عناصر الخطبة
1/ أسلوب القصص في الوعظ من أساليب القرآن والسنة 2/ أهمية القصة في التربية 3/ أهداف القصة القرآنية 4/ عزوف كثير من المؤمنين عن سيرة الصحابة الأبرار 5/ مناقب خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد إسلامه 6/ ملخص حياة خالد بن الوليد ومناقبه 7/ دروس عظيمة من سيرة خالد 8/ فوائد وعبر من سِيَر المجاهدين الأبطالاهداف الخطبة
اقتباس
نتعلم من سيرة خالد بن الوليد رضي الله عنه درسًا عظيمًا، ألا وهو أن الموت قدر محدد وليس للمرء مفر منه، فها هو خالد بن الوليد يبحث عن الموت في مظانه طالبًا للشهادة متعرضًا لها، ثم يموت على فراشه، والظن والرجاء أنه نال درجة الشهادة على حد ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف مرفوعًا: «من سأل الشهادة بصدقٍ بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه» ..
أما بعد:
معاشر المسلمين: إن أسلوب القصص في الوعظ من أساليب القرآن والسنة، ولها تأثير في النفوس عظيم، بل ربما عملت في النفس ما لم تعمل الخطب الرنانة والمواعظ البليغة، وفي كل خير، قال ابن عبد البر –رحمه الله-: "قال بعض السلف: الحكايات جند من جنود الله تعالى، يثبت الله بها قلوب أوليائه".
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 120]، ومن درَس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم علم يقينًا حرص النبي صلى الله عليه وسلم في عرض القصص على صحابته؛ لما لها من التأثير العظيم في رفع الهمم وإزالتها الوهن.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقص على الناس امتثالاً لأمر ربه قال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 76]، فالله سبحانه يقص على نبيه وعلى المؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقص كذلك، والعلماء يقصون كذلك، ولكن لا تنفع هذه القصص إلا من كان متهيئًا لها بقلب سليم: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43]، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
عباد الله: من لم يكن له سلف صالح يحذو حذوهم ويقفو خطاهم، وينهل من معينهم فقد باء بالخذلان، وإن مما يفخر به جيل المؤمنين بتلك النجوم السامقة في حقب التاريخ الماضية، وإن مما يؤسف عزوف كثير من المؤمنين عن سيرة أولئك الأبرار؛ ولهذا نشأ عندنا جيل ضاعت قيمته وأخلاقه بل ضاعت مبادؤه وأصول دينه، والله المستعان.
في هذه الخطبة المباركة نعرض العلم من أعلام صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذين هم أمنة لهذه الأمة، إن هذا العلم أنموذج قلّ وجوده، بل عجزت النساء أن تلد مثله، وكيف تلد النساء مثل من تخرج من المدرسة النبوية التي تسير على الوحي الرباني.
لقد تجلى هذا العلم الجليل بصفات ينبغي لكل مسلم أن يتحلى بها، خصوصًا في هذه الأيام، صفات ينبغي لكل مسلم أن يغرسها في نفسه ونفوس أولاده، فيا ترى من يكون ذلك العلم؟
إنه خالد بن الوليد، الصحابي الجليل الشهيد سيف الله المسلول، وفارس الإسلام وليث المشاهد، السيد الإمام الأمير الكبير قائد المجاهدين، أبو سليمان القرشي المخزومي المكي، رضي الله تعالى عنه.
هاجر سلمًا في صفر سنة ثمان، ثم سار غازيًا في سبيل الله، فلا تسل ما سطر له التأريخ من المفاخر والشجاعة والبسالة كان من أول مناقبه رضي الله عنه بعد إسلامه أن استنقذ جيش المسلمين من أيدي الكفار بعدما كادوا يهلكوا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل جيشًا لقتال الروم في غزوة مؤتة، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب، قال قتادة –رحمه الله-: مشى خالد إلى العزى فكسر أنفها بالفأس.
ومن مناقبه رضي الله عنه أنه لا يحضر قتالاً إلا أبلى فيه بلاء حسنًا، ومن ذلك يوم حنين حتى جرح فيه جروحًا كثيرة، قال عبد الرحمن بن أزهر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس يسأل عن رِجْل خالد، فدل عليه فنظر جرحه وحسبت أنه نفث فيه.
اللهم ارض عن خالد بن الوليد وسائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون: إذا استشعر المؤمن الأجر في أداء عمله وعبادته، هانت دونه الصعاب، وذاق لذة العبادة وحلاوة الطاعة، وكان في فعله وسمته قدوة للناس أجمعين. هذه الصفات قد ارتسمت جليلة في صحابينا الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه.
اسمع إلى الإمام الذهبي كيف يلخص لنا حياته ومناقبه بقوله: شهد غزوة مؤتة وشهد فتح مكة وحنينا، وتأمّر في أيام أبي بكر رضي الله عنه واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة، وغزا العراق واستظهر ثم اخترق البرية السماوية بحيث إنه قطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وشهد حروب الشام ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء ومناقبه غزيرة، أمَّره الصديق على سائر الأجناد، وحاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة رضي الله عنهما، عاش ستين سنة، وقتل جماعة من الأبطال، ومات على فراشه فلا قرت أعين الجبناء.
قال عبد الملك بن أبي بكر: أخبرني من غسله بحمص، ونظر إلى ما تحت ثيابه قال: ما فيه موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم.
عباد الله: عندما يكون للمسلم هدف نبيل، ومطلب عزيز، فإن الآلام والجروح فيه تتحول إلى لذة وفرح، فتكون مصائبه أفراحًا.
إنا لنتعلم من سيرة خالد بن الوليد رضي الله عنه درسًا عظيمًا، ألا وهو أن الموت قدر محدد وليس للمرء مفر منه، فها هو خالد بن الوليد يبحث عن الموت في مظانه طالبًا للشهادة متعرضًا لها، ثم يموت على فراشه، والظن والرجاء أنه نال درجة الشهادة على حد ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث سهل بن حنيف مرفوعًا: «من سأل الشهادة بصدقٍ بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه».
ولما احتضر خالد بن الوليد بكى، وقال: لقيت كذا وكذا زحفًا وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
هكذا حال المخلص المحتسب فهو يتقلب في نعيم الطاعة ولذة العبادة، أيما قدر أصابه فهو مأجور، قال خالد بن الوليد: ما أدري من أي يومي أفر، يوم أراد الله يهديني إليه فيه شهادة، أو يوم أراد الله أن يهدي لي فيه كرامة.
وكأن هذه المقالة من هذا البطل الهمام جواب لمن سأله: كيف لا تفر إذا لاقيت عدوك؟
معاشر المؤمنين: إن من غطت الدنيا على قلبه بشهواتها، وغرست فيه مخالبها كانت أدنى شهوة دنيوية تفوت عليه كثيرًا أمن الطاعات.
بل كانت ألذ من كل شهوة دنيوية، كيف لا وهو يخطب الجنة ويدفع مهرها في دار الغرور، يتضح ذلك جليًا من مقالة البطل الشجاع خالد بن الوليد، قال رضي الله عنه.
ما من ليلة يهدى إليَّ فيها عروس أنا له محبّ أو أُبشر فيها بغلام، أحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية أصبِّح فيها العدو، وقال: ما من عملي شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتها وأنا متترس، السماء تهلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار.
الله أكبر، فتش نفسك عبد الله هل تجد فيها مثل هذا:
لا تعرض لذكرنا في ذكرهم *** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
إن هذه المشاعر كانت عامرة قلوب المجاهدين كلهم، فهم يسيرون في الدنيا والجنة تمايل أمام أعينهم لا يحيدون عنها طرفة عين.
ولما أرسل خالد بن الوليد رسالة إلى الفرس قال فيها: إن معي جندًا يحبون الموت كما تحب الفرس الخمر.
وصدق الشاعر:
خلق الله للحروب رجالا *** ورجالا لقصعة وثريد
معاشر المؤمنين: لقد كان خالد مُوَفّقًا حتى قيل عنه: لم يهزم جيش فيه خالد بن الوليد لا في جاهلية ولا في إسلام.
بل لقد ذاع صيته عند أعدائه حتى كانوا يظنون أن مع خالد سيفًا نزل من السماء فبه ينصرون، ولما اشتهر أمر خالد ونصره في الحروب حتى ظن البعض أن الله ينصر جيشه من أجل خالد، عزله عمر بن الخطاب رضي الله وقال: لأنزعن خالدًا حتى يعلم أن الله إنما ينصر دينه، يعني بغير خالد.
ولم يكن عزله عن الإمرة سببًا في ترك الجهاد، بل واصل قتال المشركين، ورابط بحمص وأوقف سلاحه وأدرعه وخيله في سبيل الله.
معاشر المسلمين: إن سير المجاهدين الأبطال لا تمل، ولكن لا يبلغ العبد درجة المجاهدين هذه حتى يبدأ بنفسه فيجاهد ويطهرها من دنسها، فلنعد جميعًا إلى نفوسنا ولنخرج منها دغل الشيطان ونربيها على الطاعة حتى إذا دعا داعي الجهاد طارت النفوس قبل الأبدان.
التعليقات