اقتباس
من الموضوعات التي أصبح الحديث فيها ملحًّا وضاغطًا، موضوع شبكات التواصل الاجتماعي، وبخاصة تطبيق "الواتساب" الذي استطاع ببريقه وسرعته وفاعليته أن يأسر الملايين من الناس الذين صاروا منشغلين كثيرًا به، وقد استولى بسحره على كثير من العقول، وجثم بكلكله على الصدور، وأخذ بجماليته بمجامع النفوس، حتى أوشكت أن تضيع حسناته وسط ركام سيئاته.
(الواتساب نموذجًا)
من الموضوعات التي أصبح الحديث فيها ملحًّا وضاغطًا، موضوع شبكات التواصل الاجتماعي، وبخاصة تطبيق "الواتساب" الذي استطاع ببريقه وسرعته وفاعليته أن يأسر الملايين من الناس الذين صاروا منشغلين كثيرًا به، وقد استولى بسحره على كثير من العقول، وجثم بكلكله على الصدور، وأخذ بجماليته بمجامع النفوس، حتى أوشكت أن تضيع حسناته وسط ركام سيئاته.
لقد أصبح "الواتساب" الآن أفضل تطبيق للمراسلة في 128 دولة من دول العالم، وبلغ عدد مستخدميه إلى حدود الشهر الثاني من سنة 2018م مليارًا ونصف مليار مستخدم شهريًّا، تشهد إرسال 60 مليار رسالة يوميًّا، مع قضائهم في التطبيق قرابة 360 مليون دقيقة في مكالمات الفيديو كل يوم، وهو ما يعادل ما يعادل قرابة 700 عام من مكالمات الفيديو؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36]، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ؟)؛ ص. الترمذي.
♦ إن فتحك لحساب "الواتساب" وغيره، معناه فتحك على نفسك باب المساءلة يوم القيامة؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾ [الصافات: 24]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: (وَقِفُوهُمْ) قبل أن توصلوهم إلى جهنم، (إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) عما كانوا يفترونه في الدنيا، ليَظهرَ على رؤوس الأشهاد كذبُهم وفضيحتُهم".
فاعلم علم اليقين، أن كل جملة كتبتها، أو رسالة أرسلتها، أو صورة بعثت بها، أو أشرطة نشرتها، أو روابط حولتها، أو مواقع دللت عليها، فأنت مسؤول عنها، فلا تكن من الذين يحولون الرسائل ولم يقرؤوها، ويرسلون الروابط، ولم يطلعوا على محتوياتها، وينشرون الفيديوهات ولم يتثبتوا من مضامينها، فأنت بضغطة زر يمكن أن تكون ساعي بريد لآلاف وربما ملايين من المستقبلين، كلهم سيحاسبونك يوم القيامة، فوجب التفكير ألف مرة قبل أن تقوم بالإرسال، بعد أن تستيقن أن المضمون نافع، وأن القصد صالح.
اِنْتَقِ ما يُفِيدُ مِن منقُولِكَ
وضَمِّنِ الحِكْمةَ في مَقُولِكَ
وكُن لِّما تَنقُلُه محقِّقَا
مُراجِعًا ألفاظَه مُدقِّقَا
♦ بعضنا صار هاتفه آخرَ مفارق له قبل النوم، وأول مستقبل له بعد النوم، ولربما ضاعت علينا أدعية النوم التي تكفي قارئها كيد الشياطين، وشرور الفتن والفاتنين، مثل قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة، وقراءة سورة الملك التي قال فيها عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "يُؤتى الرَّجلُ في قبرِهِ، فتُؤتى رِجلاهُ، فتقولُ رِجلاهُ: ليسَ لَكُم على ما قِبَلي سبيلٌ، كانَ يقومُ يقرأُ بي سورةَ المُلكِ، ثمَّ يؤتى من قِبَلِ صَدرِهِ أو قالَ بطنِهِ، فيقولُ: ليسَ لَكُم على ما قِبَلي سبيلٌ، كانَ يَقرأُ بي سورةَ الملكِ، ثمَّ يُؤتى رأسُهُ فيقولُ: ليسَ لَكُم على ما قِبَلي سبيلٌ، كانَ يقرأُ بي سورةَ الملكِ، قالَ: فَهيَ المانعةُ، تمنَعُ مِن عذابِ القبرِ، وَهيَ في التَّوراةِ سورَةُ الملكِ من قرأَها في ليلةٍ، فقد أَكْثرَ وأطْيَبَ"، فهل تركت لنا هواتفنا وقتًا نقرأ فيه ما ينفعنا وندعو فيه بما أمرنا؟ صحيح الترغيب.
♦ بعض الآباء ذُهلوا عن تربية أطفالهم، بسبب انشغالهم بهواتفهم، يجيزون لأنفسهم أن "يدردشوا" مع أصدقائهم، ويشاغبوا مع المتواصلين معهم، وقد يقضون في ذلك الساعات ذوات العدد على حساب ملاعبة أبنائهم، والإنصات إلى مشاكلهم وما يقلقهم، والنظر في حاجاتهم ومستلزماتهم، والاهتمام بالمخاطر التي تحدق بهم، والأعداء الذين يتربصون بهم، ثم يلومونهم بعد ذلك على قلة تحصيلهم، وضعف ذكائهم.
♦ بل تسرب هذا الهوس إلى المس بعلاقة الأبناء بالآباء، التي طبعها التوتر والاضطراب، بدل التوقير والاحترام، فصار كثير من أبنائنا منشغلين بهواتفهم عن طاعة آبائهم، وقضاء حوائجهم، وخفض الجناح لهم، ولين الكلام معهم، بل ربما أغلظوا القول لهم، وأساؤوا مخاطبتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ (أي: خيرها)، فَحَافِظْ عَلَى وَالِدَيْكَ أَوِ اتْرُكْ"؛ صحيح سنن ابن ماجه.
وقال طيلسة بن مياس: قال لي ابن عمر: "أَتَفْرَقُ مِنَ النَّارِ، وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ قُلْتُ: إِي وَالله، قَالَ: "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟"، قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي، قَالَ: "فَوَالله، لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ"؛ صحيح الأدب المفرد.
♦ وتسرب هذا الفتور إلى العلاقة بين الزوجين، حين أصبح كل منهما منزويًا في ركن من أركان الغرفة، كل منشغل بعالمه، سادر في أحلامه، منهمك برسائل أصدقائه، قد عم الغرفةَ الصمت، ولفها الخواء، وشَخَصت الأبصار، وطُؤطئت الرؤوس، ونَشِطت الأنامل في مداعبة الأزرار بشكل جنوني.
ترى رؤوس القوم دومًا مطرقة *** عـلى الجـهـاز والعيـون محـدقـةُ
حتى إذا تعطلت خدمة الشبكية، أو تعثر المزود الشبكي (واي فاي)، أو فَرَغت البطارية على حين غرة، عم الصراخ حتى ترجع الشبكية، ويجود المزود بالخدمة، بل أظهرت الأبحاث أن التأخير بضع ثوانٍ أثناء تخزين محتوى الفيديو، يمكن أن يؤدي إلى زيادة نفس مستويات القلق عند مشاهدة فيلم رعب أو محاولة حل مشكلة حسابية معقدة.
فكيف نعجب إن جفت العاطفة بين الزوجين أو كادت، وحل محلها الجمود، والتخشب، والملل، وربما الاضطرابات المفضية إلى سوء العشرة، وتلاشي العلاقة؟
يقول أحد الأطباء الاستشاريين - بعد أن أشار إلى دراسة بريطانية تفيد أن 70% من النساء يجدن الهواتف الذكية أهم من أزواجهن -: "إن صفير الإشعارات على الهاتف الذكي، يمنع إقامة علاقة عاطفية بين الزوجين، ويزيد من الأنا والقلق والتوتر، ويخل بالتوازن والاستقرار الاجتماعي داخل الأسرة".
حتى هذه الأجراس والتنبيهات التي تصدر من الهواتف، صارت دالة على عقل صاحبها، إِنْ ثباتًا وعقلًا، أو غير ذلك.
ولقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننشغل عن أحبابنا وأقربائنا ولو بالأمر المباح، فكيف بالانشغال بما قد يعود على صاحبه بأوخم العواقب، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا فَلَبِسَهُ، فقَالَ: "شَغَلَنِي هَذَا عَنْكُمْ مُنْذُ الْيَوْمِ، إِلَيْهِ نَظْرَةٌ، وَإِلَيْكُمْ نَظْرَةٌ"، ثُمَّ أَلْقَاهُ؛ صحيح سنن النسائي.
لقد أصبحت مواقع التواصل تسفر عن أخلاق أصحابها، حين صارت مرتعًا لكشف الأسرار، وهتك الأستار، وأصبحت كاميرا الهاتف تتجول في كل زاوية من زوايا البيوت، وتنقل كل صغيرة وكبيرة، لتجعل لها مكانًا في هذه المواقع، يطلع عليها القاصي والداني، القريب والبعيد، صور وفيديوهات للأمهات الغافلات بزينتهن، أو لباس بيوتهنَّ، وصور للجدات المسكينات بمشيتهنَّ المتعثرة، ونقل للمناسبات، والأسفار، وإخبار بالملابس الجديدة، والأحداث الأسرية، ومجريات الحديث مع الضيوف والزوار، حتى الخصومات مع الأقارب والجيران، كل ذلك يصور ويذاع، ويوثق وينشر.
فلنحتفظ بالوجه المشرق للتطبيق، ولنركز على مزاياه النافعة، ولنتق الله في أنفسنا، وأبنائنا، وعقولنا، وصحتنا، وأوقاتنا، قبل أن نعرض على ربنا، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
شبابٌ ذَلَّلوا سُبلَ المَعالي
وما عَرفوا سوى الإسلامِ دينا
تَعَهَّدَهمْ فأنبتهمْ نباتًا
كريمًا طابَ في الدنيا غَصونا
فما عَرَفَ الخلاعَةَ في بناتٍ
ولا عَرَف التخنُّثَ في بنينا
التعليقات