عناصر الخطبة
1/خطورة فتن الشهوات والشبهات 2/العناية بالقلب وحمايته من الفتن 3/خطورة الذنوب والمعاصي 4/علامات القلب الأسود المنكوس الزائغ 5/ صفات القلب السليم وعلاماته.اقتباس
مشكلة القلب المنكوس أنه يرى الباطل حقاً والحق باطلاً، والمنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويرى الفساد إصلاحاً والإصلاح فساداً؛ فهو عدوّ لأهل الحق والمعروف والصلاح مُبغِض لهم، ومُحِبّ لأهل الباطل والمنكر والفساد، والعياذ بالله من ذلك...
الخطبةُ الأولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
إخوة الإيمان: ماذا لو مر الوحد منا برجل معه قارورة فارغة ونكسها على رأسها، ثم جعل يَصُبّ عليها الماء من قربة كبيرة، والماء يفيض على تلك القارورة، فقال له: إن رأس القارورة إلى أسفل، ولن يدخل فيها شيء من الماء. فردَّ عليك: بل سيدخل فيها، بماذا سنحكم على هذا الرجل؟!
هذا مَثَل ضربه النبي -صلى الله عليه وسلم- للقلب حين تَرِدُ عليه فتن الشهوات والشبهات؛ فعن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"(رواه مسلم).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستعتب صُقِلَ قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه؛ فذلك الران الذي قال تعالى: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[المطففين: 14]"(رواه الترمذي والنسائي وحسنه الألباني).
عباد الله: في الحديثين السابقين دروس وعِبَر، منها:
أولاً: أهمية العناية بالقلب وحمايته من فتن الشبهات والشهوات؛ فإن في ذلك صلاحه وسلامته، وسعادة العبد ونجاته في الدارين؛ كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ"(رواه البخاري).
ثانياً: خطورة الفتن والذنوب والمعاصي، والحذر من معاصي السمع والبصر واللسان وسائر الجوارح؛ فإن تواردها على القلب يُفْضِي به إلى العطب والفساد؛ فيصبح قلباً زائغاً أسود منكوساً، عياذاً بالله من ذلك.
ثالثاً: إن الفرار من فتن الشهوات والشبهات والحذر من الذنوب والمعاصي وإنكارها، وحماية القلب من جنايات الجوارح، والتوبة والإقلاع عنها إذا وقع فيها؛ تُورث العبد قلباً سليماً صافياً أبيض كالصفاة فيسلم صاحبه من الفتنة وينجو في الدنيا والآخرة. اللهم ارزقنا قلباً أبيض صافياً سليماً؛ ننجو به من الفتن يا حي يا قيوم.
رابعاً: إن القلب الأسود المنكوس الزائغ لصاحبه صفات وعلامات منها:
إن صاحب القلب المنكوس "لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"؛ مشكلة القلب المنكوس أنه يرى الباطل حقاً والحق باطلاً، والمنكر معروفاً، والمعروف منكراً، ويرى الفساد إصلاحاً والإصلاح فساداً؛ فهو عدوّ لأهل الحق والمعروف والصلاح مُبغِض لهم، ومُحِبّ لأهل الباطل والمنكر والفساد، والعياذ بالله من ذلك.
فأصحاب القلوب المنكوسة التي علاها الران وغطاها لا تبصر الحق والخير ولا المعروف ولا تهتدي بالهدى؛ فالران الذي غطى قلوبهم جعل بينها وبين الهدى حجاباً سميكاً، إلا مَن صدق في توبته إلى الله -عز وجل-. اللهم يا مُقلِّب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك.
إن صاحب القلب المنكوس فريسة لكل فتنة، لا يتورع عن مشاهد وسماع ما حرَّم الله -عز وجل-، بل من كثرت ترددها على سمعه وبصره، أصبحت كأنها حلال، فهو لا يتورع عن النظر إلى أجساد النساء ومفاتنهن عبر الشاشة وبرامج التواصل الاجتماعي، بل قد يصل الأمر إلى إدمان مشاهد الفحش والفساد دون أن يشعر بالذنب أو أن يفكر في التوبة إلى الله، وهو لا يتورع عن الغيبة والنميمة والوقوع في أعراض المسلمين، كأن ذلك حلال مباح، وهذا لأن قلبه منكوس انقلبت عنها الموازين.
عباد الله: ومن صفات صاحب القلب المنكوس أن قلبه أُشْرِبَ الفساد ورتع فيه، فإذا عاش في المجتمعات النقية أبغض تلك المجتمعات، واجتهد في جرّها إلى الفساد والزيغ؛ قال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27]، وهم بذلك يجرّون المجتمع إلى الضياع والهلاك والدمار.
ومن صفات صاحب القلب المنكوس: اتباع الهوى، تأمل قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"؛ واتباع الهوى يُفْضِي بصاحبه إلى الخسارة والخلان في الدنيا والآخرة، والنجاة كل النجاة في نهي النفس عن الهوى؛ (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: ٤٠ - ٤١].
من صفات صاحب القلب المنكوس: الإعراض عن ذِكْر الله -عز وجل-؛ فهو بعيد عن القرآن والذكر وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيره (وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)[الزمر: 45]، تمر عليه الأيام تلو الأيام لا يُقبل على كتاب ولا يلهج لسانه بذِكْر الله -عز وجل-.
ربنا اصرف عنا السوء والفحشاء، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: عباد الله: ومن الدروس والعِبَر في الحديثين:
خامساً: أن العبد الذي يحمي نفسه من الفتن وتوارد الذنوب والمعاصي، وإذا وقع بادر بالندم والتوبة والإنابة إلى الله يرزقه الله قلباً أبيض سليماً؛ "مِثْل الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ"؛ جعلني الله وإياكم من أصحاب ذلك القلب.
عباد الله: ولصاحب القلب السليم صفات وعلامات منها:
فمن صفات صاحب القلب الأبيض السليم أنه يحب القرآن والسنة، ويتلذذ بهما، وينقاد لهما، ويطمئن بهما؛ قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد: 28]؛ فله وِرْد يومي من القرآن والذكر يستنير به قلبه وتسعد به حياته.
ومن صفات صاحب القلب السليم: محبة العلماء وأهل الخير والصلاح؛ فهم يلهجون بـ(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)[النمل: 19]؛ ويلهجون بـ(وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)[آل عمران: 193]؛ حاله حال ذلك الرجل الذي قال لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ: "المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ"(رواه البخاري).
ومن صفات صاحب القلب السليم: سلامته من الرياء والغل والحسد والشحناء والبغضاء وسوء الظن؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ"، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ"(رواه ابن ماجه وصححه الألباني).
ومن صفات صاحب القلب السليم: الخوف على قلوبهم من الزيغ والانحراف؛ فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء"(رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني).
اللهم ارزقنا قلوبًا سليمة، اللهم طهِّر قلوبنا من الرياء والغل والحسد والشحناء والبغضاء وسوء الظن.
اللهم ارزقنا قلوباً بيضاءً صافية مخمومة ننجو به من الفتن يا حي يا قيوم.
اللهم يا مقلب القلوب ثَبِّت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك.
التعليقات