اقتباس
وعلى كل حالٍ، فإن التأكيداتِ المتعددة كانت تعني -من الناحية اللا شعورية- أنهم كانوا كاذبين، وتبيَّن يعقوبُ -عليه السلام- أن أبناءه يُخْفون أمرًا ما من خلال هذه الطريقة في التعبيرِ، ومن خلال رؤيا ابنه، ومن خلال معرفتِه بنفسيات أبنائه الآخرين، وتحذيره ليوسف من إيقاع الشيطان؛ ولهذا عقَّب عليهم بقوله -عليه السلام-: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، مصرِّحًا لهم بذلك، بأنه لم يصدِّقْ روايتَهم.
هذه السورة مكِّيَّة كلها على الرأي الراجح، وقد نص على ذلك عددٌ كبير من العلماء، ونقل عن البعض أنَّ الآيات الثلاثة الأولى والآية السابعة منها مدنيَّة، غير أن السيوطي ذكَر في الإتقان أن هذا الرأي واهٍ لا يُلتَفَت إليه، ولمعرفة من نص على مكيَّتها، والموقف من مدنيَّة بعضها، وترتيب السورة يراجع: jamharah.net؛ ففيه تفصيل للآراء، وتحقيق جدير بالثناء.
إن السورةَ في مجملها إشعارٌ غير مباشر لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بأنه سيُكرَه على الخروج، وتركِ ديارِه من قِبَل قومه، كما أُكرِه يوسفُ على ذلك من قِبَل إخوته، وأن عاقبة الأمر ستكون متماثلة، فكما أن إبعادَ يوسف -عليه السلام- هيَّأ لعلوِّ شأنه ومُلكه، ثم عفوه عن إخوته الذين ظلموه، فإن الأمرَ سيكون كذلك لرسولِ الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ خروجًا، وظهورًا للدِّين، وعلوَّ شأنٍ، ثم عفوًا عن الذين حارَبوه، وهو ما حصل ووقَع.
1- (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [يوسف: 2، 3].
أي: لعلكم تفقَهون وتفهمون، ولئن شئتم تدبُّر مراد القرآن، لكان ذلك في مقدوركم؛ فقد نزل بلُغَتِكم وكلامكم، وفي (أَحْسَن الْقَصَصِ) إشارةٌ إلى كثرة ما يمكن قصُّه على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن لم يوحَ إليه بها كلها، بل انتُقِي منها ما كان أكثرَ دلالةً ومناسبة لمراحل الدعوة الإسلامية.
والمراد بـ(وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)؛ أي: من الذين لم يكن لهم عهدٌ بهذه القصص من قبلُ، والله أعلم.
2- (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [يوسف: 4].
التاء في (يَا أَبَتِ) بدل من الياء في "أبي" عند البصريين، ولا تستعمل إلا في النداءِ، ولا يُجمَع بين التاء والياء ليقال: يا أبتي، و(رَأَيْتُهُمْ) تأكيدٌ لـ(رَأَيْتُ) ومفعوله.
وقال في الكواكب والشمس والقمر: (سَاجِدِينَ) بعلامة جمع المذكَّر، ولم يقل: رأيتها لي ساجدة كما تقتضي القاعدةُ العربية، وعلل الطبري ذلك بقوله: "وإنما قيل كذلك؛ لأن السجودَ مِن أفعال مَن يُجمَع أسماءُ ذكورهم بالياء والنون أو الواو والنون، فأخرج جمع أسمائها مخرَجَ جمع أسماءِ مَن يفعل ذلك، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [النمل: 18]. تفسير الطبري (15/554)، وينظر تفسير البغوي (4/213)، تفسير القرطبي (9/107).
3- (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف: 5، 6].
قدَّم يعقوبُ -عليه السلام- النصيحةَ لابنه، وحذّره من الشيطان قبْلَ أن يفسِّر له رؤياه، وكذلك فعل يوسفُ -عليه السلام- مع صاحبيه في السجن؛ فقد دعاهما إلى الإسلام أولاً.
ويتعدى الفعلُ "كاد" بنفسه، فيقال: كاد الرجل فلانًا؛ أي: خدَعه ومكَر به، ويتعدى باللام فيقال: كاد له، بمعنى: احتال له، وقد ورد هذا الفعلُ في هذه الآية متعدِّيًا باللام: (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا)؛ أي: يحتالوا لكي يجدوا أمرًا يلحقون بك الأذى عن طريقه.
ويبدو -والله أعلم- أن تعدِّيَ الفعل بنفسه يحمل معنى الاحتيال الواقع مباشرة على مَن يراد إلحاق السوء به، وأن تعديَه باللام يحمل معنى الاحتيال عليه، والوصول إلى الغاية بشأنه، بالاحتيال على غيره أيضًا إذا اقتضى الأمر، ولو قيل: "فيكيدوك" لكانت الحيلةُ على يوسف وحده، ولكن (فَيَكِيدُوا لَكَ) بالتنبيهِ إلى أن إلحاقَ الأذى به سيصير غاية، وأنه لن يكون وحده عُرضةً للمكر، وهذا ما حصل؛ فقد احتال أبناءُ يعقوب -عليه السلام- على أبيهم بما قالوا له، واحتالوا على يوسف -عليه السلام- بأن أظهروا له الرِّفق واللِّين ما داموا في مرمى نظر أبيهم، حتى إذا زال الحذرُ وانفردوا به، فعَلوا به ما كانوا قد عزَموا عليه.
وأوَّلَ يعقوبُ -عليه السلام- رؤيا يوسف بالاجتباء، ومن معاني الاجتباء: الاصطفاء والاستخراج، وكلا المعنيين وافَقَ يوسفَ -عليه السلام-؛ فقد أوحى الله تعالى إليه وهو في الجُبِّ، واستخرجه منه، كما استخرجه من قبلُ من يدي أبيه، واستخرجه مِن بعدُ مِن السجن.
ولعل يعقوبَ -عليه السلام- أراد معنى الاستخلاص، من غير أن يحددَ أهو استخلاص ديني أم دنيوي، فكلاهما محتمل، وربط هذا الاستدلال بسجودِ الكواكب والشمس والقمر، ولا شك أنه فطِن إلى أن هذه الكواكبَ كانت ترمُزُ إليه هو، وإلى زوجِه وأبنائه، وأن شأن يوسفَ الدنيويَّ سيرتفع، بحيث إنهم سيسجدون له، وأن هذا الارتفاع اجتباءٌ، ولأن يعقوبَ -عليه السلام- كان نبيًّا سجد لابنه بحسب الرؤيا، فلا بد أن يصير الابن نبيًّا أيضًا؛ ولهذا ذكر أن الله تعالى سيُتم نعمتَه عليه، كما كان الشأن مع آبائه: (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ) [يوسف: 6].
وعلاوة على ذلك، فقد استنبط يعقوبُ -عليه السلام- أن اللهَ -سبحانه وتعالى- سيُعلِّم ابنه (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) [يوسف: 6]، ولعله استنبط ذلك من أن الرؤى في حقيقتها عبارةٌ عن رموز يتأتى للبعض فقط أن يعرفوا مغازيَها، وبالنظر إلى الشمس والقمر والنجوم، بعيدًا عمن كانت تشير إليهم، وباعتبارها رموزًا مجردة؛ فإنها سجَدَتْ لابنه، والخضوعُ من معاني السجود، وقد استدل يعقوبُ -عليه السلام- بهذا على أن الرموزَ ستخضع لابنه، وسيكون هو متمكنًا منها، وقادرًا على فكِّ شفرتها، وتبيُّن دلالتها.
وهذا يعني أن يعقوبَ -عليه السلام وقد حلل رؤيا ابنه- أنه كان هو أيضًا عارفًا بتأويل الأحاديث؛ فقد فسَّر الرؤيا لابنه تفسيرًا صدَّقه الواقع تمامًا بعد سنين طويلة؛ إذ استخرج منها ثلاثَ مسائل: المُلْك، وتأويل الأحاديث، والنبوة، ولعلَّ هذا هو ما كان يشيرُ إليه فيما بعدُ، عندما قال -بعد أن عُوتِبَ على دوام ذِكره ليوسف-: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 86]؛ أي: إنه -وإن خفِي عنه مكانُ ابنه- يعلمُ أن الله هيّأه للملك والنبوة، وأنه لا بد لذلك أن يكون موجودًا في مكانٍ ما على وجه الأرض.
4- (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [يوسف: 8].
ولكنهم تآمَروا على يوسف دون أخيه، وروى الطبري بسنده أنهم قالوا: "ما رضِيَ أن يسجد له إخوتُه حتى سجد له أبواه، حين بلَغهم". تفسير الطبري (15/555).
أي: إن الرؤيا كانت السبب الرئيس لِما فعلوا، ولعلهم أيضًا فهِموا من الرؤيا ما فهِمه أبوهم، فخططوا للتخلُّص من يوسفَ -عليه السلام- وحده: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [يوسف: 9]، وكان هذا -فيما يظهرُ- بدافعِ الحسد، لا بدافع الغَيرة من قُربه من أبيه؛ فقد كان أخوهم الآخر -بنيامين- يحظى بذات المكانة من قلب الأب، كما صرَّحوا هم، ولكنه لم يرَ منهم ما رأى يوسفُ، فما تعرضوا له، وتكشِفُ دلالة ما قال الإخوة في أواخر السورة أن فِعلَهم كان حسدًا، ولكنهم لم يُفلِحوا في طمس الإيثار الذي كان ينتظره: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) [يوسف: 91].
5- (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) [يوسف: 13].
التقط أبناؤه ما يخاف منه الأبُ، فكان أن زعموا له فيما بعدُ أن الذئبَ أكلَه؛ لتُحرِّك روايتُهم مكمنَ خوفِه، فيُصدِّقَهم.
6- (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 15].
"ذهَب": فعل لازم، وإذا تعدى بحرف تغيَّر معناه، وذهب به يعني: استصحبه، كما يعني: أزاله، فيقال: ذهب العلمُ بالجهل؛ أي: أزال العلمُ الجهلَ، وكلا المعنيين واردٌ هنا؛ فقد استصحب يوسفَ إخوتُه، وأزالوه عن أبيهم، وذكر الطبري أن "أجمعوا" جواب لـ"لَمَّا" دخلت عليه الواو، وله شاهدٌ في قول امرئ القيس:
فلمَّا أجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتَحَى *** بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي قِفَافٍ عَقَنْقَلِ
فعد "انتحى" جوابًا لـ"لَمَّا"، دخَلَتْ عليه الواوُ. تفسير الطبري (15/575).
وتأويلُ الطبريِّ يعني أن نقاش الإخوة بشأنِ ما ينبغي فِعله بيوسفَ كان بعد أن أخَذوه، وسياق الآيات السابقة يشير إلى أن هذا النقاشَ كان قبل أخذِه، وأن ما سيُفعَل به كان قد تم الاتفاقُ عليه، وهو أن يُلقَى في الجُبِّ، ولعل جواب "لَمَّا" والحال هذه محذوفٌ يُفهَم من السياق، ويكون تقديره: فلما ذهبوا به وكانوا قد أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب، فعَلوا به ما اتفقوا عليه: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [يوسف: 8 - 12].
7- (وَجَاؤُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 16 - 18].
اختاروا وقتَ العِشاء؛ ليستعينوا بظُلمته على إخفاءِ ما مِن شأنه أن ينبئ عن زيفِ ما يدَّعون، ومن العجبِ أنهم بدَوْا وكأنهم نسُوا أن أباهم نبيٌّ، وأن ربَّه سيُطلِعه على حقيقة الأمر، وانطوت حكايتُهم المختلقة على نكثِ العهد الذي قطعوه لأبيهم بالمحافظةِ على ابنه، حين أرادوا إقناعه بالموافقة على أن يستصحبوه، حيث قالوا: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [يوسف: 12]، وقد أكَّدوا الحفظ بثلاث طُرق؛ بحرف التوكيد: "إن"، وتقديم شبه الجملة "له" لإفادة زيادة الحرص، واقتران خبر "إن" بلام التوكيد، وفضلاً عن ذلك فإن كلمةَ الحفظ ذاتها دالةٌ على الصيانة والحراسة والرعاية، غير أنهم لم يَفُوا بالوعد؛ فقد ذهبوا -بزعمِهم- ليلعَبوا وتركوا يوسف وحيدًا، وكان عليهم أن يُشرِكوه معهم، ألم يقولوا لأبيهم: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [يوسف: 12]؟! فهو لم يشرك معهم في اللعب، وأي استباقٍ هذا الذي شغَلهم عنه حتى أكله الذئب؟! ولأنهم كانوا كاذبين؛ فقد بادروا أباهم بطريقتين: بإدخال الباءِ على خبر "ما" التي تفيد التوكيد (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) [يوسف: 17]، وبادِّعاء الصِّدق (وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) [يوسف: 17].
وادعاؤُهم الصدقَ يشتمل على البطلان من خلال تركيبه؛ فهم لم يقولوا مثلاً: "وإن كنا صادقين"، فإن "إنْ" حرف شرط جازم، يجعَلُ التعلُّق بالمستقبل، وهو الذي يسبق إلى الفهم؛ كالقول مثلاً: إن أخبرتَني بحقيقة الأمر عفوتُ عنك؛ فالإخبار والعفو سيكونانِ في المستقبل، ولو قال الإخوة: وإن كنا صادقين، لكان ذلك مشيرًا إلى أن صدقَهم سيظهرُ فيما بعد، وبما أنهم كانوا كاذبين، فإن الاستعمالَ الدقيق ارتهن بـ"لو"؛ فهو يتعلقُ بالماضي، ويُوقِف الادعاءَ في زمن الكلام ولا يجرُّه كما تفعل "إن" إلى زمن لاحق، ويمكن أيضًا أن يلحظ أنَّ "إنْ" جازمة و"لو" غير جازمة، وكأن استعمال "إنْ" ينطوي على الجزم بالصدقِ، ولأنهم لم يكونوا كذلك، عدَلوا عنه إلى استعمال ما يحسر ذلك الجزم، وهو "لو"، والله أعلم.
وعلى كل حالٍ، فإن التأكيداتِ المتعددة كانت تعني -من الناحية اللا شعورية- أنهم كانوا كاذبين، وتبيَّن يعقوبُ -عليه السلام- أن أبناءه يُخْفون أمرًا ما من خلال هذه الطريقة في التعبيرِ، ومن خلال رؤيا ابنه، ومن خلال معرفتِه بنفسيات أبنائه الآخرين، وتحذيره ليوسف من إيقاع الشيطان؛ ولهذا عقَّب عليهم بقوله -عليه السلام-: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 18]، مصرِّحًا لهم بذلك، بأنه لم يصدِّقْ روايتَهم.
8- (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 21، 22].
وهذا هو الترتيبُ الذي ذكَره يعقوبُ -عليه السلام- عندما أوَّلَ رؤيا ابنِه؛ فالتمكينُ في الأرض هو مِن باب الاجتباء، وتلاه تأويلُ الأحاديث، ثم أُوتِيَ الحُكْم والعِلم عندما بلغ أشُدَّه.
9- (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].
قد يعودُ الضمير "الهاء" في "إِنَّهُ" في قوله سبحانه: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ) [يوسف: 23] على الله تعالى، ويوسفُ بهذا يردُّ كل شيء إليه -جل وعلا-؛ فهو الذي آواه وأحسَن مثواه، وقد يعود الضميرُ على عزيزِ مصرَ، الذي ذكَرَ الجملةَ التي استعاد يوسف -عليه السلام- مغزاها: (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) [يوسف: 21]، فقال العزيز: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) [يوسف: 21]، وقال يوسف -عليه السلام-: (أَحْسَنَ مَثْوَايَ) [يوسف: 23]، وبكلٍّ من الرأيينِ قال عددٌ من العلماء؛ كالزَّجَّاجِ، ومجاهد، وابن إسحاق، والسُّدِّيِّ.
10- (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
وورودُ "لولا" -وهو حرف امتناع- يعني أنه -عليه السلام- لم يهُمَّ بها، وتقدُّم جواب "لولا" كثيرٌ في القرآن الكريم، ولكن النحاة يرَوْن أن المتقدمَ يدلُّ على الجواب المحذوف، الذي يكون ورودُه بعد أن تستوفيَ "لولا" الفعلَ الأول، والتأويل هنا هو: "وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه لَهَمَّ بها"؛ فهو لم يهُمَّ إذًا، ولعلَّ "الهم" الذي كان منه هو إرادةُ دفعها عن نفسه بالقوة؛ كأن يضربَها مثلاً، وربما نتَجَ عن ذلك إيذاؤُها أو قتلُها، ألم يُقضَ على الرجل حين وكزه موسى -عليه السلام- وهو لم يُرِدْ قتله؟! ولكن نبوَّتَه حالَتْ دون ذلك؛ ولهذا قال الله تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) [يوسف: 24]؛ فالسُّوء هو ضربُ المرأة، أو قتلُها، أو القِصاص منه هو إن أهلَكها أو ما شابَهَ، والفحشاء؛ أي: الزنا، ولعلَّ هذا المعنى الذي أورَده الطبريُّ عن بعضهم -تفسير الطبري (16/38-39)- أقربُ إلى ما يناسبُ مقامَ الأنبياء وعصمتَهم.
11- (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) [يوسف: 25 - 29].
السيِّد هو الزوج، كما قال الطبري -تفسير الطبري (16/51)-. وذكر القرطبيُّ أن القِبط يسمُّون الزوجَ سيدًا. تفسير القرطبي (9/171).
بادرت المرأةُ إلى اتهام يوسفَ -عليه السلام- وتحديدِ عقوبتِه؛ لكي تدرَأَ عن نفسها ظنَّ زوجِها، ولربما أدرك زوجُها ما في كلامها من بطلانٍ، وذلك من مظهرِها الذي كانت قد هيَّأَتْ نفسَها به؛ ولهذا فإنه لم يبادِرْ إلى معاقبةِ يوسف بمجرد الاتهام، بل إنه استمَعَ إليه وهو يردُّ التُّهمةَ عن نفسه.
وتقدَّمت فرضيةُ صِدق المرأة؛ لأن الشاهدَ كان من أهلِها، ولأنها كانت من عِليةِ القوم، ولأن الرجلَ في العادة هو مَن يقومُ بالحركةِ المُريبة، ومن الغريب أن العزيزَ -وقد تبين له الافتراءُ- لم يتخِذْ موقفًا حازمًا، بل اكتفى بأن طلب من يوسفَ -عليه السلام- أن يُعرِضَ عن الموضوع، وطلب من امرأتِه ألا تعاودَ ما فعلَتْ؛ لأنها كانت مخطئةً!
12- (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) [يوسف: 30].
ذكَّرَ الفعلَ مع أن الفاعل مؤنَّثٌ، وهذا جائزٌ؛ كجواز: قالت الأعرابُ، وقال الأعرابُ، كما أن النِّسوة اسمٌ مفرد لجمع المرأة، وتأنيثُه غير حقيقيٍّ، ومن ثَم لم تلحَقْ بها تاءُ التأنيث.
13- (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف: 31].
تعكسُ هذه الآية فِراسةَ امرأة العزيز فيما سيحصُلُ للنِّسوة إذا رأَيْنَ يوسفَ؛ ولذلك فإنها: (آتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا) [يوسف: 31]؛ ليكون قطعُ النسوة لأيديهن ونزفُ الدمِ منهن دليلاً ماديًّا لإعذارِها ولإسكاتِهن، وهو أمرٌ لا يتحققُ بالأدلة القابلة للإنكار أو الإخفاء، من مِثل المشاعرِ الداخلية المستثارة.
وفي الوقت ذاتِه يتبيَّنُ من هذه الواقعة كم كان ذلك الوسطُ منفلتًا من أيِّ ضابطٍ؛ بحيث إن النِّسوةَ كلَّهن -وكنَّ من السَّرواتِ وذواتِ أزواج- غيرُ قادراتٍ على أن يمنعن أنفسهن مما وقعن فيه، وربما كان هذا الانفلاتُ طبعًا سائدًا في أوساط الطبقة العالية فقط، وإلا فقد كان مع يوسفَ -عليه السلام- في عملِه في القصر نساءٌ أخريات، غير أنهن لم يفعَلْنَ ما فعلته نساءُ الأكابر!
14- (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 32، 33].
الكلامُ على لسان امرأةِ العزيز، وكانت متأكدةً أنها قادرةٌ بسلطانها على أن تسجِنَ يوسف -عليه السلام-، ولكنها لم تكن واثقةً من إخضاعه لِما تريد؛ ولهذا جاءت نونُ التوكيد ثقيلةً في (لَيُسْجَنَنَّ)، وخفيفةً في (وَلَيَكُونًا)، لتعكسَ الثقيلةُ ثقتَها وتأكُّدَها، فقد تسببت فعلاً في سَجنه، ولتعكس الخفيفةُ هزيمتَها؛ إذ فشِلَتْ في إخضاعِه وحملِه على الاستجابةِ لها.
إنَّ امرأةَ العزيز كانت هي المتكلمةَ الطالبةَ الآمرة، ولكن يوسف -عليه السلام- استعاذ باللهِ مِن النِّسوةِ الأخريات أيضًا؛ لأنهن كنَّ يدفَعْنَه إلى ألا يرُدَّ رغبتَها.
15- (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف: 35].
والآياتُ التي رأوها هي دلائلُ براءة يوسف، ولكن يبدو أن وجوه الحُكم من الرجال لاحظوا أن نساءهم قد فقدْنَ زمام أنفسهن، أو أن الكلام كثُر، فأرادوا أن يوحوا للناس أن يوسف -عليه السلام- هو المذنبُ، فقرَّروا سَجنه؛ لقطع الألسنة، ووقاية لسمعة العائلة أو العوائل الحاكمة، ولأنهم هم مَن حكم، فقد ورد الضميرُ بالتذكير: (بَدَا لَهُمْ)، ولعلهم أرادوا سجنه لأجَلٍ محدود إلى أن تهدأ الحال: (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)، ولكنه نسي فبقي في السجن مدة طويلة، ولأن الرجالَ هم الذين حكَموا بسَجنه، ولعلهم طووا نفوسهم على شيء في هذا الصدد، فإن يوسف -عليه السلام- لم يشَأْ أن يخرج من السجن قبل أن تُقِرَّ النسوةُ بحقيقة ما جرى؛ لكيلا يبقى في نفوس الرجال ريبٌ، إن كان.
16- (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [يوسف: 37].
قد يكون الطعامُ الذي أشار يوسف -عليه السلام- إلى تأويله هو ما رآه السجينان في منامهما؛ فقد كان أحدُهما يعصِر العنب ليصيِّره خمرًا، ويحمل الثاني فوق رأسه خبزًا، والعنب والخبز طعام، وذكر يوسف -عليه السلام-: (إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا)؛ أي: قبل أن يتحولَ الرمزُ إلى واقع حاصل، أو حقيقة واقعة، وإن تأويلَه لذلك هو مما علَّمه ربُّه سبحانه.
وقد يؤخذ قوله: (بِتَأْوِيلِهِ) بمعنى: ببيانه، ويكون المعنى أنه يخبرهما بأمر من الأمور الغيبية، وهو الطعامُ الذي سيأتي إلى السجن قبل وصوله، حتى إذا جاء وكان على النوع والصِّفة اللذينِ ذكَرهما يوسف -عليه السلام-، كان ذلك الصدقُ في الإخبار مَدْعاةً لاقتناع السجينين والنزلاء الآخرين بصحة ما نوى يوسف قوله.
وقد نفَذ يوسفُ -عليه السلام- من كلا الاحتمالين إلى الدعوة إلى إرجاع عِلمه ذاك إلى ربه سبحانه، ومن ثَم إلى بيان عقيدته، ومن أي قوم هو، فإذا لمس مَن كان معه في السجن أن إخبارَه بأمر الطعام الغائب -سواءٌ كان المراد به الطعام الذي رآه السجينان، أم الطعام الذي كان سيأتي للسجناء- صحيحٌ، فإن إخبارَه بوحدانية الله تعالى -وهو غيب أيضًا- لا بد أن يكونَ صِدقًا هو الآخَر.
ولم يعاجل -عليه السلام- بتأويل المنام، بل سلك الطريقَ التي سلكها أبوه معه من قبلُ حين حذَّره من إخوته، ومن كيد الشيطان، فقدَّم الدعوة أولاً إلى طريق الحق، وكان هذا لسببين: أولهما: هو استثمار التطلُّع النفسي للسجينين لِما سيكون عليه التأويل، والثاني: هو أنه استنبط من الرؤيا أن أحدَ السجينين سيُقتَل، فأراد يوسف -عليه السلام- بدعوته لهما إنقاذَهما -وخاصة المُشارِفَ على القتل منهما- من النارِ التي كان يوشك على الوقوع فيها.
وذكَر يوسف التأويل على أنه جزءٌ مما علمه الله تعالى؛ ذلك أنه سبحانه علَّمه -فضلاً عن التأويل- كيفيةَ تدبير شؤون الدولة، والتنظيم الاقتصادي، وكيفية التعامل مع الناس، وغيرها.
17- (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 39، 40].
خاطَبهما خطابًا رقيقًا؛ فوصفهما بالصاحبين، ولكنه في الوقت ذاته فصَل نفسه عنهما؛ إذ لم يجمَعْه بهما إلا السجن، فلم يكتفِ بكلمة (يَا صَاحِبَي)، بل أضاف إليها السجنَ؛ لأن عقيدته وسلوكه وطبعه كانت على خلاف ما كان عليه الآخرون، والصحبةُ مِن ثَم كانت مكانية لا عقائدية، ومع أنه كان يوجِّهُ كلامَه إلى السجينين فإنه عدَل عن استعمال ضمير المثنى إلى استعمال الجمع في قوله: (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ)، ليشمل الكلامُ صاحبَيِ الرؤيا على الخصوص، والسجناء الآخرين على العموم؛ لأنهم جميعًا كانوا على غير الجادة والصواب، وكانوا بحاجة إلى مَن يُرشدهم إلى الصراط القويم، وبعد أن انتهى من عرض فكرة التوحيد، عاد ليخصَّ السجينين بالخطاب فقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41].
18- (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف: 42].
ويعود ضمير الكاف في "ربك" والهاء في "فأنساه" و"ربه" على السجين، والدليل على أن الساقيَ هو الذي نسِي تذكُّرَه في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف: 45]؛ أي: وتذكَّر بعدَ حينٍ من الدهر.
19- (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 46].
بهذا الخطاب (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) نتبيَّنُ أن تأويل يوسف -عليه السلام- لرؤيا السجينين كان صادقًا وواقعًا، والذي أرسل الساقيَ للاستفتاء هو الملِك، غير أن المرسل قال: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)، فعمَّم؛ وذلك لأن الملكَ طلب من حاشيته ورجال دولته تأويلَ رؤياه، وإذ قالوا له: (أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) [يوسف: 44]، فإن الرؤيا صارت معروفةً للجميع، وأراد الرسولُ أن يتحققَ أمرانِ، وهما: أن حاشية الملِكِ سيُدركون عندما تؤوَّل الرؤيا لهم أن ليوسف -عليه السلام- عِلمًا لا يمتلكونه هم، وقد يكون من شأن ذلك أن يمهد الطريق ليوسف -عليه السلام- في أن ينجوَ من كربه، وربما أن يكون له شأن بسببه.
20- (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) [يوسف: 47 - 49].
قوله: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ) [يوسف: 47]: لا علاقةَ له بالرؤيا، ولكنها نصيحة وتعليم في كيفية مواجهة الخَطْب القادم، وتعكس هذه النصيحةُ رحمةَ النبيِّ بالأمة، فدلَّهم على سبيل مواجهة المشكلة، ولم يكن سَجنُهم إياه حائلاً دون إبدائها لهم، أو دافعًا إلى أن يبخَلَ بها عليهم.
(فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)، وردت: "يُغَاثُ" بالبناء للمجهول؛ لأن الذي كان يُغيثهم بالمطر هو اللهُ -سبحانه وتعالى-، وقد يسند نزول المطر إلى المطر نفسه على سبيل المجاز العقلي، ولكن يوسف -عليه السلام- جعَل الفعل ملحوظَ الإسناد إلى فاعله الحقيقيِّ ببناء الفعل للمجهول، ولم يكن في رؤيا الملك ما يُشِير إلى هذا العام المخصب، ولكن القرطبي ذكر أن ذلك كان خبرًا من يوسف، ومِن عِلم الغيب الذي آتاه الله تعالى؛ إظهارًا لفضله، وإعلامًا لمكانه من العِلم. تفسير القرطبي (9/204).
ويمكن القول: إن يوسفَ -عليه السلام- استدل على الأعوام الخصبة والمجدِبة بالبقرات وبالسنابل السبع في هيئاتها المختلفة؛ فإذ دلَّت عنده على الرخاء أولاً، ثم على القحط بعدئذٍ، فقد استدل أن ذلك القحطَ سيستمرُّ سبعة أعوام، وأن انتهاءَه سيكون بالزَّرع الذي يُنبته الغيثُ.
21- (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف: 51، 52].
القائل هو الملِكُ، وفي كلامه دلالةٌ واضحة على قناعته بالحجَّة التي عرَضها يوسف -عليه السلام- في الآية السابقة، وهي: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) [يوسف: 50]، وأنه كان يراه بريئًا، ثم زاد يقينُه بإقرار النسوة، وإقرار امرأة العزيز.
ومِن جهة أخرى، فإن الآيةَ تنطوي على نبوءةٍ ليوسف -عليه السلام- ومعجزة؛ إذ يبدو أن الله تعالى أعلَمَه أن النسوة سيُقْرِرْنَ بما حصل؛ ولهذا فإن سؤالَه: (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) سؤالُ الواثقِ مِن أن الجواب سيكون مطابِقًا لِما جرى، وإلا ألم يكن من المحتمل أن تبقى النسوةُ وامرأة العزيز على رأيِهن الأول وإنكارهن؟!
واختلف فيمن قال: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) [يوسف: 52]، فقيل: هو مِن كلام امرأة العزيز، وقيل: من كلامِ يوسف -عليه السلام-، وقيل: مِن كلام العزيزِ، بمعنى أنه لم يغفل عن مجازاة يوسف على أمانته، كما جِيء بكلام لا يناسب عصمة الأنبياء؛ إذ قيل: إن يوسف قال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]. تفسير القرطبي (9/209)، وغيره.
ونسبة الكلام إلى غيرِ امرأة العزيز سيجعل المقالات متداخلةً من غير إيجاد حدود فاصلة بين قائليها، فكيف بنا أن نعلَمَ أن هذا الجزء من قولِ المرأة، وأن التتمَّة مِن قول يوسف، أو من قول العزيز نفسه؟! وافتراض يوسفَ من بين القائلين يقتضي وجودَ تقديم وتأخير لا ضرورة له في الآيات لتصير هكذا، وليتضح ما قال يوسف وما قالته امرأة العزيز: (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 50- 55].
ولكن الآيات لم ترِدْ على هذا الترتيب، ونسَقُها المعلوم في القرآن الكريم يحمل على الميل إلى اعتبار امرأة العزيز هي التي قالت ذلك كله في لحظة الاعتراف بحقيقة ما جرى، فبعد أن أقَرَّت بمراودة يوسف، أقَرَّت أيضًا أنها لم ترتكبِ الخيانة، وإن دفعَتْها نفسُها إلى تهيئة الظروف لارتكابها، ومِن ثَم فإن (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53]: استدراكٌ منها على قولها: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ)؛ أي: ليعلَمَ الملِكُ أني لم أخُنْه؛ لأنها كانت تعتبر قضاء الأرَبِ خيانة، وهو ما لم يقع، مع كونها راغبةً في يوسف رغبة شديدة، وعاملة على استمالته وإغوائه.
وإذا كانت المرأة قائلة: (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه يعني أنها أصبحت مؤمنةً، ورجَتْ أن يكون تصحيحها للواقعة وتبعاتها سببًا للغفران والرحمة، كما يَشِي في الوقت عينِه باستمرار حبِّها ليوسف، ولكن بطريقة مغايرة؛ فقد كان حبها له أولَ مرة شهويًّا، وتسبَّب في النهاية في سجن يوسف، وصار في هذه المرحلة حبًّا "عقائديًّا"، إذا جاز القول، يتطلب منها التكفير عن خطئِها، والعمل على إزالة الظلم الذي ألحقته به -عليه السلام-، فكان أن اعترفَتِ اعترافًا لا لَبْسَ فيه بتحمُّلِها الوِزْرَ فيما حصَلَ.
إن في نسبة الكلامِ إلى امرأة العزيز شيئًا واحدًا، وهو افتراضُ إيمانها، وهو ممكِنٌ؛ فقد نشأ يوسفُ -عليه السلام- في بيتها، وكانت تعرف معتقده، وربما مالت إلى اعتناق ذلك المعتقد؛ لأنها اقتنعت به فيما بعد، أو بسبب محبتها ليوسف.
ومن جهة أخرى، فإن نسبةَ الكلام إلى المرأة أسلَمُ من أن يُنسب يوسفُ -عليه السلام- إلى ما من شأنه أن يقدَحَ في عصمته بوصفه نبيًّا؛ فقد ورَد في بعض كتب التفسير وبعض الأخبار أن يوسف -عليه السلام- هو الذي قال: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فقال له جبريلُ: ولا حين هَمَمْتَ؟! فقال: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي)، وقد أورد البوصيري هذه الرواية عن عكرمةَ مولى ابن عباس في إتحاف الخيرة المهرة (6/225)، وقال عن إسناده: إنه موقوف ضعيف، كما أوردها بهذا المعنى أنسُ بن مالك، وساقها الألباني في السلسلة الضعيفة تحت رقم 1991 وقال عنه: منكَر، ولا بد من عدم الاعتدادِ بخبر موقوف ضعيف منكَرٍ.
ومع ذلك فلئن أخذت الآية: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) على أنها من قولِ يوسف -عليه السلام-، وقد قال بذلك علماء، فمن الأسلم عزوُ عدم تبرئته لنفسه إلى ما لا يقدح في عصمته من قَبيل افتراضات همه بضرب المرأة، أو استجابته لطلبها في الخروج على النسوة، أو خطور احتمال صَبْوته إليهن ببالِه، أو ما شابه، والله أعلم.
22- (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 54 - 56].
و(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) للدلالةِ على ارتفاع شأنه ومكانته عند الملك، وعزمه على أن يجعله من المقربين إليه، وكان ذلك لأمرينِ أساسيين، هما: العلم والأمانة، وإن كان من الممكن إضافةُ عنصر آخر لهما، وهو الشعورُ بتأنيب الضمير على الظُّلم الذي ألحق بيوسف، ومحاولة تعويضه عما وقع له، ويستدل من قوله: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) على جواز أن يطلُبَ الكفءُ المنصبَ من أجل المصلحة العامة والإصلاح، لا من أجل إشباع النزعة الذاتية في التسلُّط والمكانة.
وعندما يكونُ الأمر كذلك، فإن المنصِبَ يصير بابًا من أبواب الرحمة يفتحُها الله تعالى على عباده، بأن يسخِّرَ لهم المخلِص الأمين لخدمتهم، مع ملاحظة أن ارتفاع شأن صاحب المنصب لصلاحه هو أيضًا رحمةٌ من الله تعالى، ليؤجَر على تحمُّله الأمانة بإخلاص: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ
التعليقات