عناصر الخطبة
1/ تحريم الله تعالى الظلم على نفسه وجعْله مُحرَّما بين الناس 2/ عواقب الظلم 3/ من صور الظلم الشائعة في المجتمعاهداف الخطبة
اقتباس
يا لها من عقوبة في يوم لا تنفع فيه الندامة ولا الفداء، إنما هو يوم الحساب والجزاء؛ والظلم يورث الأحقاد في نفس المظلوم على من ظَلَمه، وعلى ذلك المجتمع الذي لم يدافع عنه ولم يُنقذه ممَّن ظلمه، فتنشأ العداوات، وتتولد في القلوب أمراضها التي تفتك بالمجتمعات ..
أما بعد:
أيها المسلمون: أخرج الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي ذر -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "قال الله تعالى: يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تَظَالَمُوا".
قال الإمام أحمد -رحمه الله-: حديث أبي ذر هو أشرف حديث لأهل الشام. وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه.
وفي هذا الحديث بتمامه من الفوائد والعظات مالا يُحصى في مثل هذا المقام؛ ولذا فسيكون الكلام على أول وصية من وصاياه، ألا وهي النهي عن الظلم.
فقد نزه الله تعالى نفسه عن الظلم؛ لأنه صفة دنيئة رديئة لا تليق بالله وبجلاله وكماله، ثم لما أخبر أنه حرم ذلك على نفسه نهى عباده عن اقترافه، وجعله بينهم محرماً فقال: "فلا تظالموا".
والظلم جُرْمٌ عظيم، ما حلّ في قوم إلا أهلكهم وأحَلَّ بينهم كلَّ سوء، ولن أتحدث عن ظلم النفس، فهذا يكون بالشرك وبالمعاصي والذنوب، وهذا مجال عريض؛ لكن حديثي سيكون عن ظلم عباد الله، ذلكم الذنب الذي توعد الله صاحبه بالنكال والوبال، وبالعذاب والأخذ الشديد.
ولا يحسبن الظالم أنه بقوته وبطشه سينجو من غضب الله وبأسه، فمَن ظن ذلك فقد كابر وكذَّب بوعيد ربه العظيم.
إن الظالم، وإن كان ذا صولة وجولة في الدنيا، إلا أن الله إنما يمهله، لكنه لن يهمله، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري ومسلم أنه قال: "إن الله ليُمْلِي للظالم؛ حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم تلا: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
وكل ظالم سوف يلقى من يجازيه على سوء فعاله، حتى إن الله ينصف البهائم المظلومة من البهائم الظالمة، ففي مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتؤدَّنَّ الحقوق إلى أهلها، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء".
وإذا كان يوم القيامة، واستضاء المؤمنون بنورهم، ظل الظالم يتخبط في ظلمات ظلمه، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
ولعِظَم عقوبة هذا الذنب، وشدة عذاب صاحبه، يوصي حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأن يتخلصوا منه ما استطاعوا. أخرج البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان لـه عمل صالحٌ أُخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن لـه حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه".
ومرة من المرات يسأل -صلى الله عليه وسلم- أصحابه فيقول: "أتدرون من المفلس؟" فيقولون: المفلس فينا من لا درهم لـه ولا متاع. فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فُيعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طرح في النار".
يا لها من عقوبة في يوم لا تنفع فيه الندامة ولا الفداء، إنما هو يوم الحساب والجزاء؛ والظلم يورث الأحقاد في نفس المظلوم على من ظَلَمه، وعلى ذلك المجتمع الذي لم يدافع عنه ولم يُنقذه ممَّن ظلمه، فتنشأ العداوات، وتتولد في القلوب أمراضها التي تفتك بالمجتمعات.
وهذا المظلوم لا بد لـه من أن ينتقم من ظالمه، فإن استطاع ذلك وإلَّا سلط عليه دعاء حاراً لا يرده الله ابداً، "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
أيها المسلمون: لا تظنوا أن الحديث عن الظلم أمرٌ يخص فئة قليلة من الناس، لا والله! فالواقعون في الظلم كثيرون، ومن أسوأ الظلم ذلك الظلم الذي يقاسي مرارتَه العمالُ المستقدَمون، أولئك الذين جاءوا إلى هذه البلاد يبتغون فضل الله ويطلبون رزق الله، فارقوا أولادهم وزوجاتهم وآباءهم، وتحمَّلوا عناء السفر وآلام الاغتراب، فإذا جاءوا إلى هذه البلاد وجدوا من بعض كفلائهم ظلماً وتكليفاً وعسفاً وجوراً.
يأتي أحدهم على أنه عامل في مجال فيفاجأ بمجال آخر لا يناسبه، وأقبح من ذلك أن يتعاقد مع كفيله على مرتب فإذا قدم فوجئ بتخفيض مرتبه، ثم يقال له: إنْ أرضاك، وإلا فارجع إلى بلدك. فيظل حائراً مظلوماً مهموماً ليس له من ينصره إلا الله.
والأدهى من ذلك والأمرُّ أن كثيراً من المؤسسات وغيرها تُمضي شهوراً عديدة دون أن تعطي عمالها أجراً.
فإلى مَن تساهل بحقوق العباد، وتمادى في غيه فأبدى وأعاد، أقول: يا هذا، أما تتقي الله؟ ألم تعلم أن الله عزيز ذو انتقام؟ أتريد أن يكون اللهُ خصمَك يوم القيامة؟ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: يقول الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة"، وذكر منهم: "ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
ومن الكفلاء من يسيء معاملة مكفوليه بإهانتهم وسبهم وشتمهم وضربهم، وبتكليفهم من الأعمال فوق طاقتهم، وهذا جُرمٌ عظيم.
يقول أبو مسعود البدري -رضي الله عنه-: كنت أضرب غلاماً لي بالسوط فسمعت صوتاً من خلفي يقول: اعلم أبا مسعود! فلم أفهم الصوت من الغضب. فلما دنا مني إذا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود أن الله -عز وجل- أقدرُ عليك منكَ على هذا الغلام "، وفي رواية: فقلت: هو حر لوجه الله تعالى. فقال: "لو لم تفعل لَلَفَحَتْك النار. أو لمسَّتْكَ النار". رواه مسلم.
فَلْنَتَّقِ الله في هؤلاء العمال، ولنحسن معاملتهم، ونؤتهم حقوقهم؛ لنتق الله قبل أن يحل علينا النكال والعذاب، نسأل الله العفو والعافية.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فقد سمعنا صوراً مما يحدث في المجتمع من الظلم، الأمر الذي يوجب علينا الابتعاد عنه بشتى صوره.
ومن تلك الصور ظلم بعض المسؤولين لمن تحت يده من الموظفين، فترى مدير الدائرة يتكبر على موظفيه ويرهقهم في العمل، وقد يقدّم بعضهم على بعض في المستحقات بحسب رغبته لا بعملهم واستحقاقهم، وكذلك كثير من الموظفين يظلمون الناس بتأخير معاملاتهم، وعدم الاهتمام بهم، بل وبإساءة الأخلاق إلى المراجعين الذين هم في حاجته.
ومن الظلم ظلم بعض المدرسين لطلابهم، إما بضربهم، أو بعدم إعطائهم تقديرهم المناسب، أو بإهمالهم، وقلة المادة العلمية التي يعطيها لهم.
ومن الظلم ظلمُ الزوجات، بعدم إيتائهن حقهن، وبالجفاء والغلظة وسوء الأخلاق؛ ومن الرجال مَن إذا تروج امرأة أخرى ترك الأولى وعلّقها، ولم يقسم لها، ولم يحسن إليها؛ بل ولم ينفق عليها بما يكفيها، وربما هجرها ولم يعبأ بأبنائها، كل هذا واقع لا ينكر.
وكذلك تفضيل بعض الأبناء على بعض، وخصوصاً إذا اختلفت أمهاتهم؛ هذا كله واقع سيئ، وهو سبب لتفكك الأسر، وشيوع العداوة والبغضاء فيها.
في صحيح مسلم أن امرأة بشير قالت له: انحل ابني غلاماً، وأشهِد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتى النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "له إخوة؟" قال نعم. قال "أفكُلُّهُمْ أعطيتَ مثل ما أعطيته؟" قال: لا. قال: "فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا حقا". زاد أحمد: "ولا تشهدني على جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم". فاتقوا الله في أولادكم وأزواجكم، وإياكم أن يغلبكم الهوى فتجانبوا العدل فيهم!.
إخوة الإسلام: هذه صور من صور الظلم، فلنحاذر الوقوع فيها، أو التهاون بها أو بأمثالها، فعاقبتها شر ووبال، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) [إبراهيم:42].
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد...
التعليقات