عناصر الخطبة
1/ الأولاد نعمة وفتنة 2/من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الصغار 3/مخاطر ترك التربية في الصغر 4/التربية تبدأ من البيت 5/كيفية التربية في الصغراقتباس
البيت هو أساس تربية الطفل وتعليمه وتقويمه، ومنه تبدأ التربية وتترسخ الأخلاق الفاضلة والمعلومات الأساسية والسلوكيات الفاضلة، وبين جدرانه ترتسم شخصية الطفل بكل أبعادها وتتوطد دعائم بنائها...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منَّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الوداد، ورغب في طرق الصلاح وحذر من طرق الفساد، أحمده -سبحانه- وأشكره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو الكريم الوهاب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، أمرنا بتربية الأولاد منذ الصغر وتعويدهم على جميل الخصال وفضائل الأخلاق، صلى الله عله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
عباد الله: من أجل النعم التي امتن الله -سبحانه وتعالى- بها على عباده نعمة الأولاد، الذين هم في أمس الحاجة إلى التربية والرعاية، والاهتمام والتوعية، وخاصة من قبل آبائهم وأهاليهم. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف : 46].
إن الأولاد نعمة إن أحسنا تربيتهم وقمنا بواجبنا تجاههم، وفي نفس الوقت نقمة علينا ووبال لنا إن لم نهتم بهم ونحسن تربيتهم، ولهذا قال الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن : 15].
ففي الآية الأولى ذكر أنهم زينة، وفي الآية الثانية يذكر أنهم فتنة، فهم زينة بتقواهم وصلاحهم وأخلاقهم، ونقمة ووبال إن كانوا من أهل الشر والفجور والمعاصي. وهذا يلفت أنظارنا إلى أمر مهم جداً يجب علينا أن نعتني به ونلتفت إليه ونهتم به، ألا وهو التعجيل في تربية هؤلاء الأطفال والعناية بتربيتهم منذ الصغر، وعدم إهمال تربيتهم أو تأخيرها حتى الكبر.
إن من الآباء من يظن أن تربية الأولاد لا تكون إلا إذا كبروا وبدأوا يفهمون الأمور ويدركون ويعقلون، وهذا مفهوم خاطئ، فإن التربية في الأصل لا تكون إلا في الصغر، أما إذا شب الولد وصار كبيراً فإنه من الصعب جداً تربيته وتقويمه. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ" [ أحمد (6756)].
انظروا كيف أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر الآباء بأمر أولادهم وهم في سن السابعة، وضربهم عليها وهم في سن العاشرة، مع أنهم في هذا السن غير مكلفين أصلاً، ولازالوا ممن لا يكتب عليهم القلم، ولم يؤمروا بالتكاليف الشرعية بعد، وما ذلك إلا ليتعودوا منذ الصغر على الصلاة، ويتربوا عليها منذ البداية.
وروى البخاري ومسلم عن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: " كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَال لِي رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ" [البخاري (5376) مسلم (2022)]. فهذا الغلام الصغير حينما رأى منه النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض الأخطاء التي تخالف آداب الأكل؛ قام بتوجيهه مباشرة وتعليمه آداب الأكل، ولم يؤخر نصحه أو يهمل تربيته بحجة أنه لايزال صغيراً.
وفي صحيح مسلم عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، يَقُولُ: "أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؟" [مسلم (1069)]. ومع أن الحسن -رضي الله عنه- حينها كان صغيراً وغير مميز، ومع ذلك قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بكفه عن أكل هذه التمرة ونهيه عن ذلك، بل وأخرجها من فيه وقال له: "كِخْ كِخْ، ارْمِ بِهَا "، وهذا كله يعلمنا أهمية التربية في الصغر وخطر تأجيل التربية وتأخيرها.
بل إن المتتبع لأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- التربوية يدرك تمام الإدراك أنه -عليه الصلاة والسلام- حريص أشد الحرص على التربية المباشرة والتوجيه الأولي، وعدم تأخير البيان عن وقته، وإلقاء النصيحة والتوجيه في أسرع وقت، ولم يكن من هديه -صلى الله عليه وسلم- ليؤخر توجيه أو معالجة خلل تربوي أو خطأ معين عن وقته إلا لسبب، كما أخر هدم الكعبة بناءها من جديد؛ خشية الافتتان بذلك للمؤلفة قلوبهم ممن أسلم حديثاً ولم يتمكن الإيمان من قلبه.
أيها الناس: لقد أمر الإسلام بالاهتمام بالتربية في الصغر منذ البداية، حينما أمر الزوج باختيار الزوجة الصالحة، والظفر بذات الدين وتقديمها على سائر النساء من ذوات المال والحسب والنسب، وما ذاك إلا لتهتم بتربية الأبناء التربية الصالحة وتكون لهم القدوة الحسنة.
أيها المسلمون: إن الذي يؤخر تربية أبنائه ولا يهتم بهم منذ صغرهم, قد ارتكب أخطاء تربوية شنيعة جداً، حيث أنه لن يستطيع فيما بعد تربيتهم والقيام عليهم والإشراف المباشر على توجيههم، لأن مرحلة الصغر ليست كمرحلة الكبر، والتربية في الصغر كالنقش في الحجر، وتليين العود الرطب والتصرف فيه ليس كتليينه إذا اشتد ونمى.
كما أن التوجيهات التي تعطى للطفل وهو صغير يهتم بها ويحرص على تطبيقها ويكون جاداً في السعي في تنفيذها أكثر مما بعد، لأنه في المراحل العمرية الأولى بأمس الحاجة إلى التوجيهات والنصائح التي يبني بها حياته، ويؤسس عليها أفكاره وتصوراته، أما إذا شب وصار كبيراً فإنه يتلقى توجيهاته من عدة مصادر وليس من الوالدين والأهل فقط.
بل ربما يرى نفسه قد صار كبيراً، وينظر إلى نفسه بأنه قد أصبح فوق النقد، وليس بحاجة إلى توجيهات أهله ووالديه، فإذا قاموا بتوجيهه ونصحه في هذا السن المتأخر تمرد عليهم، وأظهر تبرمه من نصائحهم، وهذا هو واقع الكثير من الأبناء في واقعنا اليوم, والله المستعان.
فالله الله في الاهتمام بتربية الصغر، والحذر كل الحذر من إهمال ذلك حتى الكبر فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم : 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، لا إله بحقٍّ غيرُه يُعبَد، أحمدُه -سبحانه- وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحِدُ الأحد، الفردُ الصمدُ، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه أهل الفضل والشرَف والسُّؤدَد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد:
أيها المسلمون: يجب علينا أن ندرك أهمية تربية الأولاد في الصغر، والاهتمام بهم في السن المبكر، ونستشعر أن إهمال تربيتهم في الصغر وتركهم إلى الكبر خلل تربوي عظيم له آثاره المدمرة على الطفل وعلى والديه وأهله وبيته قبل غيرهم.
بعض الآباء يهمل تربية أولاده في البداية بحجة أنه سيدخلهم المدرسة، والمدرسة هي التي ستتولى تربيتهم وتقوم بذلك، ويتكل عليها في تحقيق تربيتهم والقيام بهم، وينسى أن البيت هو أساس تربية الطفل وتعليمه وتقويمه، ومنه تبدأ التربية وتترسخ الأخلاق الفاضلة والمعلومات الأساسية والسلوكيات الفاضلة، وبين جدرانه ترتسم شخصية الطفل بكل أبعادها وتتوطد دعائم بنائها، بينما تأتي المدرسة كمكمّل لهذا البناء ومرَسِّخ له.
مَشَـى الطـاووسُ يومـاً باعْـوجاجٍ *** فـقـلدَ شكـلَ مَشيتـهِ بنـوهُ
فقـالَ: عـلامَ تختـالونَ؟ فقالـوا: *** بـدأْتَ بـه، ونحـنُ مقلـِـدوهُ
فخـالِفْ سـيركَ المعـوجَّ واعـدلْ *** فـإنـا إن عـدلـْتَ معـدلـوه
أمـَا تـدري أبـانـا كـلُّ فـرع *** يجـاري بالخـُطـى مـن أدبـوه؟!
وينشَــأُ ناشـئُ الفتيــانِ منـا *** علـى ما كـان عـوَّدَه أبـــوه
وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً جاء إليه بابنه فقال:" إن ابني هذا يعقني، فقال عمر -رضي الله عنه- للابن: أمَا تخاف الله من عقوق والدك، فإن من حق الوالد كذا، ومن حق الوالد كذا؟ فقال الابن: يا أمير المؤمنين، أمَا للابن على والده حقٌّ؟ قال: نعم، حقُّه عليه أن يستنْجب أمَّه -يعني: لا يتزوج امرأة دنيئة؛ لكي لا يكون للابن تعيير بها- قال: ويُحَسِّن اسمه، ويُعَلِّمه الكتاب، فقال الابن: فوالله ما استنجب أمي، وما هي إلا سِنْدِيَّة اشتراها بأربعمائة درهم، ولا حسَّن اسمي، سماني جُعْلاً -ذَكَر الخُفَّاش- ولا علَّمَني من كتاب الله آية واحدة، فالتفت عمر -رضي الله عنه- إلى الأب، وقال: تقول: ابني يعقني، فقد عَقَقْتَهُ قبل أن يَعُقَّكَ، قم عني"[تنبيه الغافلين (130)].
علينا أن نهتم بتربية الأولاد في الصغر على الفضائل والبعد عن الرذائل، والابتعاد عن كل خلق فاسد رذيل، فإن الأخلاق الفاضلة لا تنغرس في نفس الطفل إلا حينما يكون صغيراً، فياسعد من رباهم منذ الصغر على طيب الأخلاق وجميل الخصال، ويابؤس من أهمل تربيتهم وأخرها.
علينا أن نعلمهم في الصغر بدايات الإسلام وأحكامه البسيطة، مثل تعليم الوضوء، وسورة الفاتحة، وأركان الدين والإسلام والإيمان وغيرها.
كما أن علينا أن نحصن أولادنا منذ الصغر من الأفكار التغريبية والمذاهب المنحرفة الهدامة، قبل أن يكبروا ويختلطوا بغيرهم فيتأثروا بأفكارهم ويأخذوا من تصوراتهم ومعتقداتهم، نسأل الله الثبات.
علينا أن نربيهم في الصغر على الثبات في الوقوف أمام الشهوات وتحدي المغريات، وعدم الوقوع في بحار الرذائل والمستنقعات، فإننا في زمن طم فيه الفساد وانتشر فيه الشر، وإن لم نربي أولادنا منذ الصغر عن البعد من الشهوات فإنهم سيتيهون ويضيعون، إن لم يتغمدهم الله برحمته.
هذه إشارات سريعة وكلمات هادفة أرجو أن تكون قد أدت الغرض، وحققت الهدف في الانتباه لهذا الموضوع المهم، والقيام بالاهتمام بتربية الأولاد والاهتمام بهم في الصغر، وعدم تركهم واهمال تربيتهم حتى الكبر.
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على خير مربي وأعظم قائد، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ , وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ , كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللهم أعنا على تربية أولادنا وطلابنا في الصغر، وجنبنا وإياهم كل شر، ووفقنا وإياهم لما تحب من الهدى والخير.
التعليقات