عناصر الخطبة
1/قصة أسامة بن منقذ وفقد أهله وبلده 2/فقد الوطن من المصائب العظيمة 3/قيام الدولة السعودية على كلمة التوحيد 4/وجوب الحفاظ على الوطن واستقراره

اقتباس

وانظروا إلى مَن فَقَدَ السَّكَنَ، وَهَجَرَ الوَطَنَ، فَلا طَعامَ ولا مَاءَ، ولا دِفءَ ولا غِطَاءَ، واسألوهم عَن أَقصى أَمانِيهم، فَسيَقُولونَ: نَرجِعُ إلى أوطَانِنا، ونَعيشُ بَينَ أهلِنا، ونُعطى قُوتُ يَومِنا، فَهل رَأيتُم أن أقصى أَماني البَعضِ هِي مَا يَتذَمَّرُ مِنه البَعضُ؟!...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفُسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، أمَّا بَعدُ:

 

أَيُّها الأحبَّةُ: أُريدُكُم أَنْ تَتَخيَّلوا أَنَّكُم ذَلِكَ الرَّجلُ، وتَعيشُوا التَّجرُبَةَ التي عَاشَها، الرَّجلُ هُو القَائدُ الشَّجاعُ أُسامةُ بنُ مُنقِذٍ، وَكَانَ مِن فُرسانِ نُورِ الدِّينِ زِنكيِّ وصَلاحِ الدِّينِ الأيوبيِّ في الحُروبِ ضِدَّ الصَّليبيينَ، رَجعَ في عَامِ 552 للهجرةِ مَن أَحدِ مَعَارِكِهِ في الدِّفَاعِ عَن بِلادِ الإسلامِ، وَعِندَمَا وَصَلَ إلى بَلدِهِ شَيْزَر في الشَّامِ بِالقُربِ مِن حَماةَ، فَإذا قَد أَصَابَها زِلزَالٌ وهَدَمَ حِصنَها عَلى أهلِها؛ فَهَلَكَ كُلُّ مِن فِيها مِنْ أَهلِهِ وأَقَاربِهِ مِن بني مُنقِذٍ، فَلم يَبقَ لَهم عَينٌ ولا أَثرٌ، فَقَالَ قَصِيدةَ، وفِيها:

 

لم يتركِ الدَّهرُ لي من بَعدِ فَقدِهِمُ *** قلباً أُجشِّمُه صَبراً وسُلوانا

فَلو رَأَوْني لَقَالوا مَاتَ أَسعدُنا *** وَعَاشَ للهَمِّ والأحزانِ أَشقَانا

فَكنتُ أَصبرُ عَنهُم صَبرَ مُحتَسبٍ *** وَأَحملُ الخَطبَ فِيهم عَزَّ أو هَانَا

وأقتَدي بِالوَرى قَبلي فَكَم فَقدوا *** أَخَاً وكَم فَارقوا أَهلاً وَجِيرانا

 

وَاَلَّفَ كِتَاباً سَمَّاهُ (المَنازلَ والدِّيارَ)، وقَالَ فِي مُقَدِّمَتِهِ: "فَإنِّي دَعاني إلى جَمعِ هَذا الكِتابِ، مَا نَالَ بِلادي وَأَوطَاني مِن الخَرابِ؛ فإنِّ الزَّمانَ جَرَّ عَليهَا ذَيلَهُ، وَصَرفَ إلى تَعفِّيَتِها حَولَهُ وَحَيلَهُ، فَأَصبَحَتْ كَأنْ لمَ تَغنَ بِالأَمسِ، مُوحِشَةَ العَرَصَاتِ بَعدَ الأُنسِ، قَد دَثَرَ عُمرَانُها، وَهَلَكَ سُكَّانُها، فَعَادتْ مَغَانِيهَا رُسومَاً، والمَسراتُ بِهَا حَسَراتٍ وَهُمومَاً، وَلَقَد وَقَفتُ عَليهَا بَعدَمَا أَصَابَها مِن الزَّلازلِ مَا أَصَابَها، وَهِيَ أَولُ أَرضٍ مَسَّ جِلدي تُرابَها، فَمَا عَرفتُ دَاري، وَلا دُورَ وَالدي وإخوتي، وَلا دُورَ أَعمَامي وَبنيِّ عَمي وَأُسرتي، فَبُهْتُ مُتَحَيِّراً مُستَعيذَاً باللهِ مِن عَظيمِ بَلائه، وَانتزاعِ مَا خَوَلَّهُ مِن نَعمَائه.

 

 وَقَدْ عَظُمَتْ الرَّزيةُ حَتى غَاضَتْ بَوادِرُ الدُّموعِ، وَتَتَابَعتِ الزَّفراتُ حَتى أَقَامَتْ حَنَايا الضُّلوعِ، وَمَا اقتَصَرتْ حَوادِثُ الزَّمانِ عَلى خَرابِ الدِّيارِ دُونَ هَلاكِ السُّكانِ، بَل كَانَ هَلاكُهم أَجمعُ، كَارتِدَادِ الطَّرفِ أَو أَسَرعَ، فَاسَتَرحتُ إلى جَمعِ هَذا الكِتابِ، وَجَعلتُهُ بُكاءً للدِّيارِ والأَحبابِ، وذَلكَ لا يُفيدُ ولا يُجدي، وَلَكنَّهُ مَبلغُ جُهدي، وإلى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَشكو مَا لَقيتُ مِن زَمَاني، وانفرَادي مِن أَهلي وإخواني، وَاغترابي عَن بِلادي وَأَوطَاني، وَهَكَذا في كِتابٍ تَفوحُ مِنهُ الأشجَانُ، وتتَقاطرُ مِنهُ الدَّموعُ والأحزانُ".

 

والآنَ أَدعُوكُم إلى الرُّجوعِ إلى الأهلِ والأوطَانِ، وتَحمَدونَ اللهَ -تعالى- عَلى نِعمَةِ العَافيةِ والأَمانِ، فَإنَّ خُروجَ الإنسانِ مِن الوَطَنِ يُساوي خُروجَ الرُّوحِ مِن البَدَنِ، كَما قَالَ -سُبحَانَه-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)[النساء: 66]، ولِذَلِكَ كَانَ المُهاجِرونَ هُم أَعظَمُ النَّاسِ أجراً، والفَقراءُ مِنهُم لَهم عِندَ اللهِ قَدراً، يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا-: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ ‌بِأَرْبَعِينَ ‌خَرِيفًا"؛ وذَلكَ لأنَّهم تَرَكوا الأهلَ والأوطانَ، وخَرجوا حِفَاظاً عَلى الدِّينِ والإيمَانِ، وقُدوَتُهم في ذلكَ إمامُ الأَنبياءِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- عِندَما وَقَفَ في هِجرَتهِ عَلى الحَزْوَرَةِ، والتَفَتَ إلى مَكةَ فَقَالَ: "واللهِ إنَّكِ لَخَيرُ أَرضِ اللهِ، وَأَحبُ أَرضِ اللهِ إلى اللهِ، وَلَولا أَنِّي أُخرِجتُ مِنكِ مَا خَرجتُ"، ولا عَجَبَ فَإنَّ حَنينَ النَّفسِ إلى أَوطَانِهَا، وهَواهَا إلى بُلدَانِهَا، فَهيَ إلى مَولدِهَا مُشتَاقَةٌ، وإلى مَسقَطِ رَأسِهَا تَوَّاقَةٌ.

 

فَعِندَما سَمِعَ رَجلٌ مِنَ التَّابعينَ وَكانَ فَقِيراً، أَنَّ فَقراءَ المُهَاجرينَ يَسبِقُونَ الأغنياءَ إلى الجَنَّةِ، قَالَ لِعَبدِ اللهِ بِنِ عَمرو: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا، قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ.

 

فَسُبحَانَ اللهِ! كَم نَعيشُ اليومَ عِيشةَ المُلوكِ وَنحنُ لا نَشعُرُ، وَهلْ الدُّنيا إلا سَكنٌ وَعافيةٌ وكَفَافُ رِزقٍ، كَما قَالَ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"، يَقولُ المِنَاويُّ فِي شَرحِ الحَديثِ: "مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بِينَ عَافيةِ بَدَنِهِ، وَأَمنِ قَلبِهِ، وَكَفَافِ عَيشِهِ، بِقُوتِ يَومِهِ، وَسَلامِةِ أَهلِهِ؛ فَقَدْ جَمعَ اللهُ لَهُ جَميعَ النِّعمِ التي مَنْ مَلَكَ الدُّنيا لم يَحصِلْ عَلى غَيرِهَا"، وصَدَقَ -رَحِمَهُ اللهُ-، وانظروا إلى مَن فَقَدَ السَّكَنَ، وَهَجَرَ الوَطَنَ، فَلا طَعامَ ولا مَاءَ، ولا دِفءَ ولا غِطَاءَ، واسألوهم عَن أَقصى أَمانِيهم، فَسيَقُولونَ: نَرجِعُ إلى أوطَانِنا، ونَعيشُ بَينَ أهلِنا، ونُعطى قُوتُ يَومِنا، فَهل رَأيتُم أن أقصى أَماني البَعضِ هِي مَا يَتذَمَّرُ مِنه البَعضُ؟!.

 

أَقولُ مَا تَسمعونَ، وأَستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمُسلمينَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فاستغفروهُ إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ الذي له مَا في السَّمواتِ والأرضِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العزيزُ الوَّهابُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أفضلَ من تَابَ إلى اللهِ وأنابَ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ، وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بَعدُ:

 

أيُّها الأحبَّةُ: عِندَما التقى الأميرُ محمدٌ بنُ سعودٍ بالشَّيخِ مُحمَّدٍ بنِ عبدِ الوَهابِ -رَحِمَهما اللهُ تعالى- في الدرعيةِ في بيتِ أَحمدَ بنِ سُويلمٍ، قالَ الأميرُ للشَّيخِ: "أبشرْ ببلادٍ خيرٌ من بلادِك، وأبشرْ بالعِزِّ والمَنَعةِ"، فقالَ لَهُ الشَّيخُ: "وأنا أبشُّرُك بالعزِّ والتَّمكينِ؛ وهذه كلمةُ لا إلهَ إلا اللهُ، من تمسَّكَ بها وعَملَ بها ونصرَها؛ مَلَكَ بها البِلادَ والعِبادَ، وهي كلمةُ التَّوحيدِ، وأولُ ما دعتْ إليه الرُّسلُ من أولِهم إلى آخرِهم، وأنتَ ترى نجداً وأقطارَها أَطبقتْ على الشِّركِ والجَهلِ والفُرقةِ وقِتالِ بعضِهم لبعضٍ؛ فأرجو أن تكونَ إماماً يَجتمعُ عليه المسلمونَ وذريَّتَك من بَعدِك"، ومِن هُنا كَانَ التَّأسيسُ.

 

بِهَذا اللِّقاءِ التّاَريخيِّ قَامَتْ الدَّولةُ السُّعوديةُ تحتَ شِعارِ: "لا إلهَ إلا اللهُ، مُحمدٌ رَسولُ اللهِ"، تُطبِّقُ شَرعَ اللهِ، وتَقتفي سُنَّةَ رسولِه -صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وتَأمرُ بالمَعروفِ وتنهى عن المُنكرِ، وتَنشرُ العقيدةَ الصَّحيحةَ، وتُحاربُ البِدعَ المُحدَثةَ، فتحقَّقَ وعدُ اللهِ: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[الحج: 40، 41].

 

فَحَافِظوا عَلى هَذا الإرثِ العَظيمِ، واعلَموا أنَّ الأَمنَ جَزاءُ الإيمانِ؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82]، والزِيادةُ جَزاءُ الشُّكرانِ؛ (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم: 7]، والعَذابُ جَزاءُ الكُفرانِ؛ (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم: 7]، وسُنَنُ اللهِ لا تَتَغيَّرُ ولا تَتبَدَّلُ.

 

اللَّهُمَّ اجعل هذا البلدَ آمناً مطمئناً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ، وأصلحْ اللهمَّ أئمتَنا وولاةَ أمورِنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك واتَّبعَ رضاكَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ وفقْ وليَ أمرِنا لهُداكَ، واجعلْ عملَه في رِضاكَ، وارزقْه بطانةً صالحةً تدلُّه على الخيرِ وتحثُه عليه يا سميعَ الدُّعاءِ، اللهمَّ احفظْ بلادَ الحرمينِ من كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، واحفظْ اللهمَّ لها أمنَها وإيمانَها، وسِلمَها وإسلامَها، ورغدَ عيشِها وسِعةَ رزقِها وسائرَ بلادِ المُسلمينَ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ، اللهمَّ كُنْ لإخوانِنَا في غَزةَ وَفلسطينَ، اللهمَّ احفَظهُم مِن بَينِ أَيديهم وَمِنْ خَلفِهم، وَعن أَيمَانِهم، وَعَن شَمائلِهم، وَمنْ فَوقِهم، ونَعوذُ بِكَ أَن يُغتَالوا مِن تَحتِهم، اللهمَّ اربط عَلى قُلوبِهم وانصُرهُم نَصراً عَزيزاً، ثَبِّتْ اللهمَّ خُطوتَهم، ووحدّْ كلمتَهم، وسددْ رميتَهم، وقوِّ شوكتَهم، وأعلِ رايتَهم، وانصرْهم على عدوِّكَ وعدوِهم يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ مُنزلَ الكِتابِ وَهَازمَ الأحزابِ، وَمُنشئَ السَّحابِ، اهزمْ اليَهودَ ورُدَّهُم خَائبينَ، مَخذولينَ، اللهمَّ زَلزِلهُم واقذِفْ الرَّعبَ في قُلوبِهم، اللهمَّ استجِبْ دُعاءَنا وَفَرِّحْ قُلوبَنا بِنُصرةِ المسلمينَ يَا ربَّ العَالمينَ.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life