عناصر الخطبة
1/ أثر اللسان على المجتمع 2/ مراعاة استقامة اللسان بعد استقامة القلب 3/ أثر استقامة اللسان وفساده على الجوارح 4/ كثرة الذنوب المقترفة باللسان وبعض صور ذلك 5/ من عجائب اللسان وآثاره على صاحبه 6/ أقسام الناس في التعامل مع اللسان 7/ فضل حفظ اللسان عما يغضب اللهاهداف الخطبة
اقتباس
عجيب أمر هذا اللسان! ليس له عظام، فعجباً كيف يُكسر به القلوب! وعجباً كيف يُجبر به القلوب! وعجباً كيف تُقتل به القلوب! وعجباً كيف ينير الله به الدروب! فبلسانك ترتقي، وبلسانك تنخفض. بلسانك تُزفُّ إلى الجنة، وبلسانك تُطرح في النار. بلسانك تُحترم، وبلسانك لا تُحترم. بلسانك...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ...
أما بعد:
أيها المسلمون: إن صلاح أحوال المسلم في الدنيا لا تكون إلا بصلاح الأقوال والأعمال، ولا تستقيم الأعمال من غير صلاح اللسان.
ولقد علّق سبحانه صلاح الأعمال ومغفرة الذنوب على إتيان المسلم بتقوى الله مع القول السديد، فقال تعالى: (وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
وفساد استقامة اللسان لا يقتصر أثرها على النفس، يزكيها أو يدسيها، بل يتجاوزها إلى المجتمع، فالكلمة تُلقى إما أن تُلهِب نيرانًا، أو تلقي سلامًا، وإما أن ترفع قائلها، وإما أن تخفضه، وقد تكون في ذاتها حقًا ولكن يفهم الناس منها الباطل، وإذا كانت كلمة الحق أحيانًا يراد بها الباطل، ومن هنا وجب على الذين يتكلمون ولا سيما الذين يتصدرون لتوجيه الناس أن يُقدّروا مواقع كلامهم، ومقدار فهم الناس له، فالإخلاص في القول وصدقه لا يكفيان لإثبات حسنه، بل لا بد مع ذلك من أن يكون وقعه في نفوس سامعيه لا يؤدي إلا إلى خير، ورُبَّ كلمة صِدْق وحق أثمرت باطلاً، أليس سب آلهة المشركين من الخير والصدق والحق؟ ومع هذا نهى الله عنه؛ لأن عاقبته إلى مفسدة أعظم، فقال سبحانه: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم) [الأنعام: 108].
وإنه ليجب على المؤمن أن يعلم أن أشد ما يرديه ويردي المجمتع، ويُعقب البوائق لنفسه وللناس هو لسانه إن انحرف عن القصد وسلك غير الصراط المستقيم، فهو إما لسان صدق لا يُنتج إلا خيرًا، وإما أن تسوء به العقبى، ولهذا كان أعظمُ ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح: اللسان، فإنه ترجمان القلب والمعبِّر عما فيه، فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" [رواه أحمد].
والمراد باستقامة إيمانه: استقامةُ أعمال جوارحه، فإنَّ أعمالَ الجوارحِ لا تستقيمُ إلا باستقامة القلب.
فإذا اعوجَّ اللسان ولم يستقم، أَثَّرَ ذلك في استقامة القلب، ثم يظهر الأثر على سائر الجوارح، فلا توفَّق للطاعة إلا قليلاً، وتتلبس بالمعاصي فيهلك صاحبها -والعياذ بالله-.
ولهذا فإن الأعضاء تخشى غائلة اللسان وتشفق من فساده، وتُذكِّره صباح كل يوم بتقوى الله -عز وجل- وما يجب عليه من الاستقامة، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَفَعَهُ قَالَ: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا" [رواه أحمد والترمذي].
ومعنى: "تُكفّر اللسان" أي: تذل وتخضع.
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده *** فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ
فمن استقام لسانه، استقامت جوارحه وحصدت له الخيرات وملك أمره، وهذا ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لماّ سأله معاذ عن عمل يُدخله الجنة ويباعده عن النار، فذكر له صلى الله عليه وسلم جملة من أعمال الخير، ثم أخبره برأس الأمر وهو: الإسلام، وعموده وهو: الصلاة، وذروة سنامه وهو: الجهاد، ثم بين له صلى الله عليه وسلم ما يحفظ عليه أعمال الخير التي ذكَرها له ويوفقه إلى ما لم يذكره من الأعمال الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَلا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" [رواه أحمد].
قال ابن رجب -رحمه الله-: "هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه، وأنَّ من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه".
أيها المسلمون: اللسان فاكهة الإنسان، وإذا تعوَّد اللسان صعب عليه الصبر عنها فبعُد عليه النجاة منها، ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع عن أمور كثيرة، ولسانه يفري في الأعراض غيبة ونميمة وتنقيصًا وإزراءً ويرمي الأفاضل بالجهل ويتفكه بأعراضهم ويقول عليهم ما لا يعلم.
وإذا كان أكثر خطايا بني آدم إنما هي في اللسان، فواجب على المؤمن الذي يخاف على نفسه أن يتقي لسانه ويتعرف على سبيل استقامته وعلى آفاته حتى ينجو منها، فإنَّ كثرة الخطايا من ضعف الإيمان ورقة الدين، وهذا كله قدح في الاستقامة وتنكُّبٌ عن الصراط المستقيم. عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ -رَضِي الله عَنْهُ- أَنَّهُ لَبَّى عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ قَالَ: يَا لِسَانُ! قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، وَاصْمُتْ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ. قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ أَوْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: لا، بَلْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "إِنَّ أَكْبَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ" [رواه الطبراني بسند صحيح].
ولا شك أن حفظ اللسان والتوقي من شره من أسباب دخول الجنة، فعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ! ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تُخْبِرْنَا مَا هُمَا، ثُمَّ قَالَ: "اثْنَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ" حَتَّى إِذَا كَانَتْ الثَّالِثَةُ أَجْلَسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: تَرَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُرِيدُ يُبَشِّرُنَا فَتَمْنَعُهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ، فَقَال: "ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ" [رواه أحمد]. وما بين اللَّحْيَيْنِ: الْفَمُ، وما بين الرجلين: الفرج.
ومن الفم مَا يَتَوَلَّدُ من اللسان، وهو كلمة الكفر، وقذف المحصنات، وأخْذُ أعراض المسلمين.
ومن الفم أيضًا: شُرْب الخمر، وأَكْل الربا، وأَكْل مال اليتيم ظلمًا.
ومن الفرج: الزنا، واللواط.
ومن اتقى ما يأتي من اللسان والفرج فأحرى أن يتقي القتل -والله أعلم-.
ولا نجاة للعبد من عذاب الله إلا باستقامته على الهدى الذي جاء به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، ولا استقامة للعبد إلا بحفظ لسانه، ولكي تعلم أثر اللسان في هذه النجاة ودوره فيها، فانظر: على أي شيء علَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- النجاة لَمَّا سئل عنها، تجد أولُ شيء: حفظ اللسان، وإمساكُه عما لا يعني، فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" [رواه الترمذي].
وقلما تجد حديثًا يتعلق بالنجاة أو الخسران يوم القيامة إلا وفيه ذكر للسان أو أفعاله وما يترتب عليها، والأحاديث كثيرة في هذا المعنى، ومن أشهرها حديث المفلس، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
فبدأ صلى الله عليه وسلم بآفات اللسان في بيان ما هدم الأعمال الصالحة وأضاع الصلاة والزكاة، وغيرها من أعمال البر، وجعل كثيرًا من تعب صاحبها في الدنيا هباءً منثورًا يوم الحساب، فقال: "وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا" فنسأل الله العافية.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد:
أيها المسلمون: اللسان لا يَكلّ ولا يَملّ، وفي أثناء هذا يحصد الخيرات أو يجلب على صاحبه النقمة والحسرات، ولا يتحرك في الإنسان عضو كحركة اللسان، قال ابن القيم -رحمه الله-: "حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها، ولو تحرك عضو من الإنسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة، بل لا يمكنه ذلك".
وقال في موضع آخر: "حركة اللسان بالكلام أعظم حركات الجوارح وأشدها تأثيرًا في الخير والشر والصلاح والفساد، بل عامة ما يترتب في الوجود من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان".
وفي اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام وآفة السكوت.
وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها، فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله.
وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، فهم بين هذين النوعين، وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم كفُّوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة، فلا يُرى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها كلها من كثرة ذكر الله -عز وجل- وما اتصل به.
ويكمن جانب كبير من خطورة عدم تعاهد اللسان والتفقه في استقامته في أن الخسارة بسببه قد تكون مُردية، وقد لا تترتب على كلام كثير، بل على كلمة ممن لا يَعُدُّ كلامه من عمله، ولا يحاسب نفسه، ولا يتفكر فيما يقول، فيهوي صاحب هذه الكلمة في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، وعلى العكس قد يرتفع العبد عند الله وتعلو منـزلته بكلمة موفقة، يَرضى الله عنه بها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" [رواه البخاري].
وفي رواية: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ يَنْزِلُ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
كلمة واحدة لَا يَتَدَبَّرهَا ولا َيُفَكِّر فِي قُبْحهَا، وَلَا يَخَاف مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
وقد تجد هؤلاء يتورعون عن كثير من المحرمات الظاهرة، ولكن محرمات اللسان سهلة عليهم، حبيبة لقلوبهم، وهذا ما أثار عجب الإمام ابن القيم -رحمه الله- فقال: "ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى يُرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً ينـزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول!" انتهى.
وهذا ولا شك من قلة الورع أو ضعفه، ولما ضعف الورع، انفلت زمام اللسان، فتكلم من يعلم ومن لا يعلم، وتكلم الكثيرون بالظنّ، ونقَّبوا عن قلوب الفضلاء، وسولت لهم أنفسهم المريضة ما يشتهون، فقالوا وقالوا، وظنوا أن بنيانهم المتداعي سيقوم على أنقاض المخلصين الثابتين على الحق، ولكنها السُّنن، وسيرى المفترون سوء أعمالهم، وتَهدُّم بنيانهم، قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "اللسان قِوام البدن، فإذا استقام اللسان استقامت الجوارح، وإذا اضطرب اللسان لم يقم له جارحة".
عجيب أمر هذا اللسان! ليس له عظام، فعجباً كيف يُكسر به القلوب! وعجباً كيف يُجبر به القلوب! وعجباً كيف تُقتل به القلوب! وعجباً كيف ينير الله به الدروب!
فبلسانك ترتقي، وبلسانك تنخفض.
بلسانك تُزفُّ إلى الجنة، وبلسانك تُطرح في النار.
بلسانك تُحترم، وبلسانك لا تُحترم.
بلسانك ترتفع عند الله بحسن خلقك، وبلسانك تكون محبوباً عند الناس.
بلسانك تنحرح، وبلسانك تجرحُ غيرك.
أيها المسلمون: ظهر جليًا من خلال ما تقدم من أحاديث وآثار مدى التلازم بين استقامة اللسان واستقامة سائر الجوارح، وإذا كان العبد على يقين من سؤال الله له وحسابُه على أقواله وأفعاله وأعضائه؛ كما قال عز وجل: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36].
فجدير به إذا كان يريد لنفسه النجاة أن يتفكر في مدى استقامة لسانه، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها حتى تستقيم، وأن يتفكر في أعماله وأقواله قبل الإقدام عليها.
فرحم الله عبدًا كابد نفسه وجاهدها حتى تستقيم له، فتثمر له جوارحه الخيرات، وتنشغل بالطاعات، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ".
قال الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه: فإن ظهرت المصلحةُ تكلَّم، وإن شكَّ لم يتكلم حتى تظهر".
فلنتفكر في كلامنا ولنقدم لأنفسنا ولنحاسبها ولْنُلزِمها كتاب الله وسنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولننهى أنفسنا عن هواها.
جعلنا الله وإياكم ممن قال الله فيهم: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى، فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى) [النازعات: 40 - 41].
اللهم...
التعليقات