عناصر الخطبة
1/اشتغال كثير من الناس بما لا ينفعهم 2/مفاسد انشغال المرء بما لا يعنيه 3/من مظاهر الانشغال بما لا ينفعاقتباس
إن أعظمَ ما يُورثُه انشغالُ الإنسانِ بما لا ينفعُه هو التقصيرُ في عِلاقَتِه مع ربِّه، فلا تَسَلْ عن الكَسَلِ عن الطاعةِ حينما نَرى السَّيْلَ الكبيرَ مِن القِرَاءةِ في شَبَكَةِ التواصُلِ الاجتماعيِّ، والمتابعةَ المستمرةَ للقنواتِ الإخباريةِ وغيرِها، ولا نجدُ وقتًا لقراءةِ القرآنِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستَعينُه ونستغفِرُه، ونَعوذُ باللهِ مِنْ شُرور أنفسِنا وسيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ لهُ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ مُحمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومَنْ سارَ على نهجِه، واقْتَفى أثَرَهُ إِلَى يومِ الدِّينِ، وسلَّم تسلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بعْدُ: فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: في غمرةِ الأحداثِ السياسيةِ، والتغيراتِ الاقتصاديةِ، وانبهارِ الناسِ في مُسْتَجَدَّاتِ العصرِ، وتَلاحُقِ المشكلاتِ الاجتماعيةِ، يَضِيعُ المرءُ بَيْنَ حاجاتِه وشؤونِه، وبَيْنَ قضايا مجتمعه وأُمته.
لقد وَجَد الكثيرُ منا نَفْسَه مُنشغلًا بأُمورٍ لا تَعْنِيه، وليست مِن اختصاصِه، فَتَارَةً مُفَكِّرًا في الاقتصادِ، وتَارَةً مُحَلِّلًا سِياسيًّا، وتَارَةً عَالما شَرعِيًّا، بينما في نفْسِه قضايا ومَشاكِلُ لم يَلْتَفِتْ لها، ولم تُؤَرِّقْ ضَمِيرَه، ولم تُحَرِّكْ فيه ساكنًا!.
فَلَعَلَّه يكون ضَعيفًا في صلاةِ الفجرِ، أو مُتكاسلًا في زيارةِ والديه، والقيامِ بِحَقِّهِما، أو مُضَيِّعًا لتَرْبِيَة أولادِه، والقِيامِ بِحَقِّ أَهْلِهِ، أو لَعَلَّهُ لم يَرُدَّ الأموالَ إلى أصحابِها، ولم يُفَكِّرْ في ترتيبِ سَدادِ دُيُونِهِ، وهذا -واللهِ- مِن أَعظمِ الابتلاءِ للمَرءِ أنْ يَصْرِفَه اللهُ إلى ما لا نَفْعَ فيه، أو يَشْغَلَهُ بما لا يُفيدُ عمَّا يجبُ عليه.
كَمْ هو عجيبٌ أن تنتقدَ سُلوكًا اجتماعيًّا في مَجَالِسِكَ، وعَبْرَ شَبَكَةِ التَّوَاصُلِ الاجتماعيِّ وأنت غارِقٌ فيما هو أشدُّ، بل لَعَلَّكَ ممن وَقَعَ في هذا السُّلوكِ، تَأَمَّلْ قولَ اللهِ -سبحانه وتعالى-: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)[البقرة: 44]، قال أبو الدَّرْدَاءِ: "لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَمْقُتَ النَّاسَ فِي ذَاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَهَا أَشَدَّ مَقْتًا"، أتأمرون الناسَ بطاعةِ اللهِ، وتترُكون أنفُسَكم تعصيه؟ فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناسَ مِن طاعةِ رَبِّكُم؟!.
إن الحاجةَ إلى تركيزِ الاهتمامِ فيما يَنفعُ قد ازدادَتْ، والضرورةَ إلى تَرْكِ ما لا يَعْنِي قد أَلَحَّت، ولا سِيَّمَا مع ضِيقِ الأوقاتِ، وصُعوبَةِ الموازَنَةِ بين الأعمالِ، واشتغالِ كثيرٍ مِن الناسِ بما لا يَعْنِيهِم، ولا يُفِيدُهم، وما دام جانِبُ التَّخْلِيَةِ مُقَدَّمًا على جانبِ التَّحْلِيَةِ، فإنَّ العبدَ بحاجةٍ قَبْلَ أن يشتغلَ بما يَعْنِيهِ إلى تَرْكِ ما لا يَعْنِيه، وإنه إذا فَعَلَ ذلك، وانتصرَ على نفسِه؛ حَسُنَ إسلامُه، وكَمُلَ إيمانُه، وصَحَّ التزامُه، ووُفِّقَ إلى الاشتغالِ بما ينفعُه.
وقد أَرْشَدَنَا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا الأدبِ القَوِيمِ فيما رواه التِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَه وابنُ حِبَّانَ وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ"(أخرجه الترمذي وابن ماجه).
وهذا الحديثُ -عِبادَ اللهِ- أَصْلٌ عظيمٌ مِن أُصُولِ تأديبِ النفْسِ وتَزْكِيَتِها؛ ولذا كان له شأنٌ عظيمٌ عندَ أهلِ العِلمِ، حيثُ تعددت كلماتُهم في بيان مَنزلتِه، وتَنَوَّعَت عِباراتُهم في تِبْيانِ مَكانَتِه، حتى عَدَّهُ بعضُهم ثُلُثَ الإسلامِ، وأشارَ بعضُهم إلى أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- جَمَعَ فيه الورَع كُلَّه، وقال بعضُهم عنه: "إنه أصلٌ عظيمٌ مِن أُصولِ الأدبِ".
قال الحسن البصري -رحمه الله-: "مِنْ عَلَامَةِ إِعْرَاضِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِهِ أَنْ يَجْعَلَ شُغْلَهُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ"، وقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: "ثَلَاثٌ مِنْ الشَّقَاءِ: أَنْ يَجِدَ الرَّجُلُ عَلَى أَخِيهِ فِيمَا يَأْتِي، أَوْ يَذْكُرَ مِنْ أَخِيهِ مَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ، أَوْ يُؤْذِيَ جَلِيسَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ"، وقال الإمام مالك -رحمه الله-: "لَا يَصْلُحُ الرَّجُلُ حَتَّى يَتْرُكَ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَشْتَغِلُ بِمَا يَعْنِيهِ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قَلْبُهُ".
إنك لتَعجبُ مِن رَجُلٍ يَنظُرُ ويكتبُ، بل ويَحُلُّ المشاكلَ الأُسَرِيَّةَ وفي بَيْتِه مِن التقصيرِ والإهمالِ ما لا يُحصِيه إلا اللهُ، وتَعجبُ ممن يتكلمُ عن الكلامِ الطَّيِّبِ، وحُسنِ القولِ، وإذا تتبعتَ ألفاظَه مع أولادِه وأهلِه وزُملائِه، وجدتَ لفظًا غليظًا.
إن الخللَ الحقيقيَّ في ذلك قد لا يكون سُوءَ طَوِيَّةٍ، ولا إصرارًا على الباطلِ، كَلَّا؛ وإنما الخَلَلُ هو أنه اشتغلَ بما لا يَعْنِيه، فَفَاتَهُ ما يَعْنِيه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "أنفعُ الدَّوَاءِ أَن تَشْغَلَ نَفسك بالفِكرِ فِيمَا يَعْنِيك، دُونَ مَا لا يَعْنِيك، فالفِكرٌ فِيمَا لَا يَعْنِي بَابُ كُلِّ شَرٍّ، وَمن فكَّر فِيمَا لَا يَعْنِيه فَاتَهُ مَا يَعْنِيه، واشتغل عَن أَنْفَع الْأَشْيَاء لَهُ بِمَا لَا مَنْفَعَة لَهُ فِيهِ، فالفِكرُ والخواطرُ والإرادةُ والهِمَّةُ أَحَقُّ شَيْءٍ بإصلاحِه مِن نَفسِك، فَإِن هَذِه خاصَّتُك وحقيقتُك الَّتِي تبتعدُ بهَا، أَو تَقْرُبُ مِن إِلَهِكَ ومَعبودِك الَّذِي لَا سَعَادَة لَك إِلَّا فِي قُرْبِه وَرضَاهُ عَنْك، وكُلُّ الشَّقَاء فِي بُعْدِك عَنهُ، وَسُخْطِه عَلَيْك، وَمَن كَانَ فِي خواطِره ومَجَالاتِ فِكرِه دَنيئًا خَسِيسًا، لم يكن فِي سَائِر أمرِه إِلَّا كَذَلِك.
وَإِيَّاك أَن تُمكِّنَ الشَّيْطَانَ مِن بَيتِ أفكارِك وإرادَتِك؛ فَإِنَّهُ يُفْسِدهَا عَلَيْك فَسَادًا يَصْعُبَ تَدَارُكه، ويُلقِي إِلَيْك أَنْوَاعَ الوَسَاوِسِ، والأفكارِ المضِرَّة، ويَحُولُ بَيْنَك وَبَين الْفِكْرِ فِيمَا ينفعُك، وَأَنت الَّذِي أَعَنْتَهُ على نَفسِك بِتَمْكِينِه مِن قَلْبِك وخواطِرك، فَمَلَكَها عَلَيْك، فَمِثَالُك مَعَه مِثَالُ صَاحِبِ رَحًى يَطْحَنُ فِيهَا جَيِّدَ الْحُبُوبِ، فَأَتَاهُ شخصٌ مَعَه حِمْلُ تُرَابٍ وبَعْرٍ وفَحْمٍ وغُثَاءٍ لِيَطْحَنَه فِي طاحونَتِه، فَإِنْ طَرَدَهُ، وَلم يُمَكِّنْهُ مِن إِلْقَاءِ مَا مَعَه فِي الطاحونِ اسْتمرَّ على طَحْنِ مَا يَنْفَعهُ، وَإِنْ مَكَّنَهُ فِي إِلْقَاءِ ذَلِك فِي الطاحونِ أَفْسَدَ مَا فِيهَا مِن الْحبِّ، وَخَرَجَ الطَّحِينُ كُلُّه فَاسِدًا"(الفوائد لابن القيم).
دخل رَجُلٌ على داودَ الطائيِّ زائرًا، فَقَالَ: إِنَّ فِي سَقْفِ بَيْتِكَ جِذْعًا قَدِ انْكَسَرَ، فَقَالَ لَهُ: "يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي فِي هَذَا الْبَيْتِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا نَظَرْتُ إِلَى السَّقْفِ!".
بَاركَ اللهُ لي ولَكُم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، أقولُ ما سمِعْتُم، وأَستغفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولَكُم ولِسائر المسلمين مِن كُلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاسْتغفِرُوه وتُوبوا إليْهِ؛ إنَّه هو الغفور الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهَدُ أن لا إله إلا اللهُ تعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:
مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: إن المتأملَ في واقِعِنا يجدُ كثيرًا منا قد شَطَحَ عن هذا الخُلقِ العظيمِ الذي هو أصلٌ مِن أُصولِ الإسلامِ، فلو سألنا أنفُسَنا: ما هي الدائرةُ التي أدورُ فيها فيما يَعْنِيني فقط؟ لَـمَا وجدتَ جوابًا حاضرًا؛ لأنه لا يوجدُ محيطٌ للدائرةِ أصلًا.
وليس الأمرُ في الخوضِ فقط، بل إننا نعتقدُ أننا نُحْسِنُ كُلَّ شيءٍ، ونستطيعُ أن نَخوضَ فيه بِمُجَرَّدِ سماعِ تقريرٍ أو قراءةِ مَقالٍ، أو قراءةِ تَغْرِيدَةٍ، أو حُضورِ نِقاشٍ، بل ولا يتوقفُ الأمرُ عند ذلك، بل إننا نحرصُ على أن نتكلمَ في كُلِّ شيءٍ إلا فيما ينفعُنا.
لِنَسْتَمِعْ إلى التوجيهِ المحمديِّ الذي لا يَنْطِقُ عن الهَوى، إنْ هو إلا وَحْيٌ يُوحَى، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ"(رواه مسلم)، أي: استعمِلِ الحرصَ والاجتهادَ في تحصيلِ ما تنتفع به في أمرِ دِينِك ودُنياكَ، التي تستعينُ بها على صِيانة دِينِك، وصِيانَةِ عِيالِك، ومَكَارِم أخلاقِك، ولا تُقَصِّرْ في طلبِ ذلك، وتأمل قوله: "وَلَا تَعْجِزْ"، فإن النفسَ تَعْجِزُ في تحصيلِ ما ينفعُها، لكنها قد لا تَعْجِزُ في تحصيلِ ما يَضُرُّها، كما هو الواقعُ؛ ولهذا قال: "وَاسْتَعِنْ بِاللهِ".
إن أعظمَ ما يُورثُه انشغالُ الإنسانِ بما لا ينفعُه هو التقصيرُ في عِلاقَتِه مع ربِّه، فلا تَسَلْ عن الكَسَلِ عن الطاعةِ حينما نَرى السَّيْلَ الكبيرَ مِن القِرَاءةِ في شَبَكَةِ التواصُلِ الاجتماعيِّ، والمتابعةَ المستمرةَ للقنواتِ الإخباريةِ وغيرِها، ولا نجدُ وقتًا لقراءةِ القرآنِ، فإننا -وبدُونِ شَكٍّ- نُعاني مِن أَزْمَةِ الانشغالِ بما لا يَعْنِي، فإن الخيرَ لا يأتي إلا بخيرٍ.
حينما نجلسُ مِثلَ هذا الوقتِ، وننشغلُ عن أذكارِ الصباحِ والمساءِ، فنحن نُعاني مِن هذه الأَزْمَةِ، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاد الجيوش وأصلح المجتمع، ومع ذلك: "كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ"(رواه البخاري)، و"يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ"(رواه البخاري).
فهذه دعوةٌ لأنفُسِنا لأن نُعيدَ ترتيبَ أَوْلَوِيَّاتِنا وأَوَّلِيَّاتِنا، ابدأْ بنفسِك، ثم بأُسرَتِك، ومِن حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعْنِيه.
ثمَّ صلُّوا وسلِّمُوا على رسولِ الْهُدَى، وإمام الورى؛ فقد أمركم ربُّكم فقال -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، وارْضَ اللهُمَّ عن الخلفاء الراشدين، وَالأئِمَّةِ المهْدِيِّين أَبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعليٍّ، وعنِ الصَّحابةِ أجْمَعين، وعنَّا معهم بعفْوِك وكَرَمِك يا أكرمَ الأكْرَمِين.
التعليقات