اقتباس
ترامب كان الرئيس الأمريكي الكاشح الذي لا يداري ولا يماري من اليوم الأول لترشحه، وليس لولايته فقط، من اليوم الأول وهو يعلن عداوته للإسلام والمسلمين، ويهدد بتصنيفهم في بطاقات الهوية، ويعلن عن خططه لمنع دخول المسلمين إلى أمريكا، ومراقبة الأمريكان المسلمين في منازلهم وأماكن عملهم ومساجدهم، ثم أعلن صراحة في خطاب التنصيب يوم 20 يناير الماضي أن...
من بين مئات القادة والفرسان الصليبيين الذين تنابوا على قيادة الحملات الصليبية على العالم الإسلامي يحظى الفارس الفرنسي " رينالد دي شاتيون " أو أرناط كما هو معروف في التاريخ الإسلامي، بمكانة خاصة وخلال متميزة جعلت أشهر فرسان الحملات الصليبية قاطبة.
والسر وراء تلك الشهرة يرجع إلى نفسية أرناط التي كانت تضطرم بروح صليبية عميقة تفيض كراهية وحقداً لا نظير له على الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي برمته؛ ديناً وثقافة وحضارة وشعوباً ومقدسات وشعائر، مع متناقضات أخرى قلما تجتمع في إنسان في مركز قيادي مؤثر.
فرينالد كان صاحب شخصية مركبة ومعقدة، ففي نفس الوقت الذي كان فيه متعصبا دينيا يكره المسلمين لحد الهوس، كان صاحب شخصية متلونة وأصولية لأقصى درجة، كما كان طماعاً شرهاً للمال بأي صورة، لا يتورع حتى عن الهجوم عن المقاطعات البيزنطية في آسيا الصغرى والأناضول، كما شارك بالهجوم على جزيرة قبرص التابعة للدولة البيزنطية سنة 1156م، إلا أن هذا الطمع والشره؛ قاده في النهاية لمصاعب وشدائد وأهوال.
وقد أدى تهور وحقد وغرور أرناط في النهاية إلى قيامه بأعمال جنونية غير مسبوقة عندما خطط لتحقيق سيادة الفرنج على البحر الأحمر تمهيدًا لطعن الإسلام في قلبه بغزو بلاد الحرمين، والهجوم على المدينة النبوية، ونبش القبر الشريف لاستخراج الجسد الطاهر لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم-، ونقله إلى فرنسا ودفنه هناك، بحيث لا يسمح للمسلمين بزيارته إلا بعد دفع رسوم كبيرة . كما قام بالهجوم على إحدى قوافل الحج فنهب أموالهم وقتلوهم جميعًا وكان الكلب الصليبي (أرناط) يذبح الحجيج بسيفه وهو يقول بأعلى صوته، وكان يحسن العربية –تعلمها في الأسر– كان يصيح: أين محمدكم؟ أين محمدكم؟ لو جاءني هنا لقتلته بسيفي! وسوف يعلم ذلك الكلب الحاقد عاقبة هذا الطيش والكفر.
وفي النهاية كانت أعمال وطموحات أرناط الصليبية الجنونية سبباً رئيسياً في قيام معركة حطين الخالدة التي كانت مقدمة فتح بيت المقدس، بعد أن أثار المسلمين بجنونه وفجاجته ووقاحته، وقد قتله صلاح الدين الأيوبي بيده انتقاماً لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجرؤ هذا العدو الكاشح عليه . وكان جنون أرناط وتهوره من أهم أسباب تحرير بيت المقدس وتضعضع الوجود الصليبي برمته في الشام.
ومنذ هذا التاريخ برز في سماء عداوة الإسلام والمسلمين الكثير من الشخصيات إلا إن أرناط كان متفرداً من بين هؤلاء جميعاً بالتركيبة المعقدة لنفسيته، والمتداخلة من الكثير من المتناقضات، من تدين وانحلال، وتعصب ووصولية، وأصولية وبرجماتية، حتى ظهرت شخصية الرئيس الأمريكي الجديد " ترامب " الذي يعتبر من أكثر الشخصيات شبها بأرناط الفرنسي.
ترامب والعالم الإسلامي:
على مدى العقود الماضية، دأبت الإدارات الأميركية المتعاقبة على تعريف، وإعادة تعريف العالم الإسلامي أو "الشرق الأوسط الجديد". فقد كان لكل إدارة رؤيتها، من "خطة روجرز" التي قدمتها إدارة جونسون إلى "خريطة كيسنجر" في عهد نيكسون، ثم اتفاقية "كامب دايفيد" برعاية كارتر، و"الأرض مقابل السلام" في زمن بوش الأب، فـ"حل الدولتين" الذي قدمه كلينتون، ثم "الفوضى الخلاقة" في عهد بوش الابن، وختاما "التسوية الكبرى" التي قدمها أوباما إلى إيران.
أما في زمن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، فلا رؤية للمنطقة ولا "شرق أوسط جديد"، بل نظام أمريكي جديد لم تشهد له الولايات المتحدة أو العالم مثيلا. الأمريكيون يحتارون كيف يتعاملون مع رئيس مختل ومهووس ومتعصب بشكل يشير إلى اختلال نفسي أو عقلي، إلى حد دعا بعض الكتاب الأميركيين إلى المطالبة بتفعيل مواد في الدستور تبطل رئاسة من تثبت عدم أهليته العقلية.
ترامب كان الرئيس الأمريكي الكاشح الذي لا يداري ولا يماري من اليوم الأول لترشحه، وليس لولايته فقط، من اليوم الأول وهو يعلن عداوته للإسلام والمسلمين، ويهدد بتصنيفهم في بطاقات الهوية، ويعلن عن خططه لمنع دخول المسلمين إلى أمريكا، ومراقبة الأمريكان المسلمين في منازلهم وأماكن عملهم ومساجدهم، ثم أعلن صراحة في خطاب التنصيب يوم 20 يناير الماضي أن هدفه الأول؛ محو الإسلام الراديكالي المتطرف من على وجه الأرض . واختار لأهم وأخطر المناصب الحساسة في إدارته شخصيات معروفة بكراهيتها للإسلام تحديداً وليس العالم الإسلامي مثل الجنرال مايكل فلين كمستشار للأمن القومي، والجنرال جميس ماتيس الملقب بالكلب المسعور وزيراً للدفاع، كما يوجد 11 يهودياً في إدارته، وذلك لأول مرة في تاريخ الرؤساء الأمريكان أن يتواجد مثل هذا العدد مرة واحدة، ومؤخراً شرع في تنفيذ تهديداته بإصدار قرار بمنع دخول مسلمي ست دول عربية مسلمة مع استثناء مسيحي هذه الدول من الدخول، وبالفعل تم اعتقال كل المهاجرين القادمين لأمريكا من هذه الدول المسلمة عقب وصولهم إلى مطارات أمريكا تمهيداً لردهم من حيث أتوا.
فورة ترامب بين الوهم والحقيقة:
من الأخبار اليومية الثابتة في الصحف الأمريكية ووسائل الإعلام العالمية؛ انتقاد خطاب ترامب ونبرته العنصرية ولغته البغيضة ضد غير المسلمين بمن فيهم المسلمين الأمريكان أنفسهم، في أكبر انقلاب على المبادئ والقيم الأمريكية الزائفة. ومعظم المقالات تنتقد سياسة ترامب وأنه يخالف النهج الأمريكي والإرث الأمريكي والديمقراطية الأمريكية والحلم الأمريكي إلى آخر هذه الترهات، متهمة ترامب بأنه صاحب شخصية متهورة ليست لها أية خبرات عسكرية أو ميدانية أو حتى قتالية، وليس له خبرة حتى في السياسة الأمريكية، مجرد رجل أعمال يركز علي أمور السمسرة الدولية والعقارات وانتهي نشاطه إلى بعض النشاطات الإعلامية، ولذلك فهو عديم الخبرة بالسياسة الأمريكية الخارجية أو أي سياسة لأي من بلدان العالم، ولذلك فتصريحاته لا تخرج عن كونها وسيلة مداعبة للناخب الأمريكي الذي يريد أن تصل إليه رسالة بأن أمريكا ستسود العالم وستصبح القوة العظمى الوحيدة في العالم.
ولكن رغم ذلك الحشد الإعلامي المضاد لترامب، فإن الحقيقة الواضحة: أن ترامب هو الوجه الحقيقي لأمريكا بلا مساحيق أو رتوش، وأنه تجسيد للجيل المؤسس لأمريكا بكل ما يحمله من سلبيات وتناقضات، وانتصاره الكاسح في الانتخابات أكبر دليل على أنه حقيقة وليس ظاهرة عارضة. والمراقبون للشأن الأمريكي بمستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، داخليا وخارجيا، خلال القرن الماضي، يرجعون فورة ترامب لعدة أمور من أبرزها:
تآكل العرق الأنجلوسكسون : فالديمغرافية الأمريكية تتغير بسرعة في غير صالح العرق المؤسس، وأمريكا المسيحية البيضاء تتحول إلى أقلية بصورة متسارعة ،وقد تترجمت هذه التحولات من خلال عمليتين انتخابيتين انتصر فيهما باراك أوباما، الأسود ذو الأصول الأفريقية والمسلمة.
والآن يشعر العرق الأنجلوسكسون بأنه قد حان وقت الرد. فشيء ظلامي وسيء يخرج من داخل الذاكرة الجمعية للعرق ممثلا في تأييد " ترامب"، حقد يخرج من عقول وقلوب السكان البيض والمحافظين الذين يشعرون بأنهم يفقدون السيطرة العليا على البلاد التي أسَسوها، فهم يعرفون بـأن في أمريكا الجديدة لا يمكن الانتصار دون أصوات "الهسبانيين"، من ذوي الأصول الإسبانية، ودون الأغلبية في أوساط النساء؛ يعرفون بأنه انقضت الأيام التي لا يمكن فيها إلا للرجال البيض القدامى والأغنياء أن يحسموا الصناديق في أمريكا متعددة الألوان، لما ظهر ترامب بخطاباته شديدة الفجة والمتكلمة بصوت عال بما يدور في صدور وعقول " الأنجلوسكسون" سارعوا إلى تأييده. وقد تم رصد ارتفاع في وتيرة الاعتداءات العنصرية والدينية ضد السود والمسلمين منذ فوز ترامب بالانتخابات.
الخوف المجتمعي: وهو خليط من الخوف الاقتصادي والخوف الطبقي والخوف المجهول، ففي الثلاثين سنة الأخيرة، أصبحت الرأسمالية الأمريكية تدوس بشكل غير مسبوق منذ نهاية القرن التاسع عشر، ممثلة في تركز الأموال المخيف في شرائح بعينها، والفجوات الاجتماعية أصبحت أكبر من أي فترة مضت، وتآكل الطبقة الوسطى يؤدي إلى تحطيم الحلم الأمريكي إلى شظايا،في ظل غياب الثقة في أن المستقبل سيكون أفضل من السابق، فقد تزعزع الاستقرار والتفاؤل الأمريكي.
فالظروف الاجتماعية هي التي دفعت الناخبين نحو دونالد ترامب بكل تهوره وجنونه ونزقه وشعوبيته هي نفسها التي أدت لظهور زعماء فاشيين مثل أدولف هتلر. وقد علق تشومسكي على تصاعد شعبية ترامب قائلاً أن سببه " الخوف إلى جانب انهيار المجتمع خلال حقبة الليبرالية الجديدة، حيث تشعر الناس بالانعزالية والعجز، فيقعون فريسة للقوى ذات النفوذ التي لا يفهمونها ولا يستطيعون التأثير عليها".
السر في " الشعبوية ":
في الوقت الذي يبدأ فيه ترامب ولايته، التي ترمي إلى إعادة صناعة الولايات المتحدة، فإنه يجبر علماء الاجتماع والمؤرّخين على البحث في ما هو أبعد من أدواتهم التحليلية، بهدف شرح رئاسته. ولكن في النهاية فوز ترامب هو ترسيخ لظاهرة أساسية اكتسحت عام 2016، وهي الشعبوية، أي تصاعد العداء للنخبة.
فقد فهِم ترامب أن هناك عدداً متنامياً من الأميركيين الذين لا يثقون بالعولمة، وقلقين من الالتزامات الأميركية في الخارج. هو أيضاً وعد بـ"قيادة ولايات متحدة أكثر انفصالاً عن العالم، وأكثر اهتماماً بمصالحها الخاصة، الأمر الذي لاقى صدى لدى المواطنين الأميركيين الذين لا يريدون قبول تحمّل العبء العالمي ثمنا للقيادة الأميركية للعالم.
والشعبوية تجتاح العالم وثمة موجة يمينية شعبوية تجتاح العالم، شرقا وغربا، وكان من الطبيعي جدا أن تمتد هذه الموجة النازية إلى أمريكا .ففي فرنسا برزت السياسية الفرنسية مارين لوبِن زعيمة حزب الجبهة القومية وفازت بـ25% في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهي الآن الوجه الأبرز في انتخابات الرئاسة المقبلة التي ستجري عام 2017 رُغم عدم انتمائها للأحزاب الكبرى التقليدية . وفي السويد نجح السويديون الديمقراطيون، وهو حزب اليمين المتطرف أيضًا، في دفع البرلمان السويدي لإعلان أول انتخابات مبكرة في الخمسين سنة الماضية ،وفي روسيا يقوم بوتين بتدشين خطاب قومي معادي ومتطرف، كما يدعم بالأموال حركات اليمين المتطرف في أوروبا نظرًا لوقوفها بوجه مشروع الاتحاد الأوروبي كما هو معروف. ولعل العلامة الأبرز على انبعاث الشعبوية الأمريكية التي أتت بترامب رئيساً هو صعود حركة الشاي في الولايات المتحدة التي ظهرت لأول مرة على الساحة السياسية الأمريكية عام 2009، وكانت مدفوعة بخطر انتصار أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وبالعداء الشديد لبرنامج الرعاية الصحية الذي دعا له، ولكن الحركة وسَّعت نطاق عملها واكتسبت زخما شعبيا وسياسيا كبيرا، وتستهدف الحركة الآن، ليس فقط الديمقراطيين، ولكن الجمهوريين الذين يعتقد أعضاء الحركة الأصوليون أنهم معتدلون بعض الشيء،كما حدث مع زعيم الأغلبية السيناتور " إريك كانتور "صاحب النفوذ الكبير الذي خسر الانتخابات الأولية في يونيو أمام منافس محافظ متطرف،ونظرًا لنجاحها في دفع الجمهوريين أكثر للتطرف والراديكالية وتمثل ذلك في احتشاد الجمهوريين خلف دونالد ترامب.
كل العوامل السابقة ساعدت على ظهور " ترامب " وانتصاره في سباق كان شبه محسوماً لخصمه . وترامب لم يأخذ السياسة الأمريكية إلى انحطاط غير مسبوق، وفقط، بل سوف يهدد كل ما كانت تمثله أمريكا وتدعيه وتروج له كمدافعة أولى عن الحريات وحقوق الإنسان، وقوة عظمى بلا منافس، وكل ما يجب أن تكون عليه المدينة الفاضلة، وكشف الوجه الحقيقي لأمريكا، وأخرج مكنونات صدور شرائح عريضة من الأمريكان، فأمريكا لم تعد تلك المدينة الفاضلة والحلم لكل إنسان التي تروج لنفسها فهي ليست أمة المؤسسة، وليست أمة اقتصادية عقلانية وطبقة متوسطة راضية وجهاز سياسي مستقر.لم تعد أمة تثق بنفسها وبهويتها وبمستقبلها. إنها أمريكا الجديدة الخائفة والغاضبة، أمريكا التي فقدت طريقها . ولكن الحقيقة التي يحاول الأمريكان الفرار منها، أن هذه هي أمريكا الحقيقية، أمريكا في نسختها الأصلية، وترامب هو الوجه الحقيقي لهذه الأمة المنكودة، وسيدق أول مسمار في نعش الإمبراطورية الأمريكية، كما فعل أرناط من قبل بتهوره وتعصبه وصليبيته مع الوجود الصليبي في بيت المقدس.
التعليقات