عناصر الخطبة
1/ الفرق بين الشفاعة والرشوة 2/ الشفاعة حكمها وفضلها 3/ حرمان بعض أصحاب الجاه من الشفاعةاقتباس
فالفرق كبير بين الرشوة والواسطة من جهة الحكم نفسه، فالرشوة محرمة من حيث أصلها، ولا يجوز استخدامها إلا للمضطر الذي لن يتوصل إلى حقه إلا عبرها، أما الواسطة فإن حكمها يختلف باختلافها، وليست محرمة في الأصل مثل الرشوة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي منّ علينا بالأموال وجعلها قياما للناس في مصالح الدنيا والدين، ونظّم لنا اكتسابها وتصريفها والتصرف فيها تنظيماً عادلاً مستقيماً لا يضاهيه شيء من النظم والقوانين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى على جميع الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: كلنا يعلم حرمة الرشوة، ويسمع الأحاديث الكثيرة في التحذير منها والنهي عنها، ونريد اليوم أن نتحدث عن الفرق بين الشفاعة والرشوة.
فالرشوة كما تعرفون: هي بذل المال الذي يتوصل به الإنسان إلى أخذ ما ليس له. والشفاعة هي: التوسط لإنسان عند آخر لتقديم خدمة. وهناك فرق كبير بين أن يستخدم الإنسان الرشوة فيكون راشياً أو مرتشياً، وبين استخدام الواسطة لتحقيق منفعة أو مصلحة شرعية أو دنيوية.
إن الفرق بينهما يكمن في أن الرشوة محرمة ومنهي عنها، ولا يجوز التعامل بها في معظم الأحوال، وتعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشي، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ" [أحمد (6532 )]. وعنه -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ" [المعجم الأوسط للطبراني (2026)].
هذا هو حكم الرشوة التحريم والنهي إلا في حالة واحدة فقط أجازها العلماء، وهي حالة ما إذا لم يتمكن الإنسان من الوصول إلى حقه إلا بها، وتكون حينئذ حراما على الآخذ دون المعطي.
أما حكم استخدام الشفاعة فإنه يختلف باختلاف الشفاعة نفسها، فهناك شفاعة حسنة يجوز استخدامها وهي الشفاعة التي تعين على الخير، أو توصل إلى تحصيل المباح، وهناك شفاعة سيئة لا تجوز، وهي التي تعين على الشر، أو تكون وسيلة للظلم والتعدي على الآخرين وأخذ حقوقهم ونهبها بغير حق.
إذاً فالفرق كبير بين الرشوة والواسطة من جهة الحكم نفسه، فالرشوة محرمة من حيث أصلها، ولا يجوز استخدامها إلا للمضطر الذي لن يتوصل إلى حقه إلا عبرها، أما الواسطة فإن حكمها يختلف باختلافها، وليست محرمة في الأصل مثل الرشوة.
عباد الله: يقول الله -سبحانه وتعالى- مبيناً جواز الشفاعة الحسنة: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) [النساء : 85]. أي من يعين أخاه على أمر من الأمور، أو يعاونه على فعل شيء من الأشياء المباحة، أو يناصر غيره ويقوم معه في حاجته، كان له حظ ونصيب من الثواب والكرامة بحسب سعيه وعمله ونفعه، ولا ينقص من أجر الأصيل والمباشر شيء، ومَنْ عاون غيره على أمر من الشر كان عليه كفل من الإثم بحسب ما قام به وعاون عليه.
ففي هذا حث عظيم على التعاون على البر والخير، وزجر واضح عن التعاون على الإثم والعدوان، وقرر ذلك بقوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) أي: شاهدًا حفيظًا حسيبًا على هذه الأعمال، فيجازي كل واحد ما يستحقه.
وروى النسائي في السنن عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي الشَّيْءَ فَأَمْنَعُهُ حَتَّى تَشْفَعُوا فِيهِ فَتُؤْجَرُوا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا" [النسائي (2556)]. وفي البخاري عن أَبي بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيهِ، -رضي الله عنه- قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ، أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا شَاءَ" [البخاري (1432)].
ففي هذين الحديثين حث واضح من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته على التوسل للآخرين والشفاعة لهم في قضاء حوائجهم، وتلبية طلباتهم، وتحقيق سؤالهم ومرادهم. ومادام أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحث أصحابه على الشفاعة فهذا دليل واضح على جوازها وإباحة استخدامها، بل كما سمعتم كان السائل يأتي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأله شيئاً، أو يطلب منه حاجة، فيأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يتوسطوا له، فمن كان يعرفه حق المعرفة فليزكيه ويؤكد للنبي -صلى الله عليه وسلم– حاجته، ومن يستطيع أن ينفعه بشيء يعين على تلبية طلبه وتحقيق سؤاله فليفعل، وله على ذلك عظيم الأجر وجزيل الثواب مطلقا، سواء قضيت حاجته أو لا.
يقول الإمام ابن حجر -رحمه الله- في شرح الحديث: "وفي الحديث حض على الخير بالفعل وبالتسبب إليه بكل وجه، والشفاعة إلى الكبير في كشف كربة ومعونة ضعيف، إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس ولا التمكن منه ليلج عليه أو يوضح له مراده ليعرف حاله على وجهه، وإلا فقد كان -صلى الله عليه وسلم- لا يحتجب" [فتح الباري ( 56)].
أيها الإخوة: من استطاع منكم أن ينفع أخاه بشيء فلينفعه، أو يتوسط له في منفعة عند أحد دون الإضرار بالآخرين فليفعل، ومن يقدر على تقديم أي خدمة لإخوانه فليقدمها، فإن نبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول كما في صحيح مسلم: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ" [ مسلم (2199)]. والله - سبحانه وتعالى - يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة : 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي جعل المال عماد الحياة، وأعان به الإنسان على دينه ودنياه، وحذرنا من التبذير والرشوة ، وصرفِ المال في غير ما يحب ربنا ويرضاه، ونهى عبده عن الطغيان إن هو أغناه، فله الحمد على ما أعطاه، وله الشكر على ما أولاه ، ونسأله المزيد من نعمه وفضله. ونشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: ومن الفروقات الواضحة بين الشفاعة والرشوة: إن الشفاعة أو الوساطة غالباً ما تتبعها الرشوة، فكثير من الناس يتوسط لشخص معين ولكنها واسطة ليست لله وإنما من أجل أن يرشيه ويعطيه، فإن لم يعطه شيئاً ولم يعده بشيء لم ولن يتوسط له.
إذاً فالواسطة أصبحت اليوم عند كثير من الناس هي المدخل للرشوة، لأن الناس اليوم -إلا من رحم الله- لم يعد أحد منهم يخدم إخوانه وينفعهم أو يتوسط لهم يريد بذلك ثواب الله وجزاءه، وإنما ينتظر الجزاء والأجر من الناس أنفسهم.
كما إن من الفروق البينّة بين الواسطة والرشوة: إن الرشوة تكون عن طريق المال أو غيره من أمتعة الدنيا الزائلة، والواسطة لا تكون عبر المال وإنما تكون عن طريق الرجال. وهذا الفرق ينبغي أن يعرفنا بقدر أنفسنا وحقيقة ذواتنا، فلا نغتر بأنفسنا، ولا نعجب بأموالنا، وإنما يجب علينا أن نسخر أنفسنا، وأموالنا، وجاهنا، وإمكانياتنا، وطاقاتنا، وكل ما نملك، لخدمة إخواننا وجلب الخير والنفع لهم، فالله -سبحانه وتعالى- سخر بعضنا لخدمة بعض فقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف : 32].
عباد الله: إن بعض الناس يضعه الله -سبحانه وتعالى- في مواضع حساسة، أو يسخر له من الإمكانيات والقدرات ما يستطيع به من خدمة إخوانه ونفعهم ولكنه لا يفعل، وإن فعل؛ فعل ذلك برفعة وتكبر وعُجب بالنفس والمال، وهذا والله هو الحرمان العظيم. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [التوبة : 55].
إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يريد منا أن نكون إخوة متعاونين متكاتفين، يعين بعضنا بعضاً، ويخدم بعضنا بعضا، فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" [مسلم (2699)].
صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال عز من قائل كريم: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعنا على خدمة إخواننا المسلمين ويسر لنا نفعهم، واجعلنا لهم وسائط خير ورحمة، وجنبنا الحرام والرشوة.
التعليقات