عناصر الخطبة
1/ تاريخ المنافقين وتعاملهم مع دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- 2/ حديث القرآن عن النفاق والمنافقين وذكره لصفاتهم 3/ بعض معالم المنافقين من خلال سورة المنافقوناهداف الخطبة
اقتباس
أيها الإخوة: بدأ النفاق يسري في المدينة النبوية مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ساعة قدومه إليها، وكانت بداياته من ذوي الوجاهة في أقوامهم، ومن ذوي التطلع لقيادات في مجتمعهم؛ فكان قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- قاطعاً لأطماعهم، ومبددا لآمالهم، فلم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا...
أما بعد:
فصدق الله العظيم: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]، (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) [فصلت: 44].
أيها الإخوة: حينما تدرك النفوس أن للكون رباً يدبره، وأن لله سننا في خلقه لا بد أن تمضي، وأن الله لن يذر الناس على ماهم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.
فهذه بعض هدايات القرآن للناس لعلهم يهتدون!
تتكدر النفوس، وتضيق الصدور حينما يعلو الصوت النشاز، ويعتلي منبر الإعلام، ومنصبة التوجيه قوم ممن قال الله فيهم محذرا: (وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون: 4] نعم هو تحذير، إلا أن المؤمن يقرأ في داخله نفحات تطمين وتبشير!
فهيا معاشر المؤمنين بالله رباً الراضين به حكماً ومدبراً: هيا بنا نطل إطلالات على مجتمع قائده النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى قوم فيهم المؤمنون الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، وفيهم من هو دون ذلك في إيمانه وصدقه مع الله، وفي كل خير.
وإلى جانب هؤلاء وقريبون من مساكنهم اليهود أعداء الله وأعداء الرسل وهؤلاء على خبثهم، وشدة مكرهم يهون أمرهم عند قوم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ إنهم المنافقون المتلونون يلبسون مع كل قوم ما يناسبهم فأمرهم مشكل، وحديثهم أشد إشكالا!
وهم الذين يحمون أنفسهم بالأيمان الكاذبة: (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء: 62].
(وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ) [البقرة: 14].
هذه مكونات المجتمع المدني في أعظم العصور للدولة الإسلامية، وتحت أعظم لواء وراية للمسلمين؛ فليكن حديثنا حول هذا، لعل همة تتجدد، وثباتا يزداد، ونفوساً هلعة في ظل متغيرات تسكن، وأناساً غيروا مواقعهم يعودون لمواقعهم، مستعيذين بالله من همزات شياطين الإنس والجن, سائلين الله الثبات والسلامة من الشرور والفتن.
مرَّ النفاق كغيره من صفات البشر، بل ومن أمور الكون كلها بضعف واستخفاء، ثم قوة بالباطل وعزة بالإثم وعداء، ثم فضيحة لمخططاته وخزي لأهله ونكسة وبلاء.
أيها الإخوة: بدأ النفاق يسري في المدينة النبوية مهاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ساعة قدومه إليها، وكانت بداياته من ذوي الوجاهة في أقوامهم، ومن ذوي التطلع لقيادات في مجتمعهم، فكان قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- قاطعاً لأطماعهم، ومبددا لآمالهم، فلم يطيقوا التبعية لغيرهم، والانصياع لقائد وافد عليهم، شرقوا بالدعوة، ولا طاقه لهم بالمقاتلة، فالناس يدخلون في دين الله أفواجا، وهذا الدين لبى حاجاتهم، وقضى على فوضوية وحروب أنهكتهم، ورفع أيدي المستبدين عن أعناقهم! فمالهم لا يقبلونه؟
فكان الخيار السيء لهذه الفئة التي لم ترتض الوضع الجديد إظهار الموافقة ظاهراً والعداء باطنا! إنه النفاق الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين، وعَلَمٌ في قائمتهم إلى يوم الدين: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) [الحـج: 18]، فماذا عنده؟ وماذا يريد؟
لا يزال النفاق -نسأل الله العافية- ينمو في قلبه وفي قلب أتباعه حرقة وحنقاً!
وتاريخهم مسود، وأيامهم تضيق بهم، وتشتد، وخاتمهم عذاب دائم ممتد.
وقبل أن تقول: مالنا وللنفاق، حدثنا عن الإيمان، وعن درجات الجنان؟
فأقول: خير الحديث كتاب الله، وفيه حديث عن الإيمان والنفاق، وعن درجات المؤمنين ودركات المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145].
وأقول: خير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، وفي الثانية سورة المنافقون، يقرأهما كاملتين!
أترى هذا يأتي عبثا في الاختيار! وهو المبلغ عن ربه البلاغ المبين.
حديث القرآن عن المنافقين حديث كثير استوعب أطوارهم المختلفة وفي القرآن ما يزيد على مائتي آية فيما يقارب ثلاث عشرة سورة مدنية.
إلا أن وقفاتنا في السورة التي تميزت باسم سورة المنافقون وشغلها الشاغل نقل أحداث في وقت كان للمنافقين نوع حضور في المجتمع، ولهم ذكر، وبوادر مكر، ونلحظ في ثنايا سورة المنافقون تمرداً واضحا على السلطة النبوية والمرجعية الدينية!
فما أشبه الليلة بالبارحة!
ابتدأ الله السورة بقوله: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ) [المنافقون: 1] ولم تسم واحدا منهم!
كما لم تسم بقية سورة لقرآن أحدا بعينه لاعتبارات كثيرة من أهمها: أن قضيتنا هي مع النفاق، وليست مع أشخاصه، والأشخاص يذهبون، ويحمل النفاق من بعدهم من ارتضى طريقتهم إلى يوم الدين.
وذكر الأسماء قد لا يستوعبه الناس خصوصاً إذا رأوا من امتلأ قلبه نفاقاً يصلى ويتصدق، وربما ظهر بمظهر الناصح المتباكي على واقع المسلمين ومستقبل الأمة!
يتباكى بدموع التماسيح كما يقال! وما يميزها إلا العالمون!
وإليك ما نقله شيء الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حتى تدرك أن شأن المنافقين شأن عظيم، وتلبيسهم ومكرهم مكر كبارا، قال: "فإن ابن أُبي كان مظهرا لطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والإيمان به; وكان كل يوم جمعة يقوم خطيبا في المسجد يأمر باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن ما في قلبه يظهر إلا لقليل من الناس إن ظهر!" انتهى كلامه.
والقصد من هذا النقل عن هذا الحبر المطلع وجوب الحذر، وألا نكون أتباعاً لكل ناعق يدعي نصرة الإسلام، وكياسته لقضاياه، وإدراكه لمألات الأمور وعواقبه، ومع حذرنا نحن أبعد الناس عن الاتهام مهما قويت القرينة، كيف ونحن مأمورون بالتعامل بالظاهر، وعدم الشق عن قلوبهم؟
ولما قال رجل عن أحد الصحابة: إنه منافق! يجالس المنافقين، ووجهته وجهة المنافقين! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا فيه ذلك، ألا ترى أنه يقول: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله" [متفق عليه].
أيها الإخوة: سورة المنافقون تبرز المنافقين وهم يزاحمون ولي الأمر سلطته فهم يدعون إلى التضييق على الصحابة الذين استقبلهم إخوانهم الأنصار أعظم استقبال، وسجل التاريخ أعظم إيثار قاموا به حينما وقاهم الله شح أنفسهم: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن: 16].
أما النفوس الذين أحضرت شحها فقالت: (لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا) [المنافقون: 7] حصار اقتصادي، فهم دولة داخل الدولة!
فجاء رد الله عليهم: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7].
وما علموا أن المهاجرين كانوا أغنياء قي قومهم وخرجوا تاركين ما أغناهم الله به، لما عاهدوا الله عليه: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8].
وفي سورة المنافقون يسجل الله ما هو أعظم من هذا وهو تصنيف المجتمع، وإقصاء طائفة لم تعجبهم، وأزعجهم تدينهم، ولا يجدون حرجاً أن يسموهم بالأذل، ويرتقوا بأنفسهم ليكونوا الأعز: (يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: 8]، ويعنون بالأذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وبالأعز أنفسهم عبد الله بن أبي ورفاقه.
ولا يزال الغرور يملي على المنافقين أنهم علية القوم، والطائفية النخبوية التي حقها الصدارة في المجتمعات وأعلى المراكز في الدولة فهم الفاهمون وغيرهم دراويش، أصحاب ذهنية وحداوية سوداوية يمارسون الكهنوت.
لا يرون لعالم حقه، ولا لذي فضل فضله إلا بمقدار ما يحفظ عليهم مصالحهم، ويبعد التهمة عنهم!
والأيام دول، والأحداث كفيلة بأن تظهر مستور قلوبهم، وأن تكشفه فلتات ألسنتهم، وما تسطره كتاباتهم، وتنطوي عليه تغريداتهم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
تلك وقفات عجلى على شيء من حال المنافقين في سورة المنافقون، والمرجح أنها أحداث في غزوة بني المصطلق في السنة الخامسة من الهجرة زمن نشوة عاشها المنافقون لم تطل كثيرا، حتى أبطل الله كيدهم ونكس رؤسهم وأنزل فيهم السورة الفاضحة التي لم تبق منهم مسخفياً إلا كشفته ولا متواريا إلا بحثت عنه وقشقشته إنها سورة براءة الله من المشركين، وتوبته على عباده المؤمنين، سورة التوبة، ولو شاء الله لانتصر منهم عقب كل حدث في وقته، وأنزل فيه عقوبته، ولكن ليبلوا بعضكم ببعض: (وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 30 - 31].
فاثبتوا -عباد الله- ولا تستلموا للأراجيف، فهذا زمنها، وأصحابها إنما هم كما قيل: "كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد".
فرحم الله أمرء أرى الله من نفسه ثباتاً قي زمن المتغيرات، فلايزال سمعه إلى علمائه، ولا تزال يده في يد ولاة أمره طاعة بالمعروف سراً وعلانية، وصدق دعاء في ظهر الغيب، ولا تنقلبوا على اختارهم الله منافحين عن الحق، مجادلين أهل الباطل لا تنقلبوا عليهم مستخفين بما يقومون به، مرددين تهما تختلق عليهم: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم: 30].
قوله تعالى: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120].
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
فاللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الكلمات: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الكلمات".
التعليقات