عناصر الخطبة
1/السير في الجنة والتخيل في أهلها 2/عظة لأهل الكبائر 3/النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته للرفق قولا وعملا 4/الحث على استغلال صيام أكثر شعباناقتباس
أيها المسلم العاصي بكبائر الذنوب: احمد ربك أن لم تكن كافراً بالله مطروداً من رحمته.. احمد الله أن لم تكن من حطب جهنم، وستدخل الجنة بفضل الله وإن عذبتَ، ولكن السلامة من الذنوب هي الفوز حقًا؛ لأن أجسادنا على النار لا تَقوى. وكلما هممتَ بمعصية فتخيل الجنة، وقل: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الشورى:36]. وتذكر الذين...
الخطبة الأولى:
الحمد لله كما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا. لك الحمد بالإسلام والقرآن والإيمان، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة. بسطْتَ رزقنا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، ومن كلٍ -واللهِ- ما سألناك ربنا أعطيتنا. أشهد ألا إله إلا أنت، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك. أرسلته رحمةً للعالمين، وإماما للمتقين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
عبدَ الله: أتنتظر حتى تموت؛ لتدخلَ الجنة؟! كلا لا تنتظر؛ فإنها لحياة طويلة إن بقيت تنتظر!! ادخل الجنة من الآن فالآن؛ فهناك أقوام موفقون دخلوها منذ زمان وهم أحياء بيننا! تخيل نفسك بالجنة الآن. تخيل أنك تُطِلُّ من قَصرك؛ لترى الأنهار والثمار، والخيام والقصور والأشجار، وأنت لابسٌ الذهبَ واللؤلؤَ والحريرَ، وأحاطت بك الحور.
ها قد انتهى العمل والتكليف وفرغ الناس من الحساب، وغادَرنا عالمَ النفاق والشقاق، وانطفأت الحروب والأغلال، ونُزع الغل، واختفت الهموم والمشاكل، والشيب ووهن العظم وضيق الصدر، والأدوية والأجهزة والمهدئات. ها هو نرى المريض شُفي، والمهموم سُعِد، والهرِم عاد شاباً، والعجوز رجعت حورية.
ها نحن نلتقي بأحبة دفناهم منذ زمن؛ الابن البار يلتقي بأمّه، والشيخ الفاني بابنته، والوالدان بمولودهما الذي مات يجر سُرَرَه فلا يدَعُ والديه حتى يأخذ بأيديهما ويدخلهما الجنة.
ما هذا الموكب المهيب؟! إنه موكب العلماء يتقدمهم شاب بهي الطلعة براق الثنايا؛ إنه معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.
مَن هؤلاء الذين يثعب منهم دم كأطيب لون وأطيب رائحة؟! إنهم شهداء الأمة.
وما أجمل الملائكةَ حين نراهم بأعيننا رأيَ العين؛ يَدخلون علينا ويُسلِّمون.
هيَّا نرقى لنُسلِّم على الصحابة-رضي الله عنهم-.. هذا أبو بكر، وذاك القادم عمر، والجالس هناك تحت الشجرة خالد بن الوليد، وقد تسمع صوتًا عذبًا فيُهلِّل الجميع، فيُقال: هذا بلالٌ يؤذن.
هذا المؤذن؛ إذًا فأين الإمام؟ أين إمام المرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- ما أعظم الشوق للقياه.. أسرِع الخطا.. لنتفاءل أننا سنرى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيجالسه أحاسن الناس خُلقًا!
أين الأنبياء والمرسلون؟ اصعدوا لنبي الله داود يتغنى بالزبور كأعذب مزمار.. وهذا موسى الكليم الذي لقي من البلاء فنونًا، وفتن بقومه فتونًا، وهذا خليل الرحمن أبونا إبراهيم متَّبعه نبينا بالملة، وشبيهه بالخَلْق والخُلُق ونظيره بالخُلة.
لنَعِد أنفسنا أننا سنرى في الجنة أصحابَ الأخدود، وفتية الكهف، ومؤمنَ آل فرعون، والخَضِر، ومؤمنَ آل ياسين، وذا القرنين.
كل ما مضى نعيم عظيم؛ فهل بقي أعظم منه؟! نعم بقي النعيم الذي لا يوازيه نعيم حين نرى الله.. الله سنراه ليس بيننا وبينه حجاب؛ فكيف ستكون لحظة رؤية الله -سبحانه وتعالى- وهو يقول: "أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا"(رواه البخاري ومسلم).
إن الجنة تستحق فعلاً أن نجتهد ونجاهد أنفسنا، لا ننالها بالأماني فحسب، ولا بالغرور والأمن من مكر الله، لكن بشراء السلعة بالسوق، قبل أن يغلق سوقها: أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ.
أيها المسلم العاصي بكبائر الذنوب: احمد ربك أن لم تكن كافراً بالله مطروداً من رحمته.. احمد الله أن لم تكن من حطب جهنم، وستدخل الجنة بفضل الله وإن عذبتَ، ولكن السلامة من الذنوب هي الفوز حقًا؛ لأن أجسادنا على النار لا تَقوى. وكلما هممتَ بمعصية فتخيل الجنة، وقل: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الشورى:36]. وتذكر الذين غادَروا وسارَعوا للجنات! تذكرْ جدَّك العابد، وقريبَك المتصدِّق، وجارَكم حين مات فكانت جنازته مشهودة.
ولا يَبعد بنا التفكير في قدوات تعلقت بالجنة؛ فإن بين أيدينا عُبَّادًا صالحين، أجسادهم في الدنيا، ولكن قلوبهم هناك هناك في الجنة؛ فهم يعيشون في جنة الله قبل أن يموتوا؛ متلذذين بقيام الليل، وبذكر الله، ولذكر الله أكبر من الجنة.
فهذا رجل كبير بالسن، عابد متعلق بالصلاة، لما حدثوه عن الجنة وأنه تسقط عنك العبادة! قال: أما الصلاة فواللهِ لا أتركها، سأفرش سجادتي تحت شجيرات الجنة وسأصلي.
وأخرى عابدة قانتة تقول: يا الله الجنة ما غير أصلي وأُسبِّح. قالوا لها: ليس في الجنة تكاليف ولا صلاة!! فشهقت وقالت: واخجلتاه من ربي نسرح ونمرح، لا صلاة ولا عبادة، ما تركنا الصلاة بحياة الشقاء أفنتركها بالنعيم؟! إنها قلوب امتلأت بمحبة الله.
إن أولئك هم الذين سيجيبون على أسئلة منكر ونكير في القبر، وسيقول لهم ربنا: صَدَقَ عَبْدي! فَأفْرِشُوهُ مِنَ الجَنَّة، وأطْعِمُوهُ مِنَ الجَنَّة، وافْتَحُوا لَهُ بابًا إلى الجَنَّة، فَيَأتِيه من رَوْحِها ورَيْحَانِها، وينْظُرُ إلى مقعده من الجَنَّة.. وحين يسمع هذه البشارة يطير فرحًا، ويصيح يُلحّ على ربّنا قائلاً: ربِّ أقِمْ الساعة، ربِّ أقِمْ السَّاعَة!
فاللهم إِنَّكَ قُلْتَ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)، وَإِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنّا نسألك الفردوس من الجنة، وليس شيءٌ غيرُ الفردوس ربَّنا.
الخطبة الثانية:
عبدَ الله: أتنتظر رمضان حتى تفتح لك أبواب الجنة الثمانية؟! لا تنتظر؛ فإنها لحياة طويلة إن بقيت تنتظر.
ها هي الفرصة سانحة، إنها بعضُ فضلِ الله علينا الدائم، فقد أعطانا فضلاً متكررًا من المكفرات للسيئات، والرافعات للدرجات في الجنات.
ومن الفضل الذي نعيشه ما في هذا الشهر؛ فها قد دلفنا لغرة شعبان الذي يغفل عنه الناس، فلا يصومونه. وقد كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يصوم شعبان كلَّه إلا قليلاً؛ كما في الصحيحين.
ولذلك فإن صيامَه آكدُ من صيام شهر محرم؛ "لمواظبته -صلى الله عليه وسلم- على صومه، ولأن صومَه يُشْبِهُ سُنَّة فرضَ الصلاة قبلَها، ولأنه شهرٌ يَغفل عنه الناس وتُرْفَع فيه الأعمال"(1).
فالبِدارَ البِدار، ولندَع الأمانيَ والاغترار، وليتمثل كل منا موقفه كما تمثله ذلك التابعي العابد إبراهيم التيمي -رحمه الله- حينما قال: "مثَّلتُ نفسي في الجنة، آكل من ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارَها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار، آكلُ من زقومها، وأشربُ من صديدها، وأعالج أغلالهَا، فقلت لنفسـي: أيُّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا، فأعملَ صالحاً، فقلت لها: فأنتِ في الأمنية فاعملي"(2).
فاللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أعْمَارِنَا أواخِرَهَا، وخَيْرَ أعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وخَيْرَ أيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاك.
اللَّهُمَّ اقْذِفْ في قُلُوْبِنَا رَجَاءَك واقْطَعْ رجَاءَنَا عمنْ سِوَاك.
اللهم ارحمنا ولا تحرمنا، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا خَيْرَ ما عِنْدَكَ بِشَرِّ ما عِنْدَنَا.
اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمون.
اللهم سلم لنا رمضان الفائت، وسلمنا لرمضان الآتي.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا أغَنْى خَلْقِك بك، وأفْقَرَ خَلْقِك إليْك.
اللَّهُمَّ أغْنِنَا عَمَّنْ أغْنَيْتَهُ عَنَّا، اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.
اللَّهُمَّ أعْطِنَا من الخَيْرِ فوْقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عَنَّا من السُّوْءِ فَوْقَ ما نَحْذَر.
-----------------
(1) تهذيب السنن لابن القيم (3/ 318).
(2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 26).
التعليقات