهى.

أحبّوا النبيَّ وصارَحوه وفدَوه كما فدَوا دينَه بأرواحهم ومُهَجهم، حتى إذا ضَعُف حظُّ الشيطان في نفوسهم، بل تضاءَل حظُّ نفوسهم في نفوسِهم، وأصبحوا في الدنيا رجالَ الآخرة؛ لا تُجزِعُهم مصيبةٌ ولا تُبطِرُهم نعمةٌ ولا تلهيهِم تجارة ولا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وأصبحوا للناس القِسطاسَ المستقيم؛ قوَّامين لله شهداءَ بالقسط ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، عند ذلك وطَّأ الله لهم أكنافَ الأرضِ، وأصبحوا دعاةً للدين شهودًا على الناس حملةً أُمناءَ لمشاعل النّور والهدَى التي تضيء ظلامَ الأرض. لقد أدرك رسول الله هذا العالَمَ وهو ضائع هالِك، وأخذ بيده وهو تائه متهالكٌ، فأحياه بإذن الله، وجعل له نورًا يمشي به في الناس، وعلَّمه الكتاب والحكمةَ وزكّاه، فأصبَحَ سَفيرَ الإسلام ورَسولَ الأمن والسّلام ورائد العِلم والحكمة، كان غَوثًا للأمم وغَيثًا للعالم. ولولا محمّدٌ لما كان للعالَم العربيِّ ذِكرٌ ولا وَزن ولا تَاريخ أو حضارة.

لقد كان العَالَم كلُّه بحاجة ماسّة إلى رسالةِ هذه الأمّة، وكانت هي الأمةَ الوحيدة المهيَّأة لحمل هذه الرسالة، ولديها الاستعدادُ لتركِ شَهَواتها والتضحيةِ بمُهَجها لنشرِ هذا النورِ، في وقتٍ كانت الحَضاراتُ الأخرَى ترزحُ تحت نيرِ الظّلمِ والاستِبداد والتِيهِ والفساد.

ولقَد قامَت هذه الأمّة برسالتها خيرَ قِيام؛ فنشرُوا الهدى والضياءَ والنورَ والسَّناء، وأصبحوا في الأرض قادة وعلى الأمم سادَةً، وأظهروا الحقَّ والعدل، ونشَروا رِداءَ الأمن، وفَرَشوا بِساط السعادة، وعمَّ هذا الخير شعوبَ الأرض، وشملت هذه الرسالة بأكنافِها وأعطافها سائرَ الإنسان على اختلافِ الألسُن والأديان. وكان الخير هو السَّائد حين كانت القيادةُ بهذه الأمة المحمّديّة التي ابتعَثَها الله للناس كمَا ابتعَثَ نبيَّها، لقد كانت البعثة للنبيِّ ولأمَّته كما قال - تعالى -لنبيِّه محمّدٍ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب: 45، 46]، وقال لَه أيضًا: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) [يوسف: 108]، فقد قال لهذه الأمة المبتَعَثَة: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].

لقد عمَّ الخير أرجاءَ الأرض، لا بالصنائع والمختَرَعات، ولا بالتسلُّط والسياسات، وإنمَا بهديِ الإسلام ومبادئِ الإسلام، وهذه هي رسالة النبيِّ ورِسالةُ أتباعِه؛ تبليغُ الدين ونشرُه والدعوة إليه وامتِثال القدوةِ في تطبيقِهِ.

أيّها المسلِمون: ولقد فهِم الصحبُ الأخيار هذه المكانةَ، واستوعبوا هذا القَدر، فقال الخليفة الراشِدُ عمر بن الخطاب: "نحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، مَهمَا ابتَغَينا العِزَّة بغيره أذلَّنا الله".

ولما وقف العملاقُ رِبعِيِّ بن عامر أمامَ قائِد الفرس الذي كانَ في كامِل أُبَّهَتِه وزينتِه وقَفَ رِبعيّ بثيابِه المرقَّعَة وقفةَ عزٍّ وشموخ وقال بكبرياءِ المسلم: "إنَّ الله ابتَعَثَنا لنخرج من شاء من عبادةِ العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيقِ الدّنيا إلى سَعة الآخرةِ". نعم، لقد قال: "إنَّ الله ابتَعَثَنا"، ولم يقل: إنَّا خَرجنا أو نهَضنَا، إنها ذات الرسالة التي قال الله عنها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

فلمَّا قاموا بمُهِمَّتهم أزهرتِ الحياة واطمَأنَّ العالم وازدهرت الحضارة، ولقد شهِد الأعداء قبل الأصدقاءِ أن الإسلام وأنَّ المسلِمين الأوائلَ لهم الفضلُ الكبيرُ على كلِّ خير عاشَته بقيّةُ الأمم حتى التي لم تدخلِ الإسلام، وأنَّ أسعدَ القرونِ يومَ كانت القيادةُ بيدِ الإسلام.

عبادَ الله: حتى إذا استرخَت قبضةُ الأمة على دينِها دبَّ إليها الضعف، وجرت عليها سنّة الله التي لا تحابي أحدًا، فتنحَّت عن القيادة واعتزلت عن الرِّيادة، وصارَ العالمُ اليومَ تقودُه المادَّة وتحكُمه المادّة، في تجرّدٍ من التعاليم الروحيّة والفضائل الخلُقِيّة والمبادئِ الإنسانيّة في كثيرٍ من مناحيه، فأصبَحت لا تؤمِن في الحياةِ الشخصيّة إلا باللّذّة والمنفَعَة المادّية ولو عَلَى حسابِ الأمَمِ والشعوب، ولا تؤمِنُ في الحياةِ السياسيّة إلاّ بالقوَّة والغلَبَة ولو على حسابِ المبادئ والقِيَم.

لقد شغلَتِ الحياةَ بالآلاتِ واستهانَت بالغاياتِ، ومع إمعانها في المادّيّات وقوَّتها الهائِلةِ مع فُقدان الوازِع الدينيّ والحاجز الخلقيّ أصبحت فيلاً هائجًا يدوسُ الضعيف ويهلك الحرثَ والنّسل. وبنظرةٍ خاطِفَة سريعةٍ إلى تاريخِ القرون الأخيرةِ والذي تسنَّمت فيه المادّة القيادةَ بعيدًا عن الإسلام يهولُك الدمار والفوضى التي عاثَت في العالم، فعدد قتلى الحربِ العالميّة الأولى تجاوَزَ سبعةَ ملايين وعشرين مليون مصاب، وقتلى الحرب العالمية الثانيّة ومصابيهم تجاوز خمسين مليونًا، وحروبٌ أخرى كلّفت مئات الآلاف من القتلى وخرابَ الديار.

وانظُر حالَ البِلاد المضطَرِبَة اليوم والتي زُرِعَت فيها الديمقراطيةُ بقوانينِ اليُوم، بينما لم يتجاوزِ القتلى منذ بِعثَةِ النبيِّ إلى وفاتِه ألفَ شخصٍ، رُبعهم من المسلمين، وكانت كلُّها خيرًا.

لقد عجزت الحضارةُ المادية اليوم عن إسعادِ البشرية، وبالرغم من التطوُّر المادّيّ والتقني الهائل إلا أن الأرضَ اليومَ تعيش أبأس أيامها وأحلَكَ ظروفها وأخطرَ مراحلها. فأين أصحابُ الحضارة وصُنَّاع القرار؟! وما موقف الأقوياء؟! وأين المتنفِّذون؟!

إنَّ تلك الحضارةَ وتلك القوى لم تكن كفيلةً ولا أهلاً لصلاح العالم ولا إسعاده، إن لم تكن هي السبب في خرابِه وشقائه، مراجِلُ تغلي، ومواجِع تدمي، حروبٌ تُهيَّأ وتُعَدّ، ونيران تُذكَى وتوقَد، وأبوابُ شرٍّ تفتَح ولا تسدّ، ولقد سلَفَت قرونٌ ثم تلَتها قرون قامَت فيها أمَمٌ بحضارَة وقوّة ونفوذٍ وفُتوَّة لم تزِدِ العالمَ إلاّ بؤسًا، ولم تحظَ الأرض بالأمن والرخاءِ والعدل والهناءِ إلاّ في ظلِّ الإسلام الوارف.

وها هو العالم اليومَ يعود خمسةَ عشرَ قرنًا إلى الوراء، ولن يشفيَ هذا الداءَ إلا ذلك الدواء، إنه الدواء الذي لا يستطيع تقديمَه إلا نور الوحي الإلهي.

إنَّ العالَم لم يضطرِب إلاّ حين تخلَّى المسلمون عن القيادةِ، وإنَّ حقًّا على المسلمين اليومَ أن يقوموا بواجِبِهم تجاهَ أمّتِهم والعالَم، وأن ينقذوا الناسَ من شقاءِ الدنيا ومن نارِ الآخرة بالإسلام وبالإسلام وحده، وأن يكونوا في موضِع الريادةِ ليكونوا أهلاً للقيادة، فإن لديهم ترياقَ الأمَم ومفتاح باب السعادة، وأن يحمِلوا رسالةَ نبيِّهم: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله - تعالى -لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله واهبِ النِّعَم دافِعِ النّقَم، أحمده - تعالى -على ما أسدَى وتكرَّم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعد:

أيّها المسلمون: إننا نعيش في هذا الزّمان تَكتُّلاتٍ اقتصاديّة وتحالُفات سياسيّة، وقد تنبَّهَت تجمّعاتٌ أمميّة إلى ضرورةِ الوحدة والائتلاف، فتجمَّعوا رغمَ خِلافَاتِهم وتحالفوا وتصالحوا رغم حروبٍ طاحنة دارَت رحاها بينهم، لكنَّ المصالحَ اليومَ تحتِّم الوحدةَ والاجتماع.

ونحن - يا أمّةَ الإسلام - أحقُّ بالتجمُّع والائتلاف ونبذِ الفرقة والاختلاف، فإنَّ هذه الأمة المسلمةَ تملك إرثًا تاريخيًا وحضاريًا في الاتحادِ والاجتماع وتركِ النزاع، وتملك من مقوِّماتِ الوحدةِ أكثرَ من غَيرها، ولقد جرَّبت طُرقًا تائهة وأنفاقًا مَسدودة وسُبُلاً مظلِمَة، ولم تنجح في ذهابها، ولم ترشُد في إيابها.

إنَّ الصراعَ بين الأمَمِ اليومَ ليس صراعَ مغالبةٍ فحسب، بل هو صراعُ بقاء أو فناءٍ، أن تكون أو لا تكون، في زمن عولمة الفكرِ والثقافة قبل عولمة الاقتصاد والسياسة، في زمن هيمَنَة القوى وفرض الرأيِ بالقوّة. إنَّ على أمة الإسلام اليومَ أن تسعى بكلِّ صدقٍ وإخلاص إلى التمسُّك بأسباب بقائها كأمّة لا كأفراد، وأن تعود إلى سبب ريادتها وإلى ذاتِ رسالتها، وأن تجتمع على ذلك.

وإنَّ ما شهِدَته أرضُ الحرمَين الشريفين قبل أيّامٍ مِنِ اجتماعٍ للقادَة والدّعواتِ الصادقة التي نادَى بها خادِمُ الحرمَين الشريفين لهي خطوة رائِدة في الطريق الصحيح، وبداية في الاتِّجاه السليم، ومُكاشفة صريحة يجب على كلِّ مخلصٍ أن يعضُدَها، ولْتكن نواةً تؤسَّس عليها الإرادات والقرارات. لقد آن للمصلحةِ العامّة أن تغلَّب على المصلحة الخاصّة، وللإيثار أن يغلَّب على الأثَرَة. وإنَّ في الشعوبِ المسلِمة خيرًا كثيرًا، وهي سريعةُ الاستجابة قابلةٌ للتوجيه، فطرةُ التديُّن في نفوسِهم حيّة، والإرادَة في عزائمهم فتِيَّة، فليبارِكِ الله الجهودَ المخلِصة.

ثم اعلموا -رحمكم الله- أنَّ الله - تعالى -قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خيرِ خلقِه وأشرفِ رسله.

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
 

 

 

  

المرفقات
ترياق الأمم.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life