تجربة الشيخ عبد الحميد كشك الخطابية (1)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2023-07-30 - 1445/01/12
التصنيفات: تجارب

اقتباس

ولن أعلن جديدًا حين أقول: إن أعظم مدخل إلى القلوب والعقول هو: الإخلاص لله -عز وجل-، ولا نحسب شيخنا إلا أنه كان من المخلصين، والله حسيبه، وها هو يقول في مقدمة خطبه المنبرية المطبوعة: "الله يعلم.. أننا ما اتبعنا بعملنا هذا إلا رضا الله، وقد كان هدفنا وما زال وسيظل قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)...

لا يقولن أحد أن خطيبنا كان أعمى، كلا، بل كان أبصر من كثير من المبصرين، نعم كان كفيفًا قد حُرِم نور عينيه، لكنه قد فُتِحت له أنوار البصيرة فرأى بها ما لا يراه البصر، وربما عافاه الله بفقده لنور عينيه من رؤية كثير من الوجوه العكرة التي طالما هاجم أفعالها وفنَّد أقوالها، ومن مشاهدة ما يُرتكب باسم "الفن" من مخازٍ في وسائل الإعلام.. والتي عاش عمره يفضح أبطالها ويصدع فيهم بكلمة الحق، ولو أردنا أن نصف شيخنا بجملة واحدة لما وجدنا أنسب من قولنا: "هو رجل تكلم حين جَبُنَ الآخرون".

 

فمن هو شيخنا؟

هو الشيخ العالم الجليل فارس المنابر، عَلَمُ أعلام الخطابة في عصرنا: عبد الحميد بن عبد العزيز كشك، وُلد شيخنا في قرية "شبراخيت" بمحافظة البحيرة بمصر، سنة 1351ه الموافقة لسنة 1933م، أتم حفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة من عمره، واعتلى المنبر وهو في الثانية عشرة من عمره، وظل شيخنا مبصرًا إلى أن بلغ الثالثة عشرة من عمره ففقد إحدى عينيه، وفي سن السابعة عشرة فقدَ العين الأخرى، فكان شيخنا يتمثل بقول ابن عباس -رضي الله عنهما- لما عمي في آخر عمره:

إن يأخذ الله من عيني نورهما *** ففي لساني وسمعي منهما نور

قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور([1])

 

والتحق شيخنا بالتعليم الأزهري وحصل على الدرجة النهائية في الصفين الثاني والثالث الثانوي، فكان ترتيبه الأول على جمهورية مصر العربية في الشهادة الثانوية الأزهرية، ثم التحق بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وكان ترتبيه كذلك الأول على الكلية طوال سنوات الدراسة، وعُيِّن فيها معيدًا سنة 1957م.

 

ولكن لم يدم في مهنة التدريس الجامعي طويلًا؛ فقد تركها وعاد إلى حبه ومجال تميزه؛ عاد إلى الخطابة، فعمل إمامًا وخطيبًا بالقاهرة، وتنقل بين عدة مساجد إلى أن استقر بمسجد "عين الحياة" الذي أصبح له نصيب من اسمه بقدوم الشيخ كشك إليه، والذي ظل يخطب فيه قرابة عشرين عامًا حتى حوَّله إلى منارة يقصدها المصلون والزوار من شتى البقاع، يقول عنه رجل المخابرات الفرنسي "جيلز كيبل": "نجح كشك في ‏إعادة رسالة المسجد في الإسلام، حيث تحول مسجده إلى خلية نحل تكتظ بحشود ‏المصلين".‏

 

لكن بسبب جرأته في قول الحق اعتُقِل شيخنا عدة مرات، كان أولها سنة 1965م، وظل بالسجن لمدة عامين ونصف، لكنه ظل إمامًا لمسجد "عين الحياة"، واعتُقِل في سنة 1981، لكنه مُنِع هذه المرة من الخطابة وإلقاء الدروس... ومع أن وسائل الإعلام قد قاطعته مقاطعة تامة إلا أن الله -تعالى- سخر له من يسجلون خطبه على أشرطة "الكاسيت" ويوزعونها، حتى ذاعت شهرته وبلغت خطبه الوطن العربي كله... وتفرغ شيخنا للتأليف بعد أن ترك لنا أكثر من ألفي خطبة ودرس... فقام بتأليف (108) كتابًا، منها كتابه: "في رحاب التفسير" ويقع في عشرة مجلدات.

 

وفي يوم الجمعة 25 رجب 1417هـ، الموافق: 6 ديسمبر 1996م، قام شيخنا من نومه مستبشرًا برؤيا رآها، ثم ذهب وتوضأ في بيته لصلاة الجمعة وبدأ يتنفل بركعات قبل الذهاب إلى المسجد كعادته، فصلى ركعة، وفي الركعة الثانية سجد السجدة الأولى ورفع منها، ثم سجد السجدة الثانية وفيها فاضت روحه إلى بارئها ساجدًا كما كان يدعو بذلك دائمًا([2]).

 

ثم بعد ثلاثة عشر سنة من دفنه أتتنا بشارة من بركاته، نقلها إلينا أحد تلامذته وهو الشيخ الفاضل: نشأت أحمد، ومفادها أنه لما فُتِح عليه القبر بعد ثلاثة عشر عامًا كان جسد الشيخ وكفنه على حاله لم يتغير، إلا قليلًا من التراب أصاب الكفن من عند القدمين، وأن القبر كان نظيفًا طيب الرائحة"([3])، فرحم الله الشيخ رحمة واسعة.

 

وكعادتنا في هذه السلسلة؛ "سلسلة خطباء في الميزان" فحديثنا قسمان، القسم الأول للمميزات، والثاني للمآخذ.

 

القسم الأول: نقاط القوة وعوامل التميز:

أولًا: النفاذ إلى القلوب والعقول:

فشيخنا -رحمه الله- خطيب حصيف، يعرف كيف يؤثر فيمن يسمعه، فيدخل للعاطفي من طريق قلبه فيخاطبه بالعاطفة المشبوبة والحماسة المنضبطة التي تؤثر فيه، وللعقلاني من طريق عقله بالحجة والبرهان والدليل، ويعرف لكل نوع من البشر مدخله([4])، فينفذ إليه من خلاله.

 

فتسمعه يخاطب أهل العقل بما يقنعهم ويحملهم على التصديق، وهو يقول في رده على شبهة انتشار الإسلام بالسيف: "فهل دخل أبو بكر الإسلام بالسلاح؟ هل دخلت خديجة بالسلاح؟ هل دخل زيد بن حارثة بالسلاح؟ هل دخل علي بن أبي طالب بالسلاح؟ هل دخل عمر بن الخطاب الإسلام تحت وطأة السيف؟ لا إنهم دخلوا بالمنطق الرشيد والرأي السديد، إن الذي نشر الإسلام هو المصحف في يد رسول الله، الإسلام انتشر بالمصحف، ولكن السيف هو الذي حمى الإسلام؛ المصحف ينشر، والسيف يحمي..."([5]).

 

ولن أعلن جديدًا حين أقول: إن أعظم مدخل إلى القلوب والعقول هو: الإخلاص لله -عز وجل-، ولا نحسب شيخنا إلا أنه كان من المخلصين، والله حسيبه، وها هو يقول في مقدمة خطبه المنبرية المطبوعة: "الله يعلم.. أننا ما اتبعنا بعملنا هذا إلا رضا الله، وقد كان هدفنا وما زال وسيظل قوله -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)[الكهف: 28]، كفى بذلك هدفًا وشرفًا وغاية ومصيرًا.

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر *** وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي فوق التراب تراب"([6])،([7]).

 

ثانيًا: مزج النصوص بالواقع:

فشيخنا يجيد فن "الإسقاط على الواقع"، ويُحسِن ربط الماضي بالحاضر، ويبث الروح فيما مات في قلوب الناس من معانٍ إسلامية، فها هو يقول في خطبة "الهجرة النبوية" عند إيراده قول الله -تعالى- لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة: 67]: "لم يكن له حرس، ولم يكن له سيارة ذات زجاج ضد الرصاص، ولم يكن يلبس قميصًا ضد الرصاص، ولم يكن ينتقل بطائرة حتى لا تمتد إليه الأيدي، لم يكن لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه المخصصات ومع ذلك فإنه جلس في الغار والمشركون واقفون أمام الغار..."([8]).

 

وهذه المرة يمزج شيخنا حديثه عن البلاء بواقعه الشخصي، فيقول في خطبة "مدرسة أيوب -عليه السلام-": "إنني [حين] أتكلم عن أيوب أشعر بقشعريرة تنتاب بدني؛ لأنني من مدرسة أيوب؛ لأنني أيضًا من أهل البلاء، ويوم نام أبي على فراش الموت، وكنت بجانبه، كان يبكي ويقول: كنت أود أن أتركك وأنت بصير العينين..."([9]).

 

ومن جملة اهتمام الشيخ بالإسقاطات الواقعية أنه كان يستخدم المصطلحات المعاصرة أحيانًا للتعبير عن أحداث الماضي، فها هو يقول في خطبة "في مملكة سبأ": "في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أرسلت القوات المسلحة لتضرب طاغوت الروم"([10])، وفي خطبة أخرى يقول: "جبريل أمين السماء ينزل مع كتيبة لواء المظليين الملائكي..."([11])، ففضَّل تعبير: "القوات المسلحة"، وتعبير: "كتيبة لواء المظليين"، لأنهما -مع جذبهما للانتباه- يحملان روح عصرنا الحاضر، وهذا كثير في كلام فضيلته.

 

وإن النصوص لتبقي حبيسة الأوراق والأحبار حتى تلتحم بواقع الحياة وأحداثها التحامًا، وتختلط بها اختلاطًا يرقيها ويصلحها ويوجهها الوجهة الأسمى، فعند ذلك تدب فيها الحياة وتُكتب لها الحرية.

 

ثالثًا: الصدع بالحق:

وهذا من أهم ما يميز خطيبنا ويبرِز تفرده؛ أنه "لا يخاف في الله لومة لائم" -نحسبه ولا نزكيه على الله-، فشيخنا لم يكن ممن يترخصون ويؤثرون السلامة، أو ممن يدفنون رؤوسهم في الرمال وينعزلون عن الواقع، بل هو دائمًا متفاعل مع قضايا أمته ومع أحداث واقعه؛ يبين موقف الإسلام منها، ويجلي وجه الحق فيها.

 

فها هو في خطبة: "محاكمة فرعون"، يصدع بكلمة الحق في "حكم تولي المرأة الولايات العامة"، ويهاجم في قوة من خالف ذلك، ثم يعلنها في آخر الدقيقة الخامسة والأربعين واضحة جلية في غير ما تردد ولا مواربة فيقول: "وأقسم بالله من هذا المكان الطاهر الرفيع لنردن على أمثاله وعلى من هو أعلى منه، إذا سولت له نفسه أن يطوف حول رياض الإسلام"([12])، ثم يبدأ في تفنيد الشبهات التي أوردها المخالف شبهة شبهة، في جراءة ووضوح وإقناع وعلم ظاهر، يقابل الحجة بالحجة ويقارع الدليل بالدليل.

 

ويهاجم الشيخ قانونًا مقترحًا للأحوال الشخصية فيقول: "أجد لزامًا عليَّ أمام الله أولًا، أجد لزامًا عليَّ أن أبيِّن لحضراتكم هذا الحكم الذي جاء في قانون "الأحقاد" الشخصية، وأجد لزامًا على كل عالم من علماء المسلمين أن يبين للمسلمين هذا الحكم وإلا سيلجم بلجام من نار يوم القيامة، المادة رقم خمسة مكرر من قانون الأحوال الجديد تقول: إن الطلاق لا يقع من الرجل على زوجته إلا إذا وثَّقه أمام المأذون، بمعنى أنك إذا حلفت على زوجتك بالطلاق ولم تذهب إلى المأذون لتوثِّق هذا اليمين فإن الطلاق غير واقع، هكذا قالت المادة رقم خمسة مكرر من قانون الأحوال، أو من قانون قلب الأحوال، والله -تعالى- يبين لكم الحكم حتى أبرأ بذمتي أمام الله، أن هذه المادة باطلة باطلة باطلة، وهذه المادة ينطلي عليها تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرَّم الله..."([13]).

 

ثم انطلق الشيخ يفنِّد ويدلل ويبرهن، لا يخشى في الله لومة لائم، وعلى هذا حياة العلماء ومماتهم؛ فعن عبادة بن الصامت، قال: "بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة... وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم"([14]).

 

 

 

------------

([1]) المجالسة وجواهر العلم، لأبي بكر الدينوري (5/53)، ط: دار ابن حزم بيروت - لبنان.                              

([2]) للاستزادة يُنظر موقع: ويكيبيديا "عبد الحميد كشك"، وموقع "إسلام ويب"، فتوى بعنوان: "نبذة عن حياة الشيخ عبد الحميد كشك"، وغيرهما.

([3]) هذا رابط شهادة الشيخ نشأت أحمد:

https://www.youtube.com/watch?v=9Ero5RGRrlU

([4]) تناولت هذا الموضوع المهم في مقال من جزئين، بعنوان: "اعْرِف مدخل مخاطبيك"، وهذا رابطهما لمن أراد التوسع:

الجزء الأول:  https://khutabaa.com/ar/article/%D8%B3%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8%D9%8B%D8%A7-%D9%85%D9%82%D9%86%D8%B9%D9%8B%D8%A7%D8%9F-4-%D8%A7%D8%B9%D9%92%D8%B1%D9%90%D9%81

الجزء الثاني: https://khutabaa.com/ar/article/%D8%B3%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8%D9%8B%D8%A7-%D9%85%D9%82%D9%86%D8%B9%D9%8B%D8%A7%D8%9F-4-%D8%A7%D8%B9%D9%92%D8%B1%D9%90%D9%81-2

([5]) عنوان الخطبة: "في مملكة سبأ"، والشاهد في الدقيقة الرابعة عشر منها، وهذا رابطها:

 https://www.youtube.com/watch?v=izTe3CPdEiI

([6]) الخطب المنبرية لفضيلة الشيخ عبد الحميد كشك (3/4)، ط: مكتبة الصحافة العباسية، القاهرة.

([7]) هذه الأبيات نسبها ابن القيم -رحمه الله- لأبي فراس الحمداني، ينظر: مدارج السالكين، لابن القيم (2/286-287)، ط: دار الكتاب العربي - بيروت.

([8]) هذا رابط الخطبة، والشاهد في الدقيقة السابعة والثلاثين منها:

https://www.youtube.com/watch?v=Ojd9iLKZk3o

([9]) هذا رابط الخطبة، والشاهد في الدقيقة الأربعين:

https://www.youtube.com/watch?v=FpZHnltukcQ

([10]) من خطبة: "في مملكة سبأ"، والشاهد في الدقيقة التاسعة عشر منها، وهذا رابطها:

 https://www.youtube.com/watch?v=izTe3CPdEiI

([11]) هذا رابط الخطبة، والشاهد في الدقيقة الخامسة:

https://www.youtube.com/watch?v=aHvl1YPzr3k

([12]) هذا رابط الخطبة:

https://www.youtube.com/watch?v=BI6vk8_SHRA

([13]) المقطع بعنوان: "هل الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي"، وهذا رابطه:

 https://www.youtube.com/watch?v=kjEmfl3nFfk

([14]) البخاري (7199)، ومسلم (1709) واللفظ له.

التعليقات
زائر
26-08-2023

مقالات رائعة ومميزة

هذا موقعي الخاص بكل ما يتعلق بأمور المحاسبة, يشرفني زيارتكم له

https://faisal-cpa.com.sa/

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life